لجأ ملايين المسلمين وغيرهم من المتضامنين مع الفلسطينيين في قطاع غزة إلى سلاح المقاطعة كتعبير منهم عن إدانتهم للجرائم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد الاحتلال الإسرائيلي، ولجأوا إلى مقاطعة منتجات شركات عالمية ثبت تورطها مع الاحتلال.
وخلال عام من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة الذي تسبب في استشهاد نحو 50 ألف فلسطيني، ثبت سلاح مقاطعة منتجات شركات عالمية نجاعته، بدليل تأثر أرباح بعض الشركات العالمية نتيجة حملات المقاطعة التي كبدتها خسائر مالية كبيرة باعتراف الشركات نفسها.
من خلال هذا التقرير سنقوم برصد دور حملات مقاطعة منتجات شركات عالمية التي قادها نشطاء ورواد مواقع التواصل الاجتماعي في الضغط عليها، وكيف أصبحت الحملة عالمية انخرط فيها مشاهير من مختلف المجالات، وكم كلفت المقاطعة بعض الشركات الكبرى.
"سلاح" مقاطعة منتجات شركات عالمية
يعود تاريخ أقدم مقاطعة معروفة من المستهلكين إلى القرن الـ18 في بريطانيا عندما تمت مقاطعة السكر الذي يُستخدم فيه عبيد في إنتاجه، وذلك احتجاجًا على العبودية. ومؤخراً استخدم نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي سلاح المقاطعة لاستهداف شركات عالمية.
وعاد سلاح مقاطعة منتجات شركات عالمية للاستخدام خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة احتجاجًا من النشطاء والمواطنين العاديين على الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين، متهمين بعض الشركات بالتورط مع الاحتلال من خلال المساهمة في تمويل جرائمه.
منذ بدء العدوان على غزة يقاطع مستهلكون في عدد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة منتجات شركات يعدونها صديقة لإسرائيل. وتقول بعض الشركات التي لها نشاط في إسرائيل، ومنها "يونيليفر" و"نستله"، إن المبيعات تتراجع في البلدان ذات الأغلبية المسلمة.
في يناير/كانون الثاني 2024، قال كريس كمبنسكي الرئيس التنفيذي لشركة "ماكدونالدز" إن النشاط في عدد من الأسواق في الشرق الأوسط وبعض الأسواق خارج المنطقة تأثر "بشكل كبير" بسبب حرب غزة ومقاطعة منتجات شركات عالمية، إلى جانب "المعلومات المضللة" حول العلامة التجارية، وفق ما ذكرته وكالة رويترز.
كما قالت "ستاربكس" إن الحرب أضرت بأعمالها في الشرق الأوسط، إذ جاءت نتائج الربع الأول دون توقعات السوق. وأفادت رويترز في مارس/آذار 2024، بأن مجموعة الشايع الخليجية العملاقة للتجزئة، التي تملك حقوق علامة ستاربكس في الشرق الأوسط، تعتزم تسريح أكثر من ألفي موظف بسبب تأثر الشركة بالمقاطعة.
بينما قالت "يونيليفر" البريطانية في شهر فبراير/شباط 2024، إن نمو مبيعات الربع الرابع في منطقة جنوب شرق آسيا تضرر بسبب مقاطعة المستهلكين في إندونيسيا للعلامات التجارية للشركات متعددة الجنسيات "على خلفية الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط".
وقالت صحيفة "Financial Times" إنه "من مصر إلى إندونيسيا، ومن السعودية إلى باكستان، المستهلكون يتجنبون السلع" التي تنتجها شركات متعددة الجنسيات مشهورة في صناعة الأغذية والمشروبات، احتجاجًا على "دعمها لإسرائيل في الحرب على قطاع غزة".
ووصفت الصحيفة البريطانية في تقرير نشرته في أغسطس/آب 2024، مقاطعة منتجات شركات عالمية كبرى بأنها "الأوسع انتشارًا في الذاكرة الحديثة"، مما "يؤكد على كيفية تصاعد الحملات الاجتماعية بشكل مفاجئ وتأثيرها على الشركات العملاقة".
واحد من كل ثلاثة يقاطع دعماً لغزة
خلال العدوان الإسرائيلي انتشر "سلاح المقاطعة" بشكل متزايد حول العالم، وقال موقع "Middle East Eye" إن أكثر من واحد من كل ثلاثة أشخاص "يقاطعون علامة تجارية تُعتبر داعمة لأحد الأطراف في حرب إسرائيل على غزة". وتتصدر "الدول الخليجية والدول ذات الأغلبية المسلمة" حركات المقاطعة.
في استطلاع رأي لمقياس الثقة السنوي الذي تصدره شركة العلاقات العامة "إيدلمان" وشمل 15 ألف مستهلك في 15 دولة، كانت ثلاث من الدول الخمس الأولى التي تشارك في مقاطعة العلامات التجارية بسبب غزة دولًا ذات أغلبية مسلمة – السعودية، الإمارات وإندونيسيا. وجاءت الهند، التي تضم أقلية مسلمة كبيرة، في المرتبة الرابعة، بينما احتلت ألمانيا المرتبة الخامسة.
في السعودية، قال 71% من المشاركين إنهم يقاطعون العلامات التجارية بسبب دعمها المزعوم لأحد الأطراف، وفي الإمارات، قال 57% من المشاركين إنهم يقومون بالمقاطعة بسبب الحرب، وفي إندونيسيا، قال أكثر من 50% إنهم يشاركون أيضًا في مقاطعة منتجات شركات عالمية.
بينما قالت مجموعة التفكير في الشؤون الخارجية "ستيمسون" إن المقاطعات الاستهلاكية للعلامات التجارية الغربية في الشرق الأوسط لها "تاريخ طويل"، وغالبًا ما تكون "جذورها مرتبطة بالصراعات السياسية والدينية والثقافية".
واكتسبت حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها زخمًا حول العالم، حيث تهدف إلى الضغط على إسرائيل بسبب انتهاكاتها للقانون الدولي وقمعها للفلسطينيين. ومع ذلك، واجهت الحركة أيضًا معارضة شديدة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية حيث يتعاطف عدد كبير من السكان مع إسرائيل.
وقالت " Jerusalem Post " الإسرائيلية إن حركة مقاطعة منتجات شركات عالمية بدأت تكتسب زخمًا في عام 2005، "وهو العام الذي اعتبرت فيه محكمة العدل الدولية أن الحاجز الأمني الإسرائيلي في الضفة الغربية يعد انتهاكًا للقانون الدولي"، وازداد الدعم لهذه الحركة بعد اندلاع الحرب في غزة.
"سلاح المقاطعة" يؤتي أُكُله
حسب "فاينانشيال تايمز" فإن مقاطعة منتجات شركات عالمية قد يكون له "أهمية رمزية"، لكنه "من غير المرجح أن يؤثر بشكل مباشر على اقتصاد إسرائيل"، الذي "قوته تكمن في قطاعات مثل التكنولوجيا، والصيدلة، والدفاع"، وفق ما ذكرته الصحيفة.
لكن بالنسبة للعديد من الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى، فإن إجراءات المقاطعة "تؤثر الآن على الإيرادات"، تقول الصحيفة البريطانية، وهو ما تأكد فعلاً باعتراف من تلك الشركات نفسها بتكبدها خسائر مهمة منذ بدء حملات المقاطعة بسبب حرب غزة.
وبينما تمكنت العديد من الشركات متعددة الجنسيات التي تواجه المقاطعة من "استيعاب تأثير تراجع المبيعات بفضل انتشارها الجغرافي وتنوع منتجاتها"، فإن مشغلي الامتياز في الدول "التي تنتشر فيها المقاطعات" يعانون بشكل أكبر.
وأكدت تقارير صحفية أن مقاطعة منتجات شركات عالمية للأغذية والمشروبات في الدول الإسلامية تؤثر سلباً على إيرادات الشركات المتعددة الجنسيات ومشغلي امتيازاتها، مما يؤدي إلى تفاقم تأثير تباطؤ الاستهلاك العالمي على نتائجها المالية.
إذ وصف، أمري باهل ساندهو، الرئيس التنفيذي لشركة "أمريكانا للمطاعم"، التي تدير علامات تجارية مثل KFC، بيتزا هت و" كريسبي كريم" في الشرق الأوسط وكازاخستان، مدة وشدة مقاطعة منتجات شركات عالمية بأنها "غير مسبوقة" على حد تعبيره.
محلات ستاربكس في الكويت فارغة من الزبائن
— شؤون إسلامية (@Shuounislamiya) October 23, 2023
هذا أبلغ رد على الصهيوني النصاب#مقاطعة_ستاربكس pic.twitter.com/UzHk4nzmLV
وقالت الشركة إن أرباح الربع الثاني انخفضت بنسبة 40% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، "رغم افتتاح 81 مطعمًا في النصف الأول من هذا العام"، متأثرة بحملات المقاطعة التي استهدفت الشركة في البلدان الإسلامية.
كما ذكرت شركة "مونديليز" لصناعة الوجبات الخفيفة أن المقاطعات أثرت على نمو مبيعاتها بنسبة 2% في الربع الثاني، في حين قالت "لوريال" إن المقاطعات ساهمت في انخفاض نمو مبيعاتها بنسبة 2% في النصف الأول من هذا العام.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة "ماكدونالدز"، كريس كيمبنسكي، في وقت سابق من هذا العام إن مبيعات الشركة كانت أضعف في الدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل ماليزيا وإندونيسيا، وكذلك في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
وأثارت "ماكدونالدز" غضب الناشطين المؤيدين لفلسطين عندما أعلنت شركتها في إسرائيل أنها ستقدم وجبات مجانية للجنود الإسرائيليين في فروعها في البلاد. وفي باكستان، خفضت الشركة أسعارها واضطرت إلى إصدار بيان تنأى فيه بنفسها عن ماكدونالدز في إسرائيل.
كما قال كيمبنسكي، شهر يونيو/حزيران 2024، في حديثه إلى المحللين في مؤتمر عبر الهاتف عقدته الشركة: "إن التأثير المستمر للحرب على الأعمال التجارية المحلية لهؤلاء أصحاب الامتياز أمر محبط ولا أساس له من الصحة"، على حد تعبيره.
وفي ماليزيا وحدها أغلقت سلسلة مطاعم "كنتاكي" الأمريكية، أكثر من 100 فرع لها في البلاد على خلفية حملات المقاطعة ، وقال مسؤول إن الشركة ترى أن المقاطعة "فرصة لوقف بعض عمليات متاجر كنتاكي التي أثرت على ميزانيتها العمومية".
التوجه نحو المنتجات المحلية
أمام تزايد حملات مقاطعة منتجات شركات عالمية في البلدان الإسلامية، عملت شركات الإعلان في تلك الدول على الترويج للعلامات التجارية المحلية في حين ترفض العمل مع العلامات التجارية الدولية المتهمة بدعم إسرائيل، وفق ما جاء في تقرير لموقع "The media Line".
على سبيل المثال، بدأت في مصر دعوات مقاطعة إسرائيل تنتشر على مستوى البلاد بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وخاصة بعد دعوة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب إلى ذلك، كما انطلقت حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لمقاطعة إسرائيل.
بينما كثف المصريون والأردنيون، وغيرهم في المنطقة، مقاطعة منتجات شركات عالمية بعد أن أعلنت شركة "ماكدونالدز" في إسرائيل أنها ستقدم وجبات مجانية لجنود الاحتلال الإسرائيلي الذين يتم استدعاؤهم للمشاركة في العدوان على قطاع غزة.
وردًا على ذلك، قاطع مواطنون في الدول العربية سلسلة الوجبات السريعة في بلدانها، ثم وسعوا منذ ذلك الحين مقاطعتهم لتشمل فروعًا محلية لشركات شهيرة مثل كوكا كولا وستاربكس وكارفور وبيبسي وبرجر كينج وأمازون.
وأتاح هذا الوضع فرصة بالغة الأهمية للعلامات التجارية المحلية الناشئة. ففي مصر على سبيل المثال، أصبحت شركة "سبيرو سباثيس" المصرية للمشروبات الغازية بديلاً مفضلاً لكوكاكولا وبيبسي في مختلف أنحاء البلاد.
وقال الرئيس التنفيذي لوكالة تسويق مقرها مصر، لصحيفة "ميديا لاين": "لقد اتخذ اتجاه الإعلان عن رمضان هذا العام (2024) في مصر مسارًا مختلفًا. فنحن لا نرى إعلانات لعلامات تجارية عالمية مثل كوكاكولا، بل المزيد من المنتجات المحلية، من أجل مقاطعة إسرائيل والمساهمة في الاقتصاد المحلي".
وبحسب قوله، لم تتكبد الشركة خسائر مالية كبيرة بسبب مقاطعة منتجات شركات عالمية. وأضاف: "لقد عوضت الأعمال التجارية من المتاجر المحلية والمنظمات غير الحكومية والعلامات التجارية حجم الأموال التي خسرتها من السلاسل الدولية الكبرى".
وأضاف أن "الجميع تقريبًا في مصر يقاطعون إسرائيل، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد. بل إن كل الدول الإسلامية تقريبًا تسير في نفس الاتجاه. وبما أن حكومتنا حظرت المظاهرات العامة لصالح فلسطين، فإن هذه هي الطريقة الوحيدة الفعالة لإظهار تضامننا مع الفلسطينيين في غزة".
وتجنبت شركات الإعلانات العمل مع الشركات الغربية، خاصة بعد الردود الشعبية الغاضبة، إذ واجهت شركة بيبسي كولا ردود فعل عنيفة في مايو/أيار عندما أطلقت حملة إعلانية بلوحات إعلانية عملاقة وشعار "ابقوا عطشى"، وهو ما بدا وكأنه يسخر من المقاطعين.
وتعرضت إعلانات بيبسي التلفزيونية التي ظهر فيها نجوم كبار مثل المغني عمرو دياب ومحمد صلاح لاعب ليفربول المصري لانتقادات شديدة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
كما قال عصام زيد، مؤسس ومدير عام وكالة للإعلان في رام الله، لـ"ميديا لاين": "نحن أيضًا جزء من المقاطعة. ولم يؤثر هذا على شركتنا على وجه التحديد، حيث لجأنا إلى المنتجات المحلية وحاولنا رعاية هذه المنتجات فقط. على الرغم من أننا نواجه أيضًا مشاكل تتعلق بالحرب نفسها مقارنة بالدول الأخرى التي تقاطع".
في القاهرة، قال حازم التميمي، الذي يدير محلا تجارياً، إن مبيعاته من منتجات كوكاكولا وبيبسي وأرييل ونستله انخفضت إلى النصف. وأضاف لـ"فاينانشال تايمز" أن حتى سكان المنطقة الأثرياء "قد يتصلون لطلب المياه المعدنية، لكنهم يحددون أنهم يريدون علامة مصرية".