مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2024، برزت السياسة الخارجية والحرب في غزة والدعم الأمريكي لإسرائيل كقضايا محورية، فيما تسابق المتنافسان كاملا هاريس عن الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب عن الحزب الجمهوري، في إحياء ذكرى 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وزرعت هاريس شجرة تذكارية في مقر إقامتها بواشنطن، بينما التقى ترامب بزعماء يهود في موقع قبر مقدس بنيويورك، مكرراً حديثه بأن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يكن سيحدث لو كان موجودا في منصب الرئيس الأمريكي.
وكان ترامب، قد انتقد بايدن وهاريس بسبب تعاملهما مع المنطقة، متهما الرئيس الحالي بامتلاك "أسوأ سياسة خارجية" في التاريخ"، فيما قالت حملته إنه "من الضروري إعادة انتخاب ترامب حتى يتمكن من إنهاء إراقة الدماء".
وتشير المعطيات إلى أنه رغم حرص المتنافسين على إبراز مواقفهما من القضايا الداخلية التي تهم الناخب الأمريكي، إلا أنهما يدركان الأولوية للقضايا الخارجية لا سيما أنها تأتي في الوقت الذي تشهد منطقة الشرق الأوسط تهديداً لحرب إقليمية أوسع، مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.
"إنه الاقتصاد يا غبي"
في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1992 بين بيل كلينتون وجورج بوش الأب، كان الأخير يركز على السياسة الخارجية والتسلح"، في الوقت الذي كان يعاني فيه الأمريكيون من أوضاع اقتصادية صعبة، لتأتي حملة كلينتون وتخرج بالعبارة الشهيرة "إنه الاقتصاد يا غبي"، وتكون حاسمة لفوزه بالانتخابات.
وفقاً لمنطق حملة كلينتون في ذلك الوقت، فإن الانتخابات الرئاسية تحسم من خلال قضايا أساسية، تتمثل بالسياسة الداخلية وليس السياسة الخارجية.
وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة صوابية رؤية حملة كلينتون، فوفقاً لمجلس شيكاغو للشؤون العالمية، يعتقد ما يقرب من 60% من الناخبين إن الاقتصاد والتضخم سيشكلان إلى حد كبير ترجيحاتهم في نوفمبر/تشرين الثاني، في حين يقول أقل من 20% نفس الشيء عن الحروب الجارية في غزة وأوكرانيا.
لكن حملة كلينتون في ذلك الوقت، ورغم أن القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية ليست البارزة في السياسة الأمريكية، كانت تعتقد بأهمية خلق قضية من شأنها أن تثير غضب بوش الأب، وتقوض سمعته كشخص يتمتع بالكفاءة في التعامل مع الشؤون العالمية.
وعلى هذا وعد كلينتون بتصعيد التدخل الأمريكي في الحرب الأهلية بالبوسنة بشكل يظهر "زعامة حقيقية"، على النقيض من نهج بوش الأب الذي اتسم بعدم التدخل.
في هذا الإطار، أوضحت مساعدة كلينتون نانسي سودربرج، أن "ما ينبغي عليك أن تفعله هو أن تثبت أنك قادر على مواجهة الرئيس الحالي في مجال السياسة الخارجية، وأنك لست خائفاً من تحدي آرائه"، ولذلك فإنه يمكن تفسير تصريحات ترامب وانتقاداته المتكررة لبايدن بشأن الصراعات الخارجية، وتصديره لنفسه بشأن التعامل معها.
هل السياسة الخارجية مؤثرة بالنسبة للناخبين الأمريكيين؟
لكن التاريخ يثبت أيضاً أن السياسة الخارجية ليست غير ذات صلة بالحملات الرئاسية، فحتى لو كان الناخبون يعلقون أهمية محدودة بشأن القضايا الخارجية، فإنهم يريدون التأكد من أن المرشحين لائقين للعمل كقائد أعلى للبلاد، بحسب تحليل لـ"فورين أفريز" الأمريكية.
حيث يعتقد الأمريكيون أنه من الأهمية بمكان أن يكون هناك زعيم قوي قادر على الصمود في وجه التحديات التي يفرضها عليه الخصوم، فيما يستغل المرشحون للرئاسة سمعتهم كزعماء أقوياء للفوز بأصوات الناخبين من خلال استخلاص التناقضات البارزة لخصومهم بشأن القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية، ويبني آخرون سمعتهم بالحملات الانتخابية من خلال اتخاذ مواقف متشددة بشأن الشؤون الدولية.
وبالنسبة لكلا النوعين من المرشحين، فإن إظهار القدرة على قيادة العالم الحر يلعب دوراً مهماً في جذب الناخبين، ونتيجة لهذا، فإن السياسة الخارجية أكثر أهمية في صناديق الاقتراع.
وعلى سبيل المثال، عندما تحدت إسرائيل الدعوات الأمريكية لوقف إطلاق النار وصعدت من عملياتها العسكرية ضد حزب الله، بدا القلق لدى الإدارة الأمريكية من اتخاذ رد فعل معاكس قد يعرض هاريس والديمقراطيين لاتهامات بعدم كفاية الدعم لإسرائيل في ظل تقارب في استطلاعات الرأي مع ترامب.
المجلة الأمريكية أوضحت أن الحزب الديمقراطي يشهد ما اكتشفه الرؤساء الأمريكيون هاري ترومان، وليندون جونسون، وجيمي كارتر، أن "السياسة الخارجية هي منطقة محفوفة بالمخاطر السياسية، حيث يمكن للصراعات غير المحلولة والأزمات غير المتوقعة أن تلحق ضرراً كبيراً بالحملات".
نماذج سابقة من حملات المتنافسين بشأن السياسة الخارجية
ولا تعد مواقف المرشحين بشأن القضايا الدولية الاعتبار الرئيسي للناخبين عندما يتم الحديث عن فاعلية المرشح الرئاسي، في استطلاعات الرأي، وعلى سبيل المثال خلال الحملة الرئاسية لعام 2020، عندما طُلب من الناخبين توضيح سبب اعتقادهم بأن بايدن أو ترامب أيهما الأفضل في التعامل مع السياسة الخارجية، ركزوا في شرحهم على السمات الشخصية لكليهما، مثل القوة والحسم والذكاء، بدلاً من التعليق على مواقفهم السياسية.
في الانتخابات التي جرت عام 1952، والتي جاءت في ذروة الحرب الكورية، وعد المرشح الجمهوري دوايت أيزنهاور بأنه "سيذهب إلى كوريا" إذا انتُخب.
بحسب المجلة الأمريكية، فإن أيزنهاور لم يكن مضطراً للشرح للناخبين ما الذي سيفعله بكوريا، لأن سجله العسكري منحه مصداقية في التعامل مع قضايا الأمن القومي، لذلك كان التفضيل له على حساب منافسه الديمقراطي أدلاي ستيفنسون بشأن التعامل مع الصراع.
الأسلوب ذاته استخدمه ريتشارد نيكسون أثناء حملته بالانتخابات الرئاسية في عام 1968، ضد خصمه الديمقراطي هيوبرت همفري، والتي جرت في خضم حرب فيتنام، حيث أشار إلى أنه كان لديه خطة سرية لتحقيق "السلام مع النصر" في فيتنام، فلم يكن الناخبون على علم بتفاصيل الخطة، وأظهرت استطلاعات الرأي أن الناخبين يعتقدون بأن نيكسون هو الزعيم الأقوى في إدارة الحرب.
وفي موقف لافت، قام جون كينيدي خلال حملته الرئاسية لعام 1960 باقتراح زيادة كبيرة في القدرات العسكرية الأمريكية لسد الفجوات بشأن القدرة الصاروخية مع الاتحاد السوفيتي، ولكن استطلاعات الرأي أظهرت أن ربع الأمريكيين فقط يؤيدون الزيادة في ميزانية الدفاع، ومع ذلك كان وعده بـ"دفع أي ثمن، وتحمل أي عبء لتعزيز الزعامة العالمية للولايات المتحدة"، قد ساهم في جذب الناخبين له.
ما أولوية الناخبين في أوقات التهديدات؟
يشير تحليل المجلة الأمريكية، إلى أنه في أوقات التهديدات المتزايدة، فإن الناخبين يولون أهمية أكبر لانتخاب قادة أقوياء، وهذا الاتجاه مهم لفهم الحملة الرئاسية لعام 2024، والتي تجري وسط حروب كبرى مستمرة في أوكرانيا والشرق الأوسط، ومع زيادة النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي وأماكن أخرى، الأمر الذي يضع الولايات المتحدة على المحك في المنافسة الدولية.
كما أن افتتاح المناظرة بين المرشحين لمنصب نائب الرئيس، بشأن السؤال حول إيران توضح إلى أي مدى دخلت الاضطرابات العالمية الحالية في الخطاب السياسي الأمريكي.
وفي العام 2024، سوف يدلي الناخبون بأصواتهم على أساس تقييمهم لقوة المرشحين كزعماء، وبالنسبة لترامب وتبنيه لفكرة "السلام من خلال القوة"، هي بلا شك الرسالة الأمنية الوطنية المركزية لحملته، ورغم أنه يظهر متمردًا لا يتقيد بالأعراف، فإن نهجه في السياسة الخارجية يتبع مسارًا مستمرًا جيدًا في السياسة الرئاسية.
أما التحدي الرئيسي الذي تواجهه هاريس في السياسة الخارجية كمرشحة هو إثبات قدرتها على تقديم نوع من الزعامة القوية التي يطالب بها الأمريكيون من قائدهم الأعلى.
ومؤخراً أظهر استطلاع حديث أجراه معهد الشؤون العالمية في الولايات المتأرجحة، بأن ترامب يتقدم بثماني نقاط في مسألة "أي مرشح سيكون زعيمًا أقوى في الشؤون الدولية".
ويشير التحليل في "فورين أفريز" إلى أن هاريس إذا أرادت إقناع الناخبين، فقد تحتاج إلى تقديم المزيد من التفاصيل حول رؤيتها للتعامل مع التحديات العالمية المعقدة، وهو أمر ذو أهمية لجذب دعم الناخبين.
"الفخ" الذي قد تقع فيه هاريس بشأن غزة.. و"مفتاح ميشيغان"
وكان اللافت أن هاريس انتقدت استمرار الحرب على غزة، وقد يساعد هذا النهج في الفوز بأصوات الناخبين في الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان، التي تضم أعداداً كبيرة من التقدميين والأمريكيين العرب.
ومع ذلك، فإنه على المستوى الوطني، قد يؤدي هذا التوجه إلى تعريض هاريس لاتهامها بالفشل في دعم إسرائيل أو استرضاء حركة حماس.
إلى ذلك، فإن هاريس تواجه معادلة معقدة في ميشيغان، حيث يظهر الناخبون العرب علامات تشير إلى تخليهم عن البطاقة الديمقراطية، في حين يشعر بعض اليهود بالقلق بشأن مستقبلهم في الحزب الذي احتضنته أسرهم لأجيال، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
ولا يوجد مكان آخر تكون فيه هذه التوترات أكثر أهمية من الناحية السياسية مما هي عليه في ولاية ميشيغان، وهي ولاية حاسمة في المعركة وتضم عدداً كبيراً من الناخبين العرب الأمريكيين والمسلمين، والذين يشعرون بالغضب إزاء دعم إدارة بايدن لإسرائيل في حربها على غزة والآن في لبنان، ويتزايد هذا الشعور مع انتشار القتال في كافة أنحاء الشرق الأوسط قبل أقل من شهر من يوم الانتخابات، وهو بمثابة إشارة تحذير لهاريس.
ويظهر استطلاع صادر عن المعهد العربي الأمريكي، تعادل ترامب مع هاريس في ولاية ميشيغان، حيث حصلت نائب الرئيس الأمريكي على نسبة 42%، أما الرئيس السابق فقد حصل على نسبة 41%.
وبحسب المعهد العربي الأمريكي، فإنه بالنسبة للعديد من الناخبين الشباب والعرب الأمريكيين، فإن هاريس فشلت في معالجة مخاوفهم بشأن غزة بشكل كامل.
ومع دخول الحملة الانتخابية مراحلها النهائية، يبدو أن المأزق السياسي الذي تواجهه هاريس بشأن الشرق الأوسط قد يزداد تعقيداً، لأسباب عدة أبرزها أنه مع نهاية فترة بايدن، فإن الرئيس الديمقراطي يفتقر إلى النفوذ اللازم لإنهاء الأعمال العدائية، كما انتقد ترامب دعواته لإسرائيل للموافقة على وقف إطلاق النار بغزة، وتعهده بدعم إسرائيل، الأمر الذي يزيد من تقليل تأثير الضغوط الممارسة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كما تعاني هاريس من الفجوة في الآراء المتضاربة داخل حزبها، بشأن الحرب على غزة والتطورات في الشرق الأوسط، مما يترك المجال لترامب لتحميلها مسؤولية التفاقم في التوترات الإقليمية، دون تقديمها لرؤية واضحة حول كيفية معالجة ذلك.
في المقابل، فإن ترامب يأمل أن يعزز تركيزه على الشرق الأوسط شعبيته بين الناخبين اليهود، وهم الناخبون الذين صوتوا تاريخياً لصالح الديمقراطيين، وخلال المناظرة التلفزيونية معها، اتهم هاريس بأنها "تكره إسرائيل".
وعليه فإن المخاوف بشأن القضايا المحلية مثل التضخم والهجرة رغم أنها ستظل في صدارة أذهان الناخبين في انتخابات 2024، إلا أن الديمقراطيين والجمهوريين بحاجة للنضال من أجل كل صوت يمكنهم الحصول عليه، وبذلك فإن الحكمة التقليدية القائلة بأن الانتخابات تدور حول "الاقتصاد فقط، يا غبي" تتجاهل ذلك التأثير الذي ستحدثه السياسة الخارجية في الانتخابات.