في تطور لافت منذ اندلاع الحرب، أعلن الجيش السوداني، أمس، عن تحقيق إنجاز جديد في عملياته العسكرية، تمثل في فك الحصار الذي تفرضه قوات "الدعم السريع" على مقر القيادة العامة للجيش في وسط العاصمة الخرطوم. وأكد الجيش اكتمال المرحلة الثانية من عملياته العسكرية، بعد التقاء قوات محور مدينة بحري مع القوات المرابطة في مقر القيادة العامة. هذه الخطوة جاءت بعد نجاح الجيش أيضاً في فك الحصار عن مقر "سلاح الإشارة" في بحري.
ماذا يحدث في السودان؟
في بيان، أعلن الجيش السوداني أن قواته أكملت المرحلة الثانية من خطته العملياتية، وأعرب الجيش عن تهانيه لقواته في جميع محاور القتال على هذا القتال. كما أشار البيان إلى أن هذا الانتصار العسكري تزامن مع صد هجوم "ميليشيا آل دقلو الإرهابية" على مدينة الفاشر صباح الجمعة، واعتبر التحام القوات نجاحاً استراتيجياً عزز الربط العسكري بين مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم، أم درمان، والخرطوم بحري.
في المقابل، نفت قوات الدعم السريع -في بيان- تحقيق الجيش أي تقدم، واصفة المعلومات بأنها مجرد "رفع للروح المعنوية" لعناصره، في حين نقلت المنصات الموالية للجيش مقاطع مصورة لجنود الجيش وهم يحتفلون في مقر "سلاح الإشارة" بفك الحصار المفروض عليهم لقرابة العامين.
لماذا هذا مهم؟
تتألف العاصمة السودانية الخرطوم من ثلاث مدن رئيسية هي الخرطوم وأم درمان وبحري، ويفصل بينها نهر النيل ويُشار إليها مجتمعة باسم العاصمة المثلثة. منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان 2023، فرضت قوات "الدعم السريع" حصاراً على عدد من المواقع العسكرية الاستراتيجية، أبرزها "سلاح الإشارة" شمال الخرطوم و"القيادة العامة للقوات المسلحة" في جنوب العاصمة.
لكن رغم سيطرة قوات الدعم السريع على معظم أنحاء العاصمة الخرطوم، لم تتمكن من فرض سيطرتها الكاملة على مواقع عسكرية بارزة مثل مقر القيادة العامة، وقيادة سلاح المدرعات، وسلاح الإشارة، وسلاح المهندسين، ومنطقة كرري العسكرية في أم درمان، بالإضافة إلى مواقع عسكرية متفرقة أخرى. على الرغم من محاولات عديدة للاستيلاء على هذه المواقع، إلا أنها اقتصرت على فرض الحصار، مما جعلها بمثابة جزر معزولة طوال الحرب.
بحسب بيان الجيش، تمكنت قواته مؤخراً من كسر حصار "معسكر سلاح الإشارة"، الذي يُعد أحد أكبر المنشآت العسكرية في الخرطوم بحري. وتلا ذلك عبور القوات نهر النيل للالتحام مع قوات الجيش في وسط الخرطوم التي كانت تحت الحصار أيضاً.
فبحسب تقارير، بدأت أولى عمليات الربط بين معسكرات الجيش في فبراير/شباط الماضي، عندما وصلت قوات الجيش من منطقة كرري العسكرية إلى "سلاح المهندسين" جنوب شرقي أم درمان. في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، شن الجيش معارك لاستعادة السيطرة على مدينة بحري، حيث عبرت قواته جسر الحلفايا الذي يربط شمال مدينة بحري بشمال مدينة أم درمان. وخلال هذه العمليات، تمكن الجيش من استعادة مناطق عدة كانت تحت سيطرة "قوات الدعم السريع"، بما في ذلك منطقة الحلفايا، وتقدّم باتجاه مركز مدينة بحري، وصولاً إلى مقر قيادة "سلاح الإشارة" المحاصرة.
تغير موازين الحرب في السودان لصالح الجيش
مع بدء الجيش السوداني في هجوم واسع لاستعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم، معتمداً على التقدم عبر الجسور التي تربط بين أم درمان وخرطوم بحري والخرطوم، تحت غطاء مكثف من الطيران الحربي والمُسيرات، تمكن بالفعل من بسط سيطرته على مناطق بوسط الخرطوم، مما مثّل تحولاً استراتيجياً في سير المعارك المستمرة منذ أبريل/نيسان 2023 وفقاً للمحللين.
فوفقاً لموقع "أسباب"، يمثل هذا الهجوم تحولاً مهماً في الحرب التي اندلعت قبل أكثر من عام ونصف، حيث كان الجيش في السابق يدافع عن معاقله ومناطق نفوذه في مواجهة الهجمات المتكررة لقوات الدعم السريع، التي كانت تسعى لتوسيع نطاق سيطرتها. ومع بداية هذا العام، تمكن الجيش من تحقيق انتصارات ملحوظة، أبرزها استعادة السيطرة على مدينة ود مدني.
ففي تطور مفصلي، أعلن الجيش السوداني يوم السبت، 11 يناير/كانون الثاني 2025، استعادة السيطرة على مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع منذ ديسمبر/كانون الأول 2023. تُعد ود مدني ثاني أكبر المدن السودانية من حيث الكثافة السكانية، وأقرب المدن إلى الخرطوم، وتربط بين أربع ولايات رئيسية هي الخرطوم، القضارف، سنار، والنيل الأبيض.
والسيطرة على هذه المدينة تُشكل حاجزاً استراتيجياً أمام محاولات قوات الدعم السريع للتوسع نحو الشرق.
فمع استعادة الجيش لمدينة ود مدني، تغيرت خريطة السيطرة الميدانية في السودان. بات الجيش يسيطر على ولايات تشمل:
- الجزيرة
- البحر الأحمر
- كسلا
- القضارف
- الشمالية
- سنار
في المقابل، تسيطر قوات الدعم السريع على معظم ولايات إقليم دارفور، باستثناء ولاية شمال دارفور. أما الخرطوم، النيل الأبيض، كردفان، شمال دارفور، نهر النيل، والنيل الأزرق، فتتقاسم السيطرة عليها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
وفقاً لمصادر عسكرية من الجيش السوداني تحدثت لعربي بوست، تعد السيطرة على ود مدني خطوة حاسمة في جهود الجيش لاستعادة السيطرة على كافة المدن السودانية، إذ قالت: "تحرير المدينة يُعد خطوة مهمة لتحرير كافة مدن البلاد من قبضة الميليشيا المتمردة، بما في ذلك مدن ومناطق إقليم دارفور غربي البلاد"، على حد قولها.
وقد أشارت إلى أن قوات الدعم السريع كانت تعتمد على مدينة ود مدني كمخازن للسلاح والعتاد، وأن خسارتها تعني خسارة استراتيجية لهذه القوات.
في تطور لافت حينها، أغلق نائب قائد الجيش السوداني، الفريق أول شمس الدين كباشي، باب التفاوض مع قوات الدعم السريع، مشيراً إلى أن الجيش سيتجه من ود مدني إلى الخرطوم.
وأشار الكباشي إلى أن قوات الدعم السريع انسحبت شمالاً باتجاه الخرطوم، حيث من المتوقع أن تكون الساحة المقبلة لمعارك كبرى. وأوضح أن الجيش يحقق تقدماً استراتيجياً في شمال الخرطوم، بما في ذلك السيطرة على سلسلة جبال البكاش، المحيطة بمصفاة الجيلي.
وقد لفت الخبير العسكري الاستراتيجي السوداني اللواء أمين إسماعيل مجذوب، في حديث سابق لـ"عربي بوست"، إلى أن "استعادة الجيش السوداني السيطرة على ود مدني تغير ميزان القوى والوضع العسكري للحرب، لما لها من أهمية ومكانة استراتيجية".
وقد أوضح أن ذلك نتيجة "قطع خطوط الإمداد عن قوات الدعم السريع واختفاء القيادة المركزية لها، إذ إنها فقدت أغلبية القيادات المؤثرة، وأصبحت كل مجموعة تتحرك من تلقاء نفسها".
كيف حدث هذا التحول؟
بحسب تحليل لموقع "أسباب" لدراسات الجيوسياسية، يُعزى التحول الأخير في ميزان القوى لصالح الجيش السوداني إلى عوامل عدة، أبرزها تحسن كفاءة العتاد العسكري الذي حصل عليه الجيش من الخارج، وأثره في توجيه دفة المعركة. هذا العتاد الحديث مكّن الجيش من شن هجوم واسع النطاق يهدف إلى الضغط على قوات الدعم السريع لإجبارها على الانسحاب من العاصمة الخرطوم. ووفقاً للتحليل، فإن السيناريو الأمثل الذي يسعى الجيش لتحقيقه يتمثل في تحويل ساحات الاشتباك إلى إقليم دارفور، الذي تسيطر قوات الدعم السريع على معظم مناطقه، مع ضمان عزلها في الخرطوم عبر قطع الإمدادات اللوجستية بشكل كامل.
ومنذ بداية عام 2024، عزز الجيش السوداني علاقته مع روسيا والصين وتركيا وإيران، بعدما تجاهلته القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وعلى مدار عام ونصف من الحرب، لم تنجح المقاربة الأمريكية في ضبط الصراع أو حله، بالرغم من حرص عبد الفتاح البرهان على تجنب معاداة الولايات المتحدة والأوروبيين. ولكن سقوط الولايات تباعاً بيد قوات الدعم السريع، خاصة ولايتي الجزيرة وسنار، دفع الجيش لاتخاذ خطوات جريئة في التسليح وإعادة بناء شبكة حلفاء خارجيين أكثر تنوعاً.
وبحسب تحليل موقع "أسباب"، يمثل الهجوم الواسع الحالي تحولاً كبيراً في سير المعارك منذ تفجرها، فتغيير موازين القوى العسكرية يفتح طريق الجيش السوداني لاستعادة الخرطوم. ومع هذا؛ أشار الموقع إلى أنه لا يزال من المبكر الجزم بانتصار كامل للجيش، على الرغم من أن استعادة الخرطوم باتت مسألة وقت كما يبدو.
إذ لا يمكن تجاهل أن قوات الدعم السريع لا تزال تتمتع بخطوط إمداد نشطة وفعالة من دولة الإمارات وعدد من الفاعلين في أفريقيا.
وفي هذا السياق، وجه عضوان ديمقراطيان في الكونغرس الأمريكي، السيناتور كريس فان هولين والنائبة سارة جيكوبس، يوم الجمعة 24 يناير/كانون الثاني، اتهامات لدولة الإمارات بمواصلة تسليح قوات الدعم السريع السودانية، رغم تعهداتها السابقة بعدم القيام بذلك.
وكان المشرّعان قد وافقا الشهر الماضي على صفقة أسلحة للإمارات بقيمة 1.2 مليار دولار، بعدما تلقت واشنطن تأكيدات إماراتية بعدم تسليح قوات الدعم السريع، التي تُتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة، بينها مزاعم بارتكاب إبادة جماعية في دارفور.ومع ذلك، كشفت محادثات مع إدارة الرئيس جو بايدن الأسبوع الماضي أن الإمارات استمرت في دعم هذه القوات بالسلاح، في خرق واضح لضماناتها. وأكد عضوا الكونغرس عزمهما السعي لمنع أي مبيعات أسلحة هجومية لدولة الإمارات في المستقبل.