- توزيع ديموغرافي ووظائف متعدّدة
- المال شرط للاستمرار وليس للتكديس
- انقسام داخلي بين فلول نظام الأسد
- ماذا عن عائلات الأسد والدائرة الضيقة؟
- مراقبة السفارة السورية والتحرّكات الرسمية
- البعد الأمني: تجميد الخطر بدل تفكيكه
- البعد السياسي اللبناني: الانقسام يمنع القرار
- تأثير مباشر على العلاقة اللبنانية – السورية
لم يعد لبنان مجرد ساحة عبور عابرة لتداعيات الصراع السوري، بل تحوّل، بصمتٍ ثقيل، إلى فضاء إقامة دائمة لبقايا منظومة حكم سقطت في دمشق، ولم تسقط شبكاتها. ففي بلد يعاني من هشاشة الدولة وتفكك القرار السيادي، تشكّل عودة فلول نظام الأسد واستقرارهم داخل لبنان تطوراً نوعياً يتجاوز منطق اللجوء السياسي أو الإنساني.
المفارقة الصادمة لا تكمن فقط في وجود هؤلاء، بل في طبيعة هذا الوجود: ضباط سابقون، عناصر أمن، شخصيات اقتصادية من الحلقة الضيقة للنظام السابق، يعيشون في لبنان دون أي إطار قانوني واضح، ودون مقاربة رسمية معلنة، وكأنّ الدولة اختارت إدارة الملف بالصمت، لا بالقرار. هذا الصمت لم يلغِ الواقع، بل سمح له أن يتمدد ويتحوّل إلى شبكة منظمة.
الأخطر أن هذا الوجود لم يتشكّل عشوائياً. فالتوزيع الجغرافي، والوظائف المختلفة لكل منطقة، وأنماط التمويل، والانقسام الداخلي بين الأجنحة، كلها مؤشرات على بنية مدروسة، لا على بقايا منهارة. لبنان، في هذا السياق، لا يستضيف مجرد أفراد فارّين، بل يحتضن كتلًا بشرية ذات أدوار محتملة، مؤجّلة، تنتظر لحظة التسييل السياسي أو الأمني.
استناداً إلى مصادر دبلوماسية وأمنية لبنانية وغربية وسورية، نرصد من خلال هذا التقرير عدد فلول نظام الأسد في لبنان، خرائط انتشارهم، شبكات تمويلهم، انقساماتهم الداخلية، وتحركاتهم الأمنية، ويكشف كيف تحوّل هذا الملف من مسألة سورية داخلية إلى عامل ضغط إقليمي يهدد الاستقرار اللبناني–السوري معاً، ويضع لبنان مجدداً في موقع ساحة انتظار لصراعات الآخرين.
توزيع ديموغرافي ووظائف متعدّدة
لا يمكن فهم ملف تواجد فلول النظام السوري السابق في لبنان من دون التوقف مطولاً عند الخريطة الديموغرافية لهذا الوجود، التي لا تشبه بأي حال أنماط اللجوء أو النزوح التقليدية. فالأرقام المتداولة دبلوماسياً، والتي تُقدِّر العدد الإجمالي بنحو 11 ألف شخص، تكشف أنّنا أمام توزيع محسوب بدقّة، لا نتاج حركة عشوائية فرضتها ظروف الهروب، بل نتيجة ترتيبات سبقت الاستقرار ورسّخته لاحقاً.
مصادر دبلوماسية غربية كشفت لـ"عربي بوست"، أن نحو 45% من فلول النظام السوري السابق يتمركزون في منطقة بعلبك–الهرمل. هذه النسبة المرتفعة لا تعكس فقط ثقل المنطقة الجغرافي أو قربها من الحدود السورية، بل طبيعة الحماية المتوفّرة فيها. فهؤلاء لا يعيشون في مخيمات ولا في أحياء مكتظة، بل ضمن تجمعات سكنية شبه مغلقة، موزّعة على قرى وأطراف بلدات، بعيداً عن مراكز المدن.
هذا التموضع يوفّر لهم غطاءً أمنياً عالي المستوى، ويُبقي وجودهم خارج دائرة الرصد الاجتماعي والإعلامي، ويمنح الجهات التي ترعاهم قدرة على ضبطهم ومنع أي تحرّك غير منسّق.
في المقابل، تستضيف عكار وطرابلس، وتحديداً جبل محسن، ما يقارب 19% من هذا الوجود. هنا تختلف الوظيفة. فالتجميع لا يقوم على الحماية الصلبة بقدر ما يستند إلى الاندماج الاجتماعي داخل بيئة علوية حاضنة، تاريخياً ومناطقياً.
الوجود في هذه المناطق منخفض الضجيج، يخلو من أي مظاهر عسكرية أو أمنية علنية، ويعتمد على شبكات قرابة وعلاقات قديمة تسمح بالإقامة من دون إثارة حساسيات إضافية، خصوصاً في مدينة كطرابلس ذات الذاكرة الأمنية الثقيلة.
أما الجنوب وجبل لبنان، فيستوعبان معاً نحو 23% من فلول النظام السابق. هذا التوزّع المتشظي يعكس وظيفة مختلفة. فلا وجود كثيفاً أو متماسكاً، بل مجموعات صغيرة موزّعة في بلدات متفرقة، بعضها ساحلي وبعضها داخلي.
وتفيد المصادر بأن هذه الشريحة تضم نسبة أعلى من العناصر ذات الأدوار التقنية أو اللوجستية السابقة، ممن لا يحتاجون إلى حماية مكثّفة بقدر ما يحتاجون إلى سهولة حركة، وقرب من طرق أساسية، وقدرة على الاندماج في بيئات أقل حساسية.
في زغرتا، تشير التقديرات إلى وجود نحو 8% من الفلول. ورغم ضآلة الرقم نسبياً، إلا أنّ دلالته السياسية كبيرة. فهؤلاء يتمتعون بمظلّة مباشرة وفّرها سليمان فرنجية، مستندة إلى علاقته الشخصية والسياسية الطويلة مع النظام السوري السابق.
وتكشف معطيات عن إنشاء صندوق دعم مالي، بمشاركة رجال أعمال لبنانيين وسوريين، يغطّي الاحتياجات المعيشية لهؤلاء، ويؤمّن استقرارهم من دون الحاجة إلى طلب دعم محلي أو إثارة أي توترات.
يبقى بيروت وضواحيها، حيث يتمركز نحو 5% من الفلول، وهم الشريحة الأكثر حساسية. فهنا يقيم ضباط الصف الأول، ومسؤولون أمنيون سابقون، ورجال أعمال مقرّبون من الدائرة الضيقة لعائلة الأسد. يعيش هؤلاء نمط حياة مرفّهاً نسبياً، يتنقّلون بسيارات فارهة، ويترددون على مطاعم وأماكن معروفة في وسط العاصمة، ويتمتعون بحماية أمنية غير معلنة.
تشير مصادر متقاطعة لـ"عربي بوست" إلى أنّها تأتي عبر قنوات حزبية واتصالات داخل بعض الأجهزة الرسمية. اختيار بيروت ليس عبثياً؛ فهي مركز المال والاتصال، ونقطة الوصل مع الخارج، ومكان إدارة الأعمال والشبكات المالية.
بهذا المعنى، لا يعكس التوزيع المئوي مجرد أرقام، بل خريطة وظائف:
- بعلبك–الهرمل للثقل والحماية (45%)،
- الشمال للاندماج الاجتماعي الصامت (19%)،
- الجنوب وجبل لبنان للمرونة والحركة (23%)،
- زغرتا للغطاء السياسي المنظّم (8%)،
- وبيروت لإدارة المال والاتصال الخارجي (5%).
هذه الخريطة تفسّر إلى حدّ بعيد سبب صعوبة تفكيك الملف أو معالجته بقرار واحد. فكل منطقة تمسك بجزء من الوظيفة، وكل نسبة تخضع لمنطق مختلف من الحماية والرعاية، ما يحوّل الوجود كله إلى شبكة متكاملة يصعب التعامل معها كحالة واحدة.
المال شرط للاستمرار وليس للتكديس
لا يمكن لهذا الوجود الواسع والمنظَّم أن يستمرّ من دون شبكة تمويل ثابتة، وهو ما تُجمع عليه مصادر أمنية ودبلوماسية لبنانية وغربية. ففلول نظام الأسد في لبنان لا يعيشون على هامش الفقر أو في حالة تَسوُّل سياسي أو اجتماعي، بل ضمن حدٍّ أدنى من الاستقرار المعيشي، يختلف مستواه من منطقة إلى أخرى تبعاً للرتبة السابقة، والدور الأمني، والجهة الراعية.
تشير المعطيات إلى أنّ الجزء الأكبر من التمويل يأتي من خارج لبنان، عبر قنوات غير مباشرة، بعضها يتخذ طابعاً "جمعياتياً"، وبعضها الآخر يمرّ عبر أفراد وشبكات مالية قديمة أُعيد تفعيلها بعد سقوط النظام.
في هذا السياق، تبرز جمعية غرب ووسط سوريا كإحدى القنوات الأساسية للصرف على شريحة واسعة من العناصر والضباط، لا سيما أولئك المتمركزين في البقاع الشمالي وعكار.
وفق المعلومات المتداولة، فإن الجمعية ممولة بشكل مباشر من رئيس شعبة المخابرات العسكرية السابق كمال الحسن، الذي أعاد تنظيم قنوات الدعم بعد خروجه من سوريا، مستخدماً واجهات إنسانية لتغطية نفقات شهرية ثابتة تشمل السكن، والمعيشة، والخدمات الأساسية.
إلى جانب ذلك، يلعب رامي مخلوف (ابن خال الأسد) دوراً مركزياً في تمويل شريحة نوعية من الفلول، وتحديداً عناصر وضباط النخبة المرتبطين بالفرقة الرابعة وبما كان يُعرف بوحدات الحماية الخاصة المقرّبة من ماهر الأسد، إضافة إلى عناصر مدرَّبة من المخابرات الجوية.
هذا التمويل لا يُقدَّم على قاعدة المساعدات الإنسانية، بل يُدار كاستثمار في شبكة ولاء قد يُعاد استخدامها في مرحلة لاحقة.
كما تشير المصادر إلى وجود قنوات مالية إضافية تمرّ عبر روسيا والإمارات، تُستخدم ليس فقط لتغطية الإنفاق اليومي، بل للحفاظ على تماسك الشبكات، ومنع التفكك، وتأمين ولاء القيادات الوسطى التي تُشكّل العمود الفقري لهذا الوجود.
انقسام داخلي بين فلول نظام الأسد
بعيداً عن الصورة التي تُظهر فلول نظام الأسد ككتلة واحدة متجانسة، تكشف المعطيات أنّ هذا الوجود منقسم داخلياً إلى جناحين رئيسيين، يختلفان في المرجعية والوظيفة والتوجّه.
الجناح الأول هو الجناح الأيديولوجي، ويضمّ بالدرجة الأولى ضباطاً وعناصر سابقين في الفرقة الرابعة والمخابرات العسكرية، يرتبطون عقائدياً وسياسياً بمحور حزب الله والحرس الثوري الإيراني. تركّز هذا الجناح بشكل أساسي في بعلبك–الهرمل، ويُقدَّر بأنه يشكّل ما بين 40 و45% من مجموع الفلول.
من أبرز الأسماء المتداولة ضمن هذه الدائرة: آصف أنيس وخليل درويش، وهما من الضباط الذين حافظوا على تماسك شبكاتهم بعد سقوط النظام.
أما الجناح الثاني، فهو الجناح البراغماتي، ويضمّ ضباطاً سابقين ومسؤولين أمنيين واقتصاديين لا يرتبطون أيديولوجياً بمحور معيّن، بل يعملون على إعادة تموضعهم خارج سوريا، مع الحفاظ على قنوات تواصل مع شخصيات نافذة في موسكو وأبوظبي.
يتقدّم هذا الجناح أسماء مثل جميل الحسن وخالد أيوب ومعضاد حسيني. هذا التيار يتركّز بشكل أكبر في بيروت وضواحيها، وأجزاء من جبل لبنان، ويُقدَّر بنحو 30 إلى 35% من مجموع الوجود.
بين الجناحين، توجد شريحة ثالثة أقل تنظيماً، تُشكّل النسبة المتبقية، تتحرّك بدافع البقاء فقط، وتستفيد من شبكات الحماية والتمويل من دون انخراط سياسي أو أمني فعّال.
ماذا عن عائلات الأسد والدائرة الضيقة؟
لا يقتصر الحضور على الضباط والعناصر، بل يمتدّ إلى عائلات من الدائرة الضيقة للنظام السابق. تشير معلومات أمنية لبنانية لـ"عربي بوست" إلى إقامة عائلات وأبناء بشرى الأسد في بيروت، وتحديداً نجلها مضر شوكت، إضافة إلى أحفاد رئيس مكتب الأمن القومي السابق علي مملوك.
هؤلاء لا يعيشون في عزلة، بل يتحرّكون في الفضاء الاجتماعي للعاصمة، ويترددون على مطاعم ومقاهي وسط بيروت، في نمط حياة طبيعي ظاهرياً.
اللافت، وفق مصادر مطلعة، أنّ تحركات هذه العائلات تتمّ بمرافقة أمنية غير مُعلنة، يُرجَّح أنّها تابعة لرجال أعمال مقربين من حزب الله، أو منسّقة معه، من دون أي غطاء رسمي لبناني واضح. هذا الحضور، رغم محدوديته العددية، يحمل دلالة سياسية وأمنية، لأنه يعكس مستوى الحماية الممنوحة للدائرة الأكثر قرباً من النظام السابق.
مراقبة السفارة السورية والتحرّكات الرسمية
تكشف معطيات أمنية سورية خاصة لـ"عربي بوست"، نُقلت إلى الجانب اللبناني، أنّ عدداً من الضباط والعناصر السابقين في لبنان قاموا بمراقبة السفارة السورية في بيروت، ورصد تحركات وزيارات المسؤولين السوريين، خصوصاً خلال الزيارات الرسمية وغير المعلنة.
هذه الأنشطة لم تكن عشوائية، بل منظّمة، وجرت عبر توزيع أدوار ومناوبات، مستفيدة من الانتشار الجغرافي الواسع وسهولة الحركة. هذه المعطيات كانت من بين الأسباب التي دفعت دمشق إلى التعامل مع الملف كتهديد أمني مباشر، وليس مجرد تركة بشرية للنظام السابق.
بحسب مصادر دبلوماسية، نقلت كلٌّ من السعودية وتركيا تحذيرات واضحة إلى بيروت من مخاطر ترك هذا الملف دون معالجة. القلق الأساسي، وفق هذه الرسائل، يتمثّل في احتمال تسييل هذا الوجود في لحظة تفاوض أو صدام مع القيادة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، واستخدامه كخط هجومي غير مباشر لإثارة الفوضى داخل سوريا.
في هذا السياق، زار مساعد مدير المخابرات السورية العميد عبد الرحمن الدباغ بيروت يوم الأربعاء 17 ديسمبر/كانون الأول، وسلّم المسؤولين اللبنانيين لائحة مفصّلة تضم أسماء الضباط والعناصر، أماكن تواجدهم، أرقام هواتفهم، ونمط تحركاتهم. الزيارة وُصفت في الأوساط الأمنية بأنها "اختبار جدّي" لقدرة الدولة اللبنانية على التعامل مع الملف خارج منطق التسويف.
البعد الأمني: تجميد الخطر بدل تفكيكه
أمنياً، لم تكن الدولة اللبنانية في موقع يسمح لها بخيارات واسعة. ففتح ملف 11 ألف عنصر وضابط سابق دفعة واحدة يعني الدخول في اشتباك مع شبكات حماية داخلية، ومع توازنات سياسية دقيقة، ومع أطراف إقليمية لا ترغب حالياً في تفكيك هذه الكتلة.
لهذا، جرى اعتماد مقاربة التجميد الأمني: مراقبة غير معلنة، ضبط حركة جزئي، وتفويض فعلي لقوى أمر واقع في بعض المناطق لضبط هذه التجمعات ومنع تسييلها. هذا النموذج بدا واضحاً في بعلبك–الهرمل، حيث يُفضَّل إبقاء الكتلة البشرية تحت عين واحدة قادرة على الضبط، على توزيعها عشوائياً بما يزيد احتمالات الانفلات.
لكن هذا التجميد يحمل مخاطر بنيوية. فالعناصر المجمّدة لا تُعاد تأهيلها، ولا تُفكّك شبكاتها، ولا تُفصل عن مرجعياتها السابقة. هي فقط في حالة انتظار. والانتظار في الملفات الأمنية غالباً ما يكون أخطر من الحركة.
البعد السياسي اللبناني: الانقسام يمنع القرار
في هذا الإطار، لفت مصدر حكومي لبناني رفيع إلى أنّ خطورة هذا الوجود لا تتوقف عند أبعاده السورية الداخلية، بل تطال صلب البنية الأمنية اللبنانية. ويقول لـ"عربي بوست" إن تمركز فلول النظام السوري السابق في مناطق مختلطة طائفياً، سواء في أطراف مدن كبرى أو بلدات ذات حساسية اجتماعية، يخلق قابلية عالية للاحتكاك.
وأضاف أنّ مراقبة الأجهزة الأمنية اللبنانية، المتقاطعة مع معلومات واردة من أجهزة خارجية، تُظهر أنّ هذا التموضع "ينذر بإمكان انفجار توترات طائفية مستقبلية، قد تبدأ كسجالات أو إشكالات سورية–سورية داخل التجمعات نفسها، لكنها مرشّحة للتمدّد سريعاً إلى توترات سورية–لبنانية، بما يعيد فتح خطوط تماس نعتقد أنّها أُقفلت منذ سنوات."
ويضيف المصدر أنّ القلق يتضاعف مع توفّر مؤشرات عن تسليح محدود ومنضبط لجزء من هذه المجموعات، موضحاً أنّ المعطيات لا تتحدث عن انتشار علني للسلاح أو مظاهر عسكرة واسعة، بل عن حيازة انتقائية لأسلحة خفيفة ووسائل حماية فردية، واحتفاظ بعض العناصر بقدرات قتالية أساسية "تحت سقف الضبط"، ما يكفي، برأيه، لتحويل أي احتكاك موضعي إلى حادث أمني قابل للتدحرج.
ويشدّد المصدر على أنّ هذا التسليح "لا يُقصد به حالياً فتح جبهات"، لكنه يشكّل عامل ترهيب وضغط داخل البيئات المختلطة، ويُبقي احتمالات الانفلات قائمة إذا ما تغيّرت الظروف.
وفي البعد الإقليمي، يحذّر المصدر من أنّ استمرار قنوات التواصل مع بعض هذه المجموعات عبر مفاتيح ناشطة خارج البلاد، ولا سيما بين الإمارات وروسيا والعراق، يرفع منسوب المخاطر، إذ يفتح الباب أمام تسييل هذا الوجود في سياقات إقليمية متصارعة.
ويختم بالقول إنّ هذا المسار، إذا استمر، قد يدفع لبنان تدريجياً إلى موقع ساحة لتصفية حسابات أمنية وسياسية بالواسطة، وهي كلفة لا تمتلك الدولة أدوات كافية لاحتوائها إذا ما خرجت عن السيطرة.
تأثير مباشر على العلاقة اللبنانية – السورية
هنا تحديداً، يتحوّل وجود فلول النظام السابق في لبنان من ملف داخلي إلى عامل توتير مباشر في العلاقة مع دمشق الجديدة. فالحكومة السورية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لا تنظر إلى هؤلاء كلاجئين سياسيين أو ضحايا مرحلة سابقة، بل كتهديد أمني مؤجّل، قادر على تعطيل الاستقرار الداخلي إذا ما جرى تحريكه.
دمشق ترى أنّ بقاء هذا العدد الكبير من الضباط السابقين في بلد مجاور، من دون ضبط قانوني، ومن دون تنسيق أمني فعّال، يشكّل خللاً بنيوياً في أي محاولة لبناء علاقة طبيعية مع بيروت. فكيف يمكن الحديث عن تنسيق أمني أو إعادة فتح ملفات حدودية أو اقتصادية، في ظل وجود شبكات أمنية سورية سابقة تعمل بحرية نسبية داخل الأراضي اللبنانية؟
هذا ما يفسّر التحوّل في النبرة السورية خلال الأسابيع الماضية، من المراقبة الصامتة إلى الضغط المباشر. زيارة مساعد مدير المخابرات السورية العميد عبد الرحمن الدباغ إلى بيروت، وتسليم لوائح أسماء وتحركات، لم تكن خطوة تقنية، بل رسالة سياسية واضحة: دمشق تعتبر الملف اختباراً جدّياً لجدّية الدولة اللبنانية في فتح صفحة جديدة.
المصادر الأمنية اللبنانية تقرّ بأن هذه الخطوة وضعت بيروت في موقع حرج. فالتجاوب الكامل مع المطالب السورية يعني فتح ملف داخلي شديد الحساسية، فيما تجاهلها يعني عملياً تثبيت الشكوك السورية بوجود نيات لبنانية – أو أطراف لبنانية – لاستخدام هذا الوجود كورقة ضغط مستقبلية.
لبنان اليوم أمام معادلة دقيقة: الاستمرار في إدارة الملف بالرمادية يجنّبه مواجهة داخلية آنية، لكنه يراكم توتراً سياسياً وأمنياً مع دمشق، ويضعه تحت مجهر إقليمي متزايد. وفي المقابل، فتح الملف من دون غطاء سياسي داخلي جامع قد يفتح أبواباً لا قدرة للدولة على ضبطها.
ما هو مؤكّد أنّ وجود فلول نظام الأسد في لبنان لم يعد تفصيلاً مؤقتاً، بل تحوّل إلى عامل بنيوي جديد في العلاقة اللبنانية–السورية، سيظل حاضراً في كل نقاش أمني أو سياسي مقبل، إلى أن يُتخذ قرار واضح: إمّا تفكيك هذا الوجود ضمن إطار قانوني–سيادي، أو القبول بأن يبقى لبنان ساحة انتظار لصراعات الآخرين.