تعيش دولة الاحتلال على واقع خلاف سياسي متفاقم، لا ينحصر في عداء الائتلاف اليميني الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو للمحكمة العليا الإسرائيلية، بل يظهر مدى الانقسام بين الدينيين والعلمانيين، واليمين واليسار، وبين رئيس الوزراء والمؤسسة السياسية التقليدية في إسرائيل، مما يؤثر جميعه في مستقبل الإسرائيليين.
وتفاقم الصدام مع المحكمة العليا الإسرائيلية، بعد إعلان الائتلاف الحكومي عن "إصلاحات قضائية"، تشمل تقليص صلاحياتها وإعادة هيكلة الجهاز القضائي.
وإلى جانب التعديلات القضائية التي تصفها المعارضة بـ"الانقلاب على القيم الديمقراطية"، برزت العديد من القضايا مؤخراً، تهدد بعودة الأزمة الدستورية في الشارع الإسرائيلي.
فلم يتم الحسم بشأن تعيين رئيس جديد للمحكمة العليا، كما تترقب الحكومة توصيات محتملة تتعلق بإقالة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وكذلك استئناف محاكمة نتنياهو في قضايا الفساد المتهم بها.
لكن أزمة المحكمة العليا، لا تتعلق بسلطة قضائية محددة فحسب، بل إنها جزء من معركة أكبر بشأن مطامع يمينية متطرفة تتعلق بإعادة تعريف دولة الاحتلال على أسس غير تلك التي تبناها مؤسسها العلماني ديفيد بن غوريون والحكومات اليسارية المتعاقبة منذ عام 1948.
ويسلط التقرير الضوء على قصة المحكمة العليا الإسرائيلية وتاريخها وتركيبتها، وأسباب عداء أحزاب اليمين المتطرف لها.
من أين جاءت فكرة تشكيل المحكمة العليا؟
خلال الانتداب البريطاني، نشطت المحكمة العليا الانتدابية بالقدس، وكانت تضم ستة إلى سبعة أعضاء دائمين، في البداية تشكلت من قاضيين مسلمين، وآخرين يهوديين، وقاضٍ مسيحي، وقاضٍ بريطاني.
وبعد عام 1944 تألفت المحكمة من أربعة قضاة بريطانيين، وقاضٍ مسلم، وقاضٍ يهودي.
ومع احتلال فلسطين، تأسست المحكمة العليا الإسرائيلية في 22 يوليو/تموز 1948، في تصويت سري أجراه "مجلس الدولة المؤقت"، وهو أول هيئة برلمانية لإسرائيل، حيث وافق على القضاة الخمسة الذين اقترحهم وزير العدل بالحكومة الإسرائيلية المؤقتة.
ورغم دعوة وثيقة الاستقلال الإسرائيلية إلى صياغة دستور مكتوب للدولة الجديدة، إلا أن ذلك لم يحدث، حيث عارض مؤسس دولة الاحتلال ديفيد بن غوريون الفكرة، واعتبر مع الأحزاب التي تشكلت منها حكومته أن الدستور قد يدمر الهوية اليهودية للدولة الجديدة، ما أبقاها دون دستور مكتوب.
وفي ظل الخلافات بين مختلف الشرائح الدينية والتيارات السياسية في إسرائيل بشأن صياغة الدستور، تبلورت فكرة "قوانين الأساس"، حيث شرع الكنيست مع عام 1958 بسن 11 قانوناً بدلاً من الدستور الرسمي.
ويذكر القانون الأساسي، أن حكم المحكمة العليا في إسرائيل يشكل سابقة ملزمة لكل محكمة في إسرائيل، باستثناء المحكمة العليا ذاتها.
ومن اختصاص المحكمة العليا النظر في الالتماسات المقدمة في مسائل دستورية وإدارية ضد أي هيئة حكومية أو شخصية حكومية، ورغم أن التشريع من اختصاص الكنيست، فإنها تتمتع بسلطة تحديد ما إذا كان القانون يتمشى بشكل سليم مع القوانين الأساسية للدولة، كما لها السلطة في إعلان بطلان قانون بعينه.
كيف يتم اختيار أعضاء المحكمة العليا؟
ومنذ العام 1953، تم اختيار القضاة الجدد بالمحكمة العليا في إسرائيل بواسطة لجنة مكونة من ثلاثة قضاة من المحكمة العليا، ووزيرين (أحدهما وزير العدل)، وعضوين من الكنيست، وعضوين من نقابة المحامين، ويستلزم التعيين اتفاق 7 من الأعضاء الـ9.
وقبل تشكيل لجنة اختيار القضاة عام 1953، كان يتم تعيين قضاة المحكمة العليا من قبل وزير العدل، وبمصادقة الحكومة الإسرائيلية والكنيست.
كيف يتم اختيار رئيس المحكمة العليا؟
يتم اختيار رئيس المحكمة العليا من بين أعضائها، من خلال لجنة اختيار القضاة عندما تنتهي فترة ولاية الرئيس (سبع سنوات). والسائد بين القضاة هو أن يترشح لرئاسة المحكمة العليا الأكبر سناً ضمن "نظام الأقدمية"، وذلك لمنع النزاعات بين القضاة، وتدخلات أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، لا يوجد رئيس دائم للمحكمة العليا الإسرائيلية، وذلك بعد تقاعد إستر حايوت التي شغلت المنصب منذ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2017. فيما خدم عوزي فوجلمان (الذي كان نائباً للرئيس) لمدة عام تقريباً كرئيس بالنيابة للمحكمة العليا حتى تقاعده في أكتوبر/تشرين الأول 2024، والآن يشغل القاضي يتسحاق عميت (أقدم قاض بالمحكمة العليا) منصب الرئيس بالنيابة لحين انتخاب رئيس دائم.
ومنذ أشهر، يعيق وزير العدل الإسرائيلي، ياريف ليفين، تعيين رئيس دائم للمحكمة العليا، متحججاً برفضه آلية التعيين وفق نظام الأقدمية، ويرغب بتكليف شخصية محافظة متشددة بالمنصب.
والخميس 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عقدت "لجنة اختيار القضاة" اجتماعاً، دون إجراء تصويت على تعيين رئيس المحكمة العليا ونائبه.
ووفقاً لنظام الأقدمية، فإن الشخص الذي من المفترض أن يعين رئيساً دائماً للمحكمة العليا هو القاضي الليبرالي يتسحاق عميت، لكن وزير القضاء ليفين يدعم القاضي المحافظ المدعوم من الائتلاف الحاكم يوسف إلرون.
ويقول أنصار "نظام الأقدمية" إنه يمنع القضاة الساعين لترقية من تقديم الولاء للسياسيين، لكن ليفين، الذي وضع خطة لإصلاح القضاء في أوائل عام 2023 – من خلال تقييد استقلاله وقدرته على التدخل في التشريعات وقرارات الحكومة بشكل جذري – يسعى إلى إلغاء طريقة الأقدمية، مرددًا حجة السياسيين اليمينيين بأنها تعزز نظام القضاء الراسخ المتحيز ضدهم.
كما يسعى الائتلاف الحكومي، إلى جانب تعيين إلرون رئيساً للمحكمة العليا، ترشيح محاميين ليكونا أعضاء في المحكمة العليا، وهما من حركة "كوهيليت" اليمينية، وشاركا في صياغة خطة "الإصلاح القضائي".
ما هي تركيبة أعضاء المحكمة العليا؟
لا تقتصر أهمية المحكمة العليا على البعد القانوني فقط في إسرائيل، بل لها أهمية اجتماعية أيضاً. وعند نشأتها عام 1948، كانت تتألف من قضاة يهود أشكنازي ذكور فقط، واحد منهم من المتدينين. خلال العقد الأول لدولة الاحتلال، لم تضم المحكمة العليا امرأة أو شخصاً من المجموعات العرقية المزراحية أو العربية. كما أنه خلال تلك الفترة، لم يتم تعيين أي قضاة في المحكمة العليا مرتبطين بأحزاب عن الوسط.
وبعد 14 عاماً، تم تعيين أول قاضٍ من أصل إسباني في المحكمة العليا، ومع العام 2012 خدم قضاة مزراحيون في المحكمة العليا. واعتباراً من أغسطس/آب 2023، يضم التشكيل الحالي 11 قاضياً من أصل أشكنازي، ثلاثة منهم من المتدينين، وثلاثة قضاة من أصل إسباني شرقي، وقاضٍ عربي واحد.
وفي العام 1977، عينت أول امرأة في المحكمة العليا، بعد 29 عاماً من تأسيسها، وفي العام 1994 تم تعيين قاضيتين جديدتين. واعتباراً من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هناك أربع قاضيات في المحكمة العليا.
ما هي التعديلات القضائية المثيرة للجدل؟
تشمل التعديلات القضائية التي يرغب ائتلاف نتنياهو بتمريرها 4 مجالات أساسية:
- سلطة المحكمة العليا الإسرائيلية.
- تركيبة المحكمة العليا الإسرائيلية.
- حماية نتنياهو وحلفائه من التهم الموجهة لهم.
- الحد من صلاحيات المستشارين القانونيين داخل الوزارات.
وفي ظل هيمنة الليبراليين على المحكمة العليا الإسرائيلية، فإن الائتلاف اليميني يسعى إلى:
- تمكين الحكومة من تمرير تشريعات وجعل ميزان القوى يميل لصالح السلطات التشريعية، مع تقييد دور المحكمة العليا.
- منح أعضاء الكنيست نفوذاً أوسع في "لجنة اختيار القضاة"، وتعيين أربعة قضاة جدد بدلاً من آخرين ليبراليين سيتقاعدون خلال السنوات الثلاث القادمة، ومن ثم السيطرة التدريجية على المحكمة العليا الإسرائيلية.
- وقف المحاكمات التي يتعرض لها نتنياهو، والضغوط التي تمارسها المحكمة العليا الإسرائيلية ضد زعيم حزب شاس آرييه درعي، وكذلك تمرير قوانين تمنع تنحية رئيس الوزراء أو الوزراء من مناصبهم.
- إضعاف سلطة المستشارين القانونيين داخل الوزارات الحكومية، والذين تأخذ المحكمة العليا بنصائحهم بشأن القرارات الحكومية.
لماذا يستهدف اليمين المتطرف المحكمة العليا الإسرائيلية؟
تسبب الانقسام بين الإسرائيليين حول التعريف العام للدولة وهويتها، وإذا كانت إسرائيل "دولة الشعب اليهودي" أو "دولة لكل مواطنينا"، بظلاله على عدم إمكانية كتابة الدستور.
ولكن مع تراجع اليسار وفقدان نفوذه، وصعود اليمين المتطرف في إسرائيل، اتجهت السياسة الإسرائيلية نحو اليمين.
وحكم زعيم حزب الليكود نتنياهو، الذي ينتمي تاريخياً إلى يمين الوسط، إسرائيل بين الأعوام 2009 و2021، بحكومات ائتلافية أصبحت مع مرور الوقت تعتمد بشكل متزايد على أحزاب المستوطنين والأحزاب الدينية المتشددة، وتجلى هذا في نهج سياسي معاد بشكل متزايد تجاه المحكمة العليا الإسرائيلية.
ومن العام 2015 حتى 2019، بذلت وزيرة العدل بحكومة نتنياهو، تدعى أيليت شاكيد وتنتمي إلى اليمين المتطرف، سلسلة من الجهود لمحاولة إخضاع المحاكم، وتسييس عملية تعيين القضاة غير الحزبية، وتفاخرت بزج عدد قياسي من المحافظين في المحكمة العليا الإسرائيلية، قائلة: "جعلتها أكثر تمثيلاً، بدلاً من كونها فرعاً من الأحزاب اليسارية الحمائمية".
وتعتبر المحكمة العليا الإسرائيلية هي آخر معقل مؤسسي يقف في طريق سلسلة أطماع اليمين المتطرف بشأن كل شيء من الصراع الفلسطيني إلى دور الدين في الحياة العامة، ويريد الآن تحطيم هذا الحاجز في الوقت الذي أصبح لديه الأصوات الكافية في الكنيست للقيام بذلك.
بحسب موقع "فوكس" الأمريكي، فإن هدف اليمين المتطرف ليس مجرد إضعاف المحكمة العليا الإسرائيلية، بل القضاء عليها باعتبارها تهديداً محتملاً لمشروعهم ورؤيتهم القومية العرقية لما يعنيه مفهوم "اليهودية والديمقراطية".
وعليه، فإن هناك في إسرائيل خلاف بين أتباع "المبدأ الديمقراطي" الذي يعطي الأولوية لـ"الحقوق المتساوية للجميع" ويمثل اليسار الإسرائيلي، و"المبدأ العرقي" الذي يعطي الأولوية لـ"تشكيل دولة قومية متجانسة قائمة على العرقية".
ويعتقد المتطرفون الدينيون أن الحكومة ينبغي أن تستند إلى الشريعة اليهودية، في حين يعتقد العلمانيون أن الدولة الإسرائيلية لا ينبغي لها أن تلعب أي دور على الإطلاق في المسائل الدينية البحتة.
كما تسببت خطة "الإصلاح القضائي" للائتلاف الذي يقوده نتنياهو في تفاقم الخلافات المتعلقة بشأن العلاقة بين الدين والدولة، والتوراة كمصدر للتشريعات، بين العلمانيين والمتدينين.
ولكي يتمكن أتباع "الصهيونية الدينية" من تحقيق حلمهم في التفوق اليهودي من النهر إلى البحر، لا بد من إخضاع القضاء بالكامل. ولا يقتصر الأمر فقط على الحفاظ على رؤيتهم الخاصة للدولة اليهودية الدينية، بل إن كبح جماح المحكمة العليا الإسرائيلية يعتبره اليمين المتطرف حماية لمجتمعهم من النفوذ العلماني الخارجي.
أما بالنسبة لنتنياهو، فإن مصلحته أقل أيديولوجية وأكثر عملية، فهو يخضع للمحاكمة حالياً بتهم "تتعلق بسلوك فاسد ومعاد للديمقراطية"، وكلما زاد سيطرة رئيس الوزراء وحلفائه على القضاء، كلما كان من الأسهل عليه استخدام منصبه للبقاء في السلطة وتجنب السجن.
وباختصار، فإن هدف نتنياهو هو "إضعاف الطابع الديمقراطي للدولة الإسرائيلية من أجل حماية نفسه من المساءلة القانونية"، بحسب موقع "فوكس".
ورغم الفروق في المصالح بين حزب الليكود وأحزاب الصهيونية الدينية، والأرثودكسية، فإن المواجهة مع المحكمة العليا الإسرائيلية في واقع الأمر هي مواجهة بين رؤى متعارضة جوهرياً حول ما يعنيه أن تكون "يهودياً" و"ديمقراطياً"، وهو صراع يتبلور حول نوع الدولة التي ينبغي لإسرائيل أن تكون عليها، وسيسهم في شرخ المجتمع الإسرائيلي، لأنه سيقرر مستقبلهم الجماعي.