لم تعد الحروب تعتمد فقط على العدد والعتاد الثقيل أو الجيوش المدربة والدبابات وتسليحها، بل أصبحت التكنولوجيا عاملاً حاسماً في رسم معالم الصراع العسكري خلال العقد الأخير. ومن بين أبرز الأدوات التي غيرت قواعد اللعبة هي الطائرات بدون طيار أو المسيرات، التي باتت تمثل ثورة تقنية في الحروب الحديثة. حيث تعد هذه الطائرات أداة مرنة وفعالة، إذ تجمع بين الكفاءة القتالية والمراوغة، خفض التكلفة، وتجنب الخسائر البشرية المباشرة٬ مما يشكل تحدياً غير مسبوق للجيوش والدول.
ولأجل ذلك٬ لا تزال الجيوش تبحث عن أسلحة مختلفة لمواجهة هذا الخطر الذي أصبح يصعب التحكم به وتمتلكه بكثافة الجماعات المسلحة في كل مكان ولا يمكن ضبطه أو التخلص منه بسهولة. حيث تمثل الطائرات بدون طيار تحدياً فريداً لأنظمة الدفاع الجوي التقليدية، التي صممت أساساً للتعامل مع الطائرات المقاتلة والصواريخ الباليستية. وهذا ما دفع الدول لتطوير أنظمة دفاعية جديدة، مثل أنظمة التشويش الإلكتروني والليزر وغيرها. فهل تنجح هذه في السيطرة على تهديد المسيرات الجنوني؟
كيف غيرت الطائرات المسيرة مفهوم الحروب؟
- الطائرات بدون طيار هي منصات طائرة غير مأهولة تعتمد على أنظمة إلكترونية للتحكم والتوجيه. يمكن لهذه الطائرات أداء مهام استطلاعية، جمع معلومات استخباراتية، توجيه ضربات دقيقة، وحتى تنفيذ عمليات هجومية معقدة. ولذلك أعادت الطائرات بدون طيار تعريف الحروب الحديثة، فلم تعد المعارك تقتصر على المواجهة المباشرة بين الجنود، بل أصبحت تعتمد على استهداف الخصوم عن بعد بفضل المسيرات ذات تكاليف تشغيل بسيطة٬ مقارنة بالطائرات المقاتلة التقليدية أو الدبابات التي تكلف ملايين الدولارات.
- أصبحت الطائرات المسلحة بدون طيار تنتشر كالنار في الهشيم خلال سنوات معدودة، حتى صارت السلاح الأول والأكثر شيوعاً للمعارك حول العالم. حيث تقول مجلة "فورين أفيرز" إنه ما بين عامي 2011 و2020 حصلت 18 دولة على طائرات بدون طيار مُسلَّحة. لكن قبل عام 2011 لم يكن يملك هذه الطائرات سوى ثلاث دول فقط؛ هي: الولايات المتحدة وبريطانيا و"إسرائيل". والآن تملك تمتلك مئات الدول والجماعات المسلحة المسيرات المسلحة وتعتمد عليها في حسم المعارك.
- لعبت الطائرات بدون طيار المسلحة دوراً مهيمناً وربما حاسماً في العديد من حروب والمعارك بين الدول والجماعات خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط٬ مثلما رأينا ذلك في ليبيا وناغورنو قره باغ في أذربيجان، وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وأوكرانيا وأثيوبيا والسودان واليمن وغيرها من المناطق.
- يعتقد مراقبون منذ فترة طويلة أن الأسلحة الهجومية تزعزع الاستقرار، لأنها تقلل من تكاليف الغزو بينما تثير المخاوف الأمنية بين أهدافها المحتملة. وتأخذ الطائرات المسيرة بدون طيار هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك٬ إذ تعتبر أقل تكلفة بكثير من الطائرات التي يديرها الطيار البشري، ويمكن للجيوش إرسالها في مهام محفوفة بالمخاطر دون خوف من فقدان الأفراد.
- وعلاوةً على ذلك، ونظراً لأن الطائرات بدون طيار رخيصة الثمن، يمكن للدول الحصول عليها بأعداد كبيرة بما يكفي لاجتياح دفاعات الخصم بسرعة. وقد استخدمت الجيوش بالفعل عشرات الطائرات بدون طيار في الحروب الأخيرة، وفي النزاعات المستقبلية من المرجح أن تنشر عشرات الآلاف من المسيرات لتدمير أو إضعاف القوات المعارضة قبل أن تتمكن من الرد.
- وتشير الأدلة من النزاعات والحروب الأخيرة إلى أن الطائرات المسلحة بدون طيار الأساسية قد تكون في الواقع أكثر ديمومة مما كان يُفترض في البداية. إذ أثبتت أنظمة الدفاع الجوي المختلفة التي تمتلكها الجيوش الكبرى٬ مثل منظومتي إس-300 وبانتسير قصيرة المدى الروسيتين، أو القبة الحديدية التي تمتلكها "إسرائيل"٬ أو باتريوت الأمريكية وغيرها٬ أنها ضعيفة بشكل كبير في أوكرانيا وأذربيجان وليبيا وسوريا و"إسرائيل".
- وغالباً ما تمكنت الطائرات بدون طيار من الإفلات من الكشف الراداري ومن استغلال فجوات التغطية في الأنظمة المنشأة لغرض الاستخدام مع الطائرات العادية الأكبر في الحجم أو الصورايخ الباليستية. ودمرت الطائرات بدون طيار العديد من منظومات بانتسير الروسية في أوكرانيا وليبيا وسوريا وغيرها من المناطق، كما أبادت أنظمة الدفاع الجوي القديمة وتلاعبت بأنظمة الدفاع الحديثة.
- باختصار، تقول التقارير والتقديرات العسكرية حول العالم٬ إن الطائرات بدون طيار تقوم الآن بتغيير ومراجعة دليل الحروب الحديثة٬ حتى أن الطائرات بدون طيار البسيطة نسبياً اليوم تعد مميتة بما يكفي لقلب الموازين في النزاعات والحروب الإقليمية. ومع قدرات وتكاليف محدودة بشكل مدهش، يمكن للطائرات بدون طيار مساعدة الدول على استغلال الفرص الجديدة في ساحة المعركة لتغيير الجغرافيا.
ما الأسلحة المضادة للمسيرات التي تطورها الجيوش لمواجهة هذا التهديد؟
مع التوسع المتزايد في استخدام الطائرات بدون طيار في الحروب والنزاعات، أصبح تطوير أسلحة مضادة لهذه التكنولوجيا أولوية قصوى للجيوش حول العالم. حيث أصبحت الطائرات بدون طيار تشكل تهديداً كبيراً للبنية التحتية الحيوية مثل المطارات، المنشآت النووية، القواعد العسكرية، والمنشآت المدنية الكبرى والبنى التحتية. وأدى ذلك إلى ضرورة تطوير تقنيات يمكنها اكتشاف وتحييد هذه التهديدات بسرعة وكفاءة.
ورغم أن الطائرات بدون طيار تُعتبر منخفضة التكلفة، فإن أنظمة الدفاع ضدها غالباً ما تكون باهظة الثمن. على سبيل المثال٬ يمكن لاعتراض طائرة صغيرة باستخدام صاروخ دفاعي أن يكلف آلاف الدولارات، مقارنة بسعر الطائرة الذي قد لا يتجاوز بضع مئات٬ وهذا ما شاهدناه في هجمات المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني وجماعة "أنصار الله" في اليمن وإيران على "إسرائيل" خلال معركة "طوفان الأقصى".
وفيما يلي أبرز التقنيات والأسلحة التي تسعى الجيوش حول العالم إلى تطويرها لمواجهة التهديدات المتزايدة للطائرات بدون طيار:
1- الأسلحة القائمة على الطاقة الموجهة
تستخدم أنظمة الليزر لتدمير الطائرات بدون طيار عن طريق تسليط أشعة ليزر عالية الطاقة على الهدف، مثل نظام "Iron Beam" الإسرائيلي. أو نظام DE M-SHORAD الأمريكي٬ والتي تحمل أنظمة ليزر بقوة 50 كيلووات على مركبات قتالية مثل Stryker.
كما تطور الشركات الأمريكية أنظمة النبضات الكهرومغناطيسية (EMP)٬ حيث تعتمد هذه التقنية على إطلاق موجات كهرومغناطيسية لتعطيل الأنظمة الإلكترونية للطائرات بدون طيار. وتقول الولايات المتحدة إنها طورت نظام Leonidas الذي يستخدم أشعة غير مرئية من الطاقة الكهرومغناطيسية لضرب أسراب الطائرات بدون طيار.
فيما كشفت بريطانيا في صيف 2024 عن سلاح جديد يوظف شعاع الراديو لإسقاط أسراب الطائرات المسيرة المحلقة في السماء، حيث يقوم قاتل المسيرات الجديد هذا بتفجير نبضة كهربائية يمكن أن تؤدي لتعطيل إلكترونيات المسيرات، ومن ثم إسقاطها.
ومن الناحية النظرية، يمكن لهذه الأسلحة التي تعمل بمولدات عالية الطاقة إطلاق عدد غير محدود من الطلقات طالما أن إمدادات الوقود متوفرة، لكن أنظمة الليزر والطاقة الموجهة الراديوية تحتاج إلى استثمارات ضخمة في البحث والتطوير والبنية التحتية والمعدات.
2- الأنظمة الإلكترونية الذكية وأنظمة التشويش والاختراق
يمكن لأجهزة التشويش الكهرومغناطيسي الحديثة التي تمتلك مثلها أمريكا وإسرائيل وبريطانيا والصين ودول أوروبية أخرى٬ تعطيل الاتصال بين الطائرة والمشغل أو التشويش على أنظمة الملاحة مثل الـ GPS. ومن خلال الهجمات السيبرانية٬ يتم اختراق الأنظمة الإلكترونية للطائرة بدون طيار وإجبارها على الهبوط أو تغيير مسارها.
وتستخدم الجيوش الحديثة أيضاً خوارزميات ذكاء اصطناعي لتحليل تحركات الطائرات بدون طيار والتنبؤ بمسارها، مما يُحسن من كفاءة الاعتراض. وتتيح الأنظمة المتقدمة مراقبة المجال الجوي في الوقت الحقيقي واستجابة أسرع للتهديدات.
لكن بشكل عام٬ من الصعب التشويش على جميع الترددات في الوقت ذاته، خاصةً إذا كانت الطائرة المسيرة تستخدم نطاقات تردد مشفرة أو متطورة. حيث أن العديد من الطائرات بدون طيار تعمل على نطاقات تردد مختلفة أو تستخدم تقنيات تغيير التردد (Frequency Hopping) لتجنب التشويش.
في الوقت نفسه٬ فإن أنظمة التشويش غالباً ما تكون فعالة فقط ضمن نطاق جغرافي محدود، مما يجعلها غير كافية لحماية مساحات واسعة أو مواقع متعددة. كما أن ضعف الكفاءة في البيئات المفتوحة٬ مثل المناطق الريفية أو الصحراوية، يصبح نطاق التشويش فيها تحدياً كبيراً٬ حيث يمكن أن تأتي الطائرات بدون طيار من اتجاهات ومسافات مختلفة.
3- الأسلحة الفيزيائية المتخصصة
من أهم الأسلحة المتخصصة لمواجهة المسيرات٬ هي الشبكات الموجهة٬ حيث تُطلق طائرات أو بنادق خاصة محمولة باليد أو على الكتف شبكات لاصطياد الطائرات بدون طيار وتعطيل حركتها.
وتقول الصين وروسيا وأمريكا وبريطانيا إنها طورت العديد من هذه الأسلحة٬ لكن يبدو أن هذه الأنظمة لم تثبت فعاليتها بشكل كبير في ميادين المعارك وقد تعرض حامليها للخطر٬ كما أن هذا النوع من الأسلحة لا يستطيع مواجهة الطائرات المسيرة كبيرة الحجم نسبياً.
وهناك أيضاً الطائرات المضادة٬ حيث يتم استخدام طائرات بدون طيار مخصصة لاعتراض الطائرات المهاجمة، إما عبر الاصطدام بها أو تعطيلها. وهذا النوع من الأسلحة استخدمته روسيا وأوكرانيا في حربهم الجارية٬ لكنه أيضاً لا يمكن أن يكون حلاً عملياً وسريعاً لمواجهة تهديدات الطائرات المسيرة المسلحة أو الانتحارية.
4- أنظمة الدفاع التقليدية المحدثة
تعد أنظمة الدفاع التقليدية الصاروخية أو الأنظمة الرادارية السلاح الأشهر والأكثر تداولاً بين الجيوش حول العالم لمواجهة الطائرات المسيرة المسلحة٬ حيث طورت العديد من الجيوش أنظمة صواريخ قصيرة المدى مضادة للطائرات بدون طيار تُستخدم لاعتراض الأهداف منخفضة السرعة وصغيرة الحجم، مثل منظومة الدفاع الأمريكية "C-RAM".
ومن أحدث المنظومات الدفاعية التي تقول الولايات المتحدة أنها توصلت لها لمواجهة مخاطر الطائرات المسيرة٬ هو نظام Stout الذي يستخدم كنظام دفاع جوي قصير المدى٬ حيث يحمل Stout مزيجاً من البنادق والصواريخ وأجهزة الاستشعار الموجودة على متن مركبة مشاه٬ لضرب الطائرات بدون طيار.
كما يقول الجيش الأمريكي إنه يمتلك نظاماً آخر لمواجهة الطائرات المسيرة٬ هو نظام Coyote الصاروخي الذي يتمتع بالديناميكية والقدرة على هزيمة التهديدات التي تأتي من طائرات بدون طيار واحدة وكذلك أسراب الطائرات على مسافات طويلة وعلى ارتفاعات أعلى من الأسلحة الأخرى في فئته٬ بحسب شركة Raytheon الأمريكية التي قامت بتصنيعه.
لكن مشكلة هذه الأسلحة أنها باهظة الثمن ولا تستطيع مواجهات هجمات واسعة في آن واحد من الطائرات المسيرة. ومع تطور الطائرات بدون طيار، مثل استخدام تقنيات التخفي والعمل ضمن أسراب، تواجه الجيوش صعوبة متزايدة في تطوير أنظمة دفاعية تستطيع مواكبة هذه التحديات المتنامية.
في النهاية٬ تسعى الجيوش المتقدمة إلى تطوير تقنيات أكثر فعالية وأقل تكلفة لمواجهة التهديدات المتزايدة للطائرات بدون طيار. ورغم النجاحات التي أحرزت في تطوير أنظمة مضادة متقدمة، إلا أن طبيعة الحروب الحديثة وتطور تكنولوجيا المسيرات يجعل من هذا السباق بين الهجوم والدفاع أمراً مستمراً. والتحدي الحقيقي يكمن في تحقيق توازن بين الكفاءة العسكرية والتكلفة الاقتصادية، مما يفرض على الدول والجيوش الاستثمار في حلول إبداعية تجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والمرونة التشغيلية.