يعد الحريديم، أو اليهود المتشددون، أحد أكثر التيارات تأثيرًا وإثارةً للجدل داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث يتميزون بنمط حياتهم "المحافظ" وتمسكهم الصارم بالشريعة اليهودية (الهالاخا)، مما يجعلهم قوة دينية وسياسية صلبة لا تقبل الانفتاح على الآخر، وتمثل مصدرًا للتوتر الاجتماعي والسياسي على الدوام.
وفي هذا التقرير سنسلط الضوء على طبيعة هذه الطائفة، معتقداتها، أصولها، مناطق تواجدها، تأثيرها السياسي، والجدل المحيط برفضها للخدمة العسكرية الإسرائيلية، وأسباب لجوء الساسة الإسرائيليين إليها عند تشكيل حكوماتهم.
من هم اليهود الحريديم؟
- الحريديم، وهو مصطلح مشتق من الجذر العبري "ح.ر.د"، ويعني "المتقي"، يشير إلى اليهود الذين يلتزمون بنمط حياة تقليدي صارم.
- نشأت هذه الطائفة في أوروبا الشرقية خلال القرن الـ18 كحركة مضادة لتوجهات الحداثة التي اجتاحت المجتمعات اليهودية آنذاك.
- تأثرت هذه الحركة بمدارس فكرية عديدة أبرزها "الحسيدية" التي نشأت في بولندا وليتوانيا، والمدرسة غير الحسيدية في هنغاريا وألمانيا.
- تأسست اليهودية الحسيدية على يد الحاخام نحمان برسلاف الذي عاش في أوكرانيا عام 1802، وهي الحركة التي انتقلت إلى إسرائيل ونمت بشكل كبير خلال نهاية القرن الـ20 لتصبح من أهم مكونات الطائفة الحريدية.
- يعود تاريخ تأسيس الطائفة الحريدية بفلسطين إلى فترة الانتداب البريطاني، خاصة بين عامي 1919 و1929، وينقسم الحريديم إلى تيارات مختلفة ومتباينة فكرياً مثل "الليتائيم" و"الحسيديم" و"السفارديم" المؤيدة لقيام "إسرائيل".
- لكن هناك بينهم أيضاً المعارضين لها، مثل حركة "ناطوري كارتا" أو "حراس المدينة" التي نشأت خلال منتصف الثلاثينيات من القرن الـ20 بزعامة الحاخام عمرام بلوي (1894-1974)، وهي حركة اشتهرت بمواقفها الرافضة لكل ما تقوم به إسرائيل، بما في ذلك رفضها بطاقات الهوية الإسرائيلية وتخلي بعض أتباعها عن الجنسية الإسرائيلية.
- تأتي معارضة "ناطوري كارتا" قيام إسرائيل من معتقدات دينية تفترض أن الرب عاقب اليهود بالنفي والشتات بسبب ذنوبهم، وأن عليهم انتظار مشيئته وتوبتهم للتخلص من هذه العقوبة، وتعتبر إقامة دولة إسرائيل "تمردا على الرب" بالنسبة لهم. يسكن أفراد ناطوري كارتا في القدس ولندن ونيويورك، ويتراوح عددهم داخل إسرائيل بين (5000-10000) شخص، وهم يرفضون الحصول على دعم من الحكومة كما أنهم لا يشاركون في انتخابات (الكنيست)، ويعترفون بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال.
- يتمركز وجود الحريديم بشكل رئيسي في "إسرائيل"، لكن هناك قطاع واسع منهم يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكل جماعة من اليهود الحريديم مواقفهم الخاصة، فهناك من يعتبر أن الديمقراطية لا تتوافق مع قيم الشريعة اليهودية ويظهر رفضاً مطلقاً للخدمة العسكرية.
- يمتلك الحريديم اليوم مؤسسات خاصة بهم للتقاضي في إسرائيل، وتسمى محكمة العدل الحريدية، وتختص في قضايا فض النزاعات وقوانين الأحوال الشخصية وقيادة الطوائف والمؤسسات والمعلمين المختصين في البت بالمسائل الدينية.
- يحمل الحريديم تصورات سلبية عن الأديان والثقافات والشعوب المختلفة عنهم، ولا يثقون بغير اليهود. ويتميز الحريديم بالحفاظ على لحاهم طويلة، وترك شعر رؤوسهم ينمو بشكل طبيعي دون حلق، كما يرتدون عادة معطفا طويلاً وقبعة سوداء وشالاً خاصاً بصلاة اليهود يسمى الطاليت، أما نساؤهم فإنهن يحافظن على اللباس المحتشم وقد يرتدين البرقع الذي يسمى في العبرية "فرومكا".
ما حجم الحريديم وما تأثيرهم السياسي؟
- يمثل الحريديم حوالي 17% من المجتمع اليهودي في "إسرائيل"، مع تعداد يصل إلى مليون و200 ألف نسمة بحلول عام 2020. يُتوقع أن يشكلوا أكثر من 20% من السكان اليهود بحلول عام 2028 بسبب معدلات النمو السكاني العالية التي تصل إلى حوالي 6% سنوياً.
- لذلك يشكل الحريديم كتلة انتخابية وازنة على المستوى الانتخابي، وتشكل الأحزاب الحريدية مثل "شاس" و"يهدوت هتوراه" قوة حاسمة في الحكومات الائتلافية، حيث يدعمون عادة الحكومات التي توفر لهم مزايا اقتصادية وتعليمية.
ما المناطق التي يتمركز بها الحريديم؟
يتركز الحريديم في مناطق محددة داخل إسرائيل، أبرزها:
- القدس المحتلة: وتحديدًا في أحياء مثل مئة شعاريم وجيئولا.
- بلدة "بني براك": التي تعد مركزًا حضريًا هامًا للطائفة وتقع شرق تل أبيب.
- تعد بيت شيمش قرب القدس وموديعين عيليت غرب مدينة رام الله مستوطنات حريدية بارزة.
- تبلغ نسبتهم 53% في المستوطنات ذات الأغلبية الحريدية بالضفة الغربية مثل مستوطنة بيتار عيليت.
كيف يعيشون وما القطاعات التي يعتمدون عليها؟
- يعتمد الحريديم اقتصاديًا بشكل كبير على التبرعات والمساعدات الحكومية، تقول صحيفة "ذي ماركر" العبرية إن الدولة تدعم الأسرة الحريدية بمبلغ 10.000 شيكل شهرياً، وذلك من خلال تمويل مؤسسات التوراة ودعم مراكز الرعاية الاجتماعية وميزانيات الإسكان وغيرها من التدابير الأخرى. وبحسب الصحيفة يقود هذا المسار "إسرائيل" إلى الانهيار الاقتصادي.
- وتشير الصحيفة إلى دراسة حديثة تفيد أن المجتمع الحريدي الأرثوذكسي المتطرف يأخذ من الدولة أمولاً أكثر بكثير مما يساهم بها. تقول الدراسة إن هناك انخفاض في معدلات المشاركة في سوق العمل بين الرجال الحريديم، حيث يركز معظمهم على دراسة التوراة والحصول على أموال التبرعات من الدولة فقط. بالمقابل، تسجل النساء الحريديات معدلات مشاركة أعلى من الرجال وإن كانت ضعيفة، في قطاعات مثل التعليم والرعاية الاجتماعية.
- ويعتمد الحريديم على منظومة دعم داخلية واسعة تشمل جمعيات خيرية، توفر قروضاً بدون فوائد تصل إلى 240 ألف شيكل (64 ألف دولار) لكل طفل. وهذه القروض تُموَّل جزئيا من تبرعات مجتمعات حريدية في الخارج، حيث يتمتع الأفراد بأجور مرتفعة نسبياً.
- تقدم الدولة دعما ماليا كبيراً، من خلال برامج مثل "سعر المستفيد" والإعفاءات الضريبية وسداد جزئي للرهون العقارية، التي غالبا ما تُمنح للعائلات التي لديها عدد كبير من الأطفال، وفق الصحيفة.
- بحسب تقرير نشرته صحيفة كالكاليست الإسرائيلية مؤخراً، يمتلك 70% من الحريديم منازلهم، مقارنة بـ63% فقط من اليهود غير الحريديم. هذا الرقم يثير التساؤلات، لا سيما عندما يُؤخذ في الاعتبار أن متوسط عدد الأطفال في الأسرة الحريدية هو 6 أطفال، ما يعني أن كل زوجين يحتاجان إلى رأس مال يتراوح بين 200 و500 ألف شيكل (53-133 ألف دولار) كمساهمة تربية لكل طفل. ومع وجود 6 أطفال، تصل الحاجة إلى ما يقارب من مليون شيكل (267 ألف دولار).
- ورغم هذه الفجوة الواضحة بين الدخل والإنفاق، يواصل الحريديم شراء المنازل وتغطية النفقات المتزايدة، وعلى سبيل المثال، تصل أسعار المنازل ذات الثلاث غرف في "موديعين عيليت" إلى 1.8 مليون شيكل (نحو 480 ألف دولار)، وفي "بيتار عيليت" إلى 2.1 مليون شيكل (نحو 560 ألف دولار).
بماذا يختلف الحريديم عن جماعات الصهيونية الدينية الأخرى؟
- معظم الحريديم يرفضون المشاركة النشطة في المشروع الصهيوني، ويميلون إلى عزلة ثقافية واجتماعية على عكس جماعات الصهيونية الدينية الأخرى، لكن وبعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 اندمج التيار الأرثوذكسي مع الصهيونية التي كان يعارضها سابقا، وطغت المرجعية الدينية على هذا المشروع بعد الاحتلال، إذ عادوا إلى الأماكن الدينية محاولين السيطرة عليها، وعلى رأسها المسجد الأقصى.
- تسعى الجماعات الصهيونية المتطرفة، مثل تلك التي يمثلها سموتريتش وبن غفير، إلى توسيع المشروع الصهيوني والسيطرة على الضفة الغربية.
- بعض الطوائف الحريدية تتبنى موقفاً سلبياً من دخول المسجد الأقصى، معتبرةً أن بناء الهيكل الثالث يجب أن يتم بأمر إلهي وليس بمبادرة بشرية. هذا الموقف يعكس خلافًا عميقًا مع الجماعات الصهيونية الدينية التي تدعو إلى تسريع بناء الهيكل.
ما أسباب رفضهم التجنيد الإجباري؟
- يشكل رفض الحريديم للتجنيد في الجيش الإسرائيلي إحدى أكثر القضايا إثارةً للجدل، حيث يعتبرون دراسة التوراة حماية لـ"إسرائيل" أكثر أهمية من الخدمة العسكرية.
- يرى الحريديم أيضاً أن الاندماج في الجيش سيهدد أسلوب حياتهم المستمر منذ أجيال، وأن الدخول للجيش يعني الاختلاط والتفسق والانحلال الأخلاقي وضياع دراسة التوراة. وخلال الحرب الجارية، دعا الحاخام الأكبر السابق لـ"إسرائيل" يتسحاق يوسيف، اليهود المتدينين "الحريديم" إلى الاستمرار في رفض التجنيد بالجيش وتمزيق أوامر الاستدعاء للخدمة العسكرية، قائلاً "مَن ينضمون إلى الجيش يفسدون. هناك مجندات وضابطات وألفاظ نابية، هناك أشياء فظيعة وغير لائقة. لا تذهبوا إلى هناك".
- وبدأت فكرة إعفاء فئة الحريديم من الخدمة العسكرية منذ الأيام الأولى من تأسيس دولة الاحتلال، إذ أعفي 400 طالب من المدارس الدينية (اليشيفوت) والذين اعتبروا أن دراسة التوراة هي مهنتهم.
- استمرت الحكومات المتعاقبة على إسرائيل تحدد عدد الطلبة المعفيين من الخدمة العسكرية، وفي عام 1977 ألغي تحديد عدد الطلبة، وأصبح كل حريدي يحصل على إعفاء منها بشكل تلقائي.
- على الرغم من هذا الإعفاء فإن "إسرائيل" تمكنت من دمج بعض الحريديم في الخدمة العسكرية خلال تسعينيات القرن الماضي، إذ أسست وحدة عسكرية خاصة بهم، كما انخرطوا في مختلف المجالات العسكرية والأمنية، بما في ذلك جهاز المخابرات، لكن بشكل قليل.
- في عام 2017 أصدرت المحكمة العليا قراراً بإلغاء إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، معتبرة ذلك تمييزاً يمس بمبدأ المساواة، وأمرت الحكومة بإيجاد حل ووضع قانون لذلك، لكن حتى اللحظة لم تحل هذه المسألة ويتم تمديد إعفاء الحريديم كل عام. وبينما تعارض الأحزاب الدينية قانون تجنيد "الحريديم"، فإن الأحزاب العلمانية والقومية تؤيّده بقوة، وهو ما يتسبب لنتنياهو في إشكالية تهدد ائتلافه الحاكم الذي يعتمد بشكل جيد على قوة تثمل الحريديم.