"قيس سعيّد رئيسًا لتونس لولاية ثانية"، هذه الجملة سابقة لأوانها على اعتبار أن الانتخابات الرئاسية التونسية ستُجرى الأحد 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، لكن كل المؤشرات تؤكد أن الأستاذ السابق في القانون الدستوري يستعد لخلافة نفسه والبقاء داخل قصر قرطاج.
سعيّد الذي دخل الانتخابات الرئاسية التونسية عام 2019 كمرشح مستقل نجح في إقناع التونسيين ببرنامجه الانتخابي وبلغته العربية الفصيحة خاطب جميع فئات التونسيين، بل إنه حظي بدعم حتى حزب حركة النهضة ذي التوجه الإسلامي.
لكن بمجرد تمكنه انقلب "الأستاذ" على داعميه وبدأ بتغيير قواعد اللعبة السياسية في تونس، وكانت البداية بوضع أبرز قادة "النهضة" في السجن إلى جانب أبرز المعارضين من مختلف التوجهات السياسية، قبل أن يقوم بتطويع المؤسسات الدستورية والقضاء لصالحه.
كيف انقلب سعيّد على داعميه؟
انتُخب قيس سعيّد البالغ من العمر 66 عامًا بشكل ديموقراطي في العام 2019 بعد أن رفع شعار "الشعب يريد"، ليكون بذلك رابع رئيس لتونس منذ اندلاع "ثورة الياسمين" والسابع في تاريخ الجمهورية التونسية منذ إعلانها في 25 يوليو/تموز 1956.
نفس تاريخ إعلان الجمهورية اختاره سعيّد للإعلان عام 2021 عن ما وصفه بـ"التدابير الاستثنائية" تمثّلت في إقالة رئيس الحكومة التي كان يقودها، هشام المشيشي، وحل البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء، وهي إجراءات لاقت مساندة من فئة من التونسيين، في مقابل عارضها الكثيرون.
واتهم معارضون في تونس قيس سعيّد بتدمير مؤسسات الدولة وإغراق البلاد في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة بعد مرور 3 سنوات على اتخاذه تلك التدابير الاستثنائية، وأرجع البلاد إلى عهد ما قبل الربيع العربي.
وبعد مرور ثلاث سنوات، تُندّد منظمة العفو الدولية "بتراجع مقلق في الحقوق الأساسية في مهد الربيع العربي" و"بالانحراف الاستبدادي"، مع تراجع على مستوى إنجازات الثورة التي أطاحت بالدكتاتور الراحل زين العابدين بن علي في العام 2011.
ويندّد معارضون وناشطون تونسيون بحملة القضاء التونسي، الخاضع لسلطة الرئيس، ضد شخصيات سياسية ورجال أعمال وإعلام حاولوا تشكيل جبهة معارضة، فتمّ اعتقالهم، وبسجن نقابيين ونشطاء في منظمات المجتمع المدني وصحفيين معروفين.
ولا يزال أغلب هؤلاء في السجون ويُحاكمون بتهمة "التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي"، بعد أن وصفهم الرئيس "بالخونة وأعداء الوطن والإرهابيين"، وهي الاتهامات التي ظل سعيّد يرددها في كل خروج إعلامي له أو نشاط رئاسي على نُدرتها.
فعلى مدى السنوات الخمسة الماضية، نادرًا ما عقد سعيّد مؤتمرات صحافية أو مقابلات بالرغم من أن التونسيين عرفوه من خلال مشاركاته السابقة في البرامج التلفزيونية والإذاعية طوال فترة الانتقال الديمقراطي التي مرّت بها البلاد بعد ثورة 2011، وفق ما جاء في تقرير لوكالة "فرانس برس".
واقتصر تواصله الإعلامي على البيانات الصحافية ومقاطع الفيديو على صفحة الرئاسة على موقع "فيسبوك". أمام المسؤولين الحكوميين، يحتكر غالبًا الكلام. ولا يتردّد في اتخاذ القرارات. في غضون ثلاث سنوات، غيّر ثلاثة رؤساء حكومات وأقال عشرات الوزراء.
معارضون في السجن
بداية شهر سبتمبر/أيلول 2024، أعلنت حركة "النهضة" التونسية المعارضة في بيان لها أن سلطات الأمن اعتقلت عشرات من منسوبيها في مختلف أنحاء البلاد، وندّدت بما يتعرّض له مناضلوها ومناضلاتها من "اعتقالات تعسفية وظالمة".
هذه الاعتقالات كانت تتمة لما تشهده تونس منذ فبراير/ شباط 2023 من حملة توقيفات شملت إعلاميين ونشطاء وقضاة ورجال أعمال وسياسيين، بينهم رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وعدد من قياداتها، منهم علي العريض ونور الدين البحيري وسيد الفرجاني.
وحسب تقرير أعدته الخدمة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي (EEAS)، ونشرت تفاصيله صحيفة "The Guardian" البريطانية، فإن هناك تدهورًا واضحًا في المناخ السياسي وتقلصًا في المساحة المدنية في عهد الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي عطل البرلمان وركز السلطة في قبضته منذ بدء ولايته في عام 2019.
ودلل التقرير، على تدهور أوضاع حقوق الإنسان في تونس، بما حدث من اعتقال لناشطة حقوق الإنسان المخضرمة والصحفية سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لـ(هيئة الحقيقة والكرامة)، التي أُسست عقب الربيع العربي للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت في البلاد طيلة الفترة الماضية.
كما شاركت "الغارديان" نسخة من التقرير مع حسين باومي من منظمة العفو الدولية، الذي قال إن تحليله يعكس وضعًا خطيرًا للغاية، وأضاف: "لا يمكن إخفاء هذا الواقع، إن الوضع في تونس فيما يتعلق بحقوق الإنسان والتراجع الديمقراطي مقلق للغاية".
وقالت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، شهر أغسطس/آب 2024، إن التضييق على حرية التعبير والنقاش السياسي في تونس يشتد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التونسية التي ستُجرى في 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
والسبت، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتونس، عن قبول ملفات 3 مرشحين للانتخابات الرئاسية، من أصل 17 طلباً، وهم الرئيس الحالي قيس سعيد، وأمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، ورئيس حركة عازمون عياشي زمال.
وبينما تتحضر تونس لإجراء الانتخابات الرئاسية الأولى بعد استحواذ الرئيس سعيد على السلطة قبل 3 أعوام، تقمع السلطات المعارضة، لا سيما في الإعلام، حسبما تقول "هيومن رايتس ووتش". المنظمة الحقوقية، أشارت إلى أن "5 إعلاميين على الأقل يقبعون حالياً خلف القضبان بسبب عملهم أو آرائهم".
بحسب النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، رُفعت 39 قضية على الأقل ضد صحفيين بسبب عملهم، منذ مايو/أيار 2023، بموجب "المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال القمعي" و"قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2015″.
مؤسسات "خاضعة" للرئيس
قيس سعيّد لم يقف عند الزج بالمعارضين في السجون، ففي محاولة منه لتفادي أي مفاجأة وبعد أن قام بإقالة الحكومة وحل البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء قام بإقرار دستور جديد للبلاد منح ساكن قصر قرطاج صلاحيات واسعة.
الاستفتاء الذي أجري في 25 يوليو/تموز 2022 ورغم ضعف نسبة المشاركة فيه والتي لم تتجاوز حدود 10%، فإن سعيد نجح في تمرير الدستور الذي أعطى الرئيس إطارا قانونيا يشرعن حكمه، ويمهد الطريق أمامه للترشح وحيدًا في الانتخابات المقبلة.
قبيل ذلك في 12 فبراير/شباط 2022، أصدر قيس سعيّد المرسوم عدد 11 لسنة 2022 معلناً حل المجلس الأعلى للقضاء، وقوض الدستور الجديد استقلالية القضاء، ولم نعد في النص الجديد نتحدث عن "سلطات" تنفيذية أو تشريعية أو قضائية بل عن "وظائف".
وقال المحامي عياشي الحمامي، لموقع "انكفاضة" أن "الدستور الجديد مبهم إلى حد ما من وجهة نظر العدالة"، كما يأسف لاختفاء ذكر المجلس الأعلى للقضاء في النص الدستوري الجديد بينما "كان وجوده مكفولا في دستور 2014".
وحسب الفصل 134 من دستور 2022 الذي صاغه سعيّد فإن الهيئة المستقلة للانتخابات تتولّى "إدارة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها والإشراف عليها في جميع مراحلها، وتضمن سلامة المسار الانتخابي ونزاهته وشفافيته وتُصرح بالنتائج".
لكن الهيئة اتهمت بالعمل على إقصاء أبرز المرشحين المنافسين لقيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية التونسية، ووضعت أمام بعضهم الكثير من العقبات ولم تسمح سوى بوجود منافسين اثنين فقط للرئيس، وتمردت حتى على قرارات المحكمة الإدارية.
هذه المحكمة التي ستجد نفسها في عين العاصفة، بعد أن قدّم برلمانيون موالون للرئيس التونسي مقترحًا لتعديل القانون الانتخابي وسحب صلاحيات البَث في الطعون الانتخابية من المحكمة الإدارية إلى محكمة الاستئناف، وهو ما تم فعلاً وفي وقت قياسي.
منافس سجين وآخر مساند للرئيس
قبل أيام قليلة من الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، أصدرت محكمة حكمًا بالسجن 12 عامًا على مرشح الرئاسة العياشي زمّال، وقيادية في حزبه "حركة عازمون"، في 4 ملفات قضائية تتعلق بـ "افتعال تزكيات" للتمكن من الترشح للمنصب.
وقال عضو هيئة الدفاع فوزي جاب الله، إن "المحكمة الابتدائية تونس 2 (بمنطقة سيدي حسين غرب العاصمة) أصدرت حكمًا بالسجن 12 عامًا بحق العياشي زمّال، بواقع 3 سنوات سجن لكل ملف من ملفات القضية الأربعة المتعلقة بافتعال (تزوير) تزكيات".
وأضاف لوكالة الأناضول أن سوار البرقاوي، أمينة عام "حركة عازمون" التي يقودها زمّال حُكم عليها أيضًا بالسجن 12 عامًا في القضية ذاتها. وتابع جاب الله أن "المحكمة قررت منع العياشي زمّال وسوار البرقاوي من الاقتراع، وأن الأحكام قابلة للاستئناف".
ويرى الباحث التونسي في العلوم السياسية المقيم في لندن، جلال الورغي، أن طريق الرئيس سعيد نحو فترة رئاسية ثانية "مفتوح"، مشيرًا إلى أن "النتيجة قد حُسمت قبل إجراء الانتخابات".
واعتبر الورغي أن "المسار الانتخابي لم يكن واضحًا منذ البداية، بدءًا من تحديد تاريخ الانتخابات في وقت متأخر، مما أعاق الراغبين في الترشح، وصولًا إلى عدم نشر القانون الانتخابي مبكرًا، وتعقيد إجراءات جمع التزكيات، إلى جانب ذلك، لم تستجب هيئة الانتخابات لقرارات المحكمة الإدارية؛ ما جعل السباق غير متكافئ"، على حد اعتقاده.
كما اعتبر الورغي أن المرشح الآخر زهير المغزاوي "داعم لمسار 25 يوليو بإجراءاته الاستثنائية"؛ وبالتالي "لا يشكل تهديدًا للرئيس سعيد".
وتابع: "بعد 10 سنوات من الديمقراطية التي كان فيها التنافس السياسي جليًا داخليًا وخارجيًا، يمكن القول بكل أسف أننا اليوم أمام مشهد يُكرس للاستمرارية ولما يُسمى بالاستقرار في المنطقة العربية".
وأكد الورغي أن "طريق سعيد أكثر من مفتوح، ونتيجة الانتخابات باتت محسومة لصالحه منذ انطلاق هذا المسار، وهو ما تأكد من خلال قرارات هيئة الانتخابات التي تعكس المسار السياسي في تونس منذ 25 يوليو 2021".
دعوات لمقاطعة الانتخابات الرئاسية
أمام هذا الوضع دعت 5 أحزاب يسارية في تونس، إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية بدعوى أنها "لن تُجرى في ظروف ديمقراطية"، بينما تقول السلطات إن الانتخابات "تتوفر لها ظروف النزاهة والشفافية والتنافس العادل".
جاءت دعوة مقاطعة الانتخابات الرئاسية التونسية خلال مؤتمر صحفي مشترك في العاصمة تونس عقده ممثلو أحزاب العمال والتكتل والاشتراكي والقطب والمسار الديمقراطي الاجتماعي، الخميس 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وفي كلمة خلال المؤتمر، ادعى حمة الهمامي، الأمين العام لحزب العمال، أن الرئيس قيس سعيد، "يسعى من خلال هذه الانتخابات إلى تنفيذ انقلاب ثانٍ للبقاء في السلطة، بعد أن قام بالانقلاب الأول للاستيلاء عليها"، في إشارة إلى إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021 الاستثنائية التي اتخذها سعيد.
ودعا الهمامي، الشعب إلى مقاطعة الانتخابات، قائلا لهم: "لا تذهبوا للتصويت، وسنواصل المقاومة". ومبررًا دعوته، اعتبر الهمامي، أن سعيد، "لا يمكنه تنظيم انتخابات ديمقراطية"، على حد قوله. وتساءل مستنكرا: "هل سنصوت لمزيد من المديونية وللفقر والبطالة والجريمة والقمع السياسي؟".