لم تعد العلاقات المصرية القطرية حبيسة الإطار الدبلوماسي التقليدي، بل تحولت خلال عام 2025 إلى مسار متسارع من التقارب السياسي والتكامل الاقتصادي، في ظل تحولات إقليمية ضاغطة، أبرزها الحرب على قطاع غزة، وما فرضته من تنسيق بين القاهرة والدوحة لإدارة ملفات معقدة تتجاوز الوساطة السياسية إلى إعادة رسم خرائط الشراكات الاقتصادية والتمويلية.
هذا التحول لم يكن وليد لحظة، بل جاء تتويجاً لمسار بدأ منذ المصالحة الخليجية عام 2021، قبل أن يتسارع بوتيرة غير مسبوقة مع تصاعد الأزمات الإقليمية، واحتياج مصر إلى تنويع مصادر الاستثمار والتمويل، والبحث عن بدائل أقل كلفة سياسية واقتصادية من القنوات الغربية التقليدية والمؤسسات الدولية.
ويرصد هذا التقرير ملامح التطور المتسارع في العلاقات المصرية القطرية، من التنسيق السياسي حول غزة، إلى القفزات النوعية في الاستثمارات والتعاون في مجالات الطاقة والصناعة والسياحة، وصولاً إلى مؤشرات انتقال العلاقة من مرحلة التفاهم إلى شراكة اقتصادية واسعة، وإن لم تبلغ بعد مستوى "الشراكة الاستراتيجية الكاملة".
توجه مصري لإعادة ترتيب العلاقات العربية
مصدر مصري مسؤول قال لـ"عربي بوست"، إن التقارب مع قطر لا ينفصل عن توجه مصري أوسع لإعادة ترتيب العلاقات العربية بعيداً عن الاستقطابات الحادة التي سادت في العقد الماضي، موضحاً أن القاهرة تستخدم التعاون مع قطر كبديل جزئي وذكي للتعاون الغربي/الأمريكي في ملفات اقتصادية محددة في محاولة لتحرير نسبي للاقتصاد المصري من الاحتكار الغربي لمصادر التمويل، دون كسر التحالفات التقليدية".
ويوضح المصدر أن العلاقات بين مصر وقطر أخذت تطوراً متسارعاً منذ المصالحة، ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بلغ التعاون والتنسيق مستويات رفيعة، وهناك رؤية مشتركة بين البلدين تجاه التعامل مع كثير من قضايا المنطقة، وسمح بوجود روابط مشتركة وتطوير العلاقات الثنائية بما يسهل التعامل مع قضايا محورية في مقدمتها الأطماع الإسرائيلية.
حسب المصدر الحكومي المصري فإن تطوير العلاقات المصرية القطرية يأتي في إطار تطور العلاقات المصرية الخليجية بوجه عام، وهي رافعة للعمل العربي المشترك، وأن التحديات التي تواجه مصر ودول الخليج تفرض هذا التقارب الذي يأتي على مستويات اقتصادية وسياسية مختلفة.
لكن المصدر ذاته شدد على أن العلاقات مع قطر لم تصل بعد إلى "الشراكة الاستراتيجية" الكاملة وما زالت تقف عند حدود التعاون السياسي والاقتصادي ولم تصل بعد إلى مستويات عسكرية متطورة.
وشدد على أن طبيعة العلاقة مع قطر أضحت متميزة في مجالات عديدة خاصة على المستويات الاقتصادية والتجارية، إلى جانب التنسيق بين الطرفين بشأن التحرك في الساحة الدولية والإقليمية، كما أن هناك تعاوناً أكثر تقدماً في مجالات الطاقة والوقود وهو اتجاه من المتوقع أن يأخذ منحنى تصاعدياً خلال الفترة المقبلة.
كما أن مصر لديها الرغبة في تعزيز الشراكة الصناعية مع دولة قطر وفتح آفاق واسعة لعمل الشركات القطرية في مصر لكي تصبح بوابة لها للوصول إلى أفريقيا في ظل علاقات قطرية أفريقية متميزة.
مؤشرات التعاون بين القاهرة والدوحة
هناك تطور في مؤشرات التعاون الاقتصادي بين مصر وقطر، وفق وزير الاستثمار والتجارة الخارجية المصري، والذي شدد على أن حجم الاستثمارات القطرية في مصر بلغ نحو 3.2 مليار دولار، موزعة على أكثر من 266 شركة، تعمل في قطاعات متنوعة، منها المالي والصناعي والسياحي.
وأشار المتحدث إلى ارتفاع التبادل التجاري بين البلدين، ليصل إلى 143 مليون دولار خلال العشرة أشهر الأولى من العام الحالي، في مقابل 80 مليون دولار عام 2023 بمعدل نمو يقترب إلى 80%.
وتشهد العلاقات المصرية – القطرية تطوراً نوعياً الفترة الحالية، بعد زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للدوحة في أبريل/نيسان 2025، وأعلنت قطر وقتها دعم الشراكة الاقتصادية مع مصر، من خلال الإعلان عن حزمة من الاستثمارات المباشرة بقيمة 7.5 مليار دولار.
ووقّعت مصر وقطر، في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عقد شراكة استثمارية لتنمية منطقة "سملا وعلم الروم" بالساحل الشمالي الغربي بمحافظة مطروح (شمال غربي مصر) بقيمة تبلغ نحو 29.7 مليار دولار.
كما وقعت مصر مع شركة "المانع" القابضة القطرية، عقد مشروع لإنتاج وقود الطائرات المستدام، بمنطقة السخنة التابعة للهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بتكلفة استثمارية تبلغ 200 مليون دولار.
وبحسب مصدر حكومي مصري فإن مشروع وقود الطائرات من زيوت الطعام المستعملة ليس مجرد مشروع بيئي، بل رسالة سياسية واقتصادية بأن القاهرة تمتلك اليوم خيارات أكثر مما كان متاحاً لها قبل سنوات.
وأوضح أن القاهرة بحاجة إلى تدفقات نقدية سريعة دون برامج تقشف مرافقة وتحتاج لشركاء لا يربطون الاستثمار بحزم إصلاح سياسي أو حقوقي، فضلاً عن وجود رغبة قوية في توسيع هامش المناورة أمام المؤسسات المالية الغربية.
مرحلة جديدة من التعاون بين مصر قطر
المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست" شريطة عدم ذكر اسمه، قال إن العلاقات المصرية القطرية دخلت مرحلة جديدة هذا العام من التعاون السياسي والاقتصادي، وذلك على إثر صفقات الاستحواذ القطرية على مناطق سياحية مهمة، وكذلك في ظل تنسيق المواقف بشأن الأوضاع في قطاع غزة.
واعتبر المتحدث أن الجانب الاقتصادي يشكل قاطرة لتطور العلاقات بين البلدين، وأن الدوحة تحاول الاستفادة من مناخ الاستثمار في مصر حالياً، بالمشاركة بمشروعات استثمارية في الساحل الشمالي المصري، وفي المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وفي قطاعات السياحة والصناعة والعقارات.
وأوضح المصدر ذاته أن الحكومة المصرية تعمل على تهيئة مناخ الاستثمار أمام المستثمرين القطريين في مختلف المجالات، بهدف تفعيل حزمة الاستثمارات التي جرى الإعلان عنها بين البلدين وقيمتها 7.5 مليار دولار.
وتضع القاهرة في اعتبارها إمكانية الحصول على الغاز القطري ولكن عبر عقود طويلة الأجل من المتوقع أن يتم التوصل إليها خلال الفترة المقبلة حتى بعد تمرير صفقة الغاز الإسرائيلي، مشيراً إلى أن المشكلة تتمثل في أن العقود طويلة الأجل تتطلب ميزانيات هائلة وهو ما يقف عائقاً أمام مصر، لكن التطور الراهن في العلاقات يشي بإمكانية التوصل إلى صفقة من هذا النوع.
الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير البترول المصري كريم بدوي إلى الدوحة تمثل نقطة تحول في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، خصوصاً في ملف الغاز الطبيعي الذي يشكل أولوية قصوى للأمن القومي المصري، حيث تناولت سبل تسريع تنفيذ مشروعات مشتركة للغاز الطبيعي، وتوقيع عقود طويلة الأجل لتوريد الغاز القطري لمصر.
وخلال هذا الأسبوع التقى وزير البترول والثروة المعدنية المصري كريم بدوي بوزير الدولة لشؤون الطاقة بدولة قطر، سعد بن شريدة الكعبي، على هامش مشاركته في الاجتماع الوزاري لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) بالكويت، وبحث اللقاء، سبل تعزيز العلاقات بين البلدين في مجال الطاقة.
استعرض اللقاء، استثمارات شركة قطر للطاقة في مصر، باعتبارها شريكاً في عدد من مناطق البحث عن الغاز بالبحر المتوسط، بجانب فرص التعاون الممكنة وإقامة شراكات في مجالات البتروكيماويات، وتنمية موارد الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال، وفرص التعاون في مبادرات التحول الطاقي وبرامج الاستدامة البيئية.
كما التقى نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية وزير الصناعة والنقل كامل الوزير، قبل أيام، مع أحمد بن محمد السيد وزير التجارة الخارجية بدولة قطر مؤكداً أن التقارب بين البلدين يعكس توافقاً في الرؤى وحرصاً مشتركاً على تعزيز التعاون الاقتصادي والصناعي.
وأوضح كامل الوزير أن الدولة المصرية تولي أهمية كبيرة لدفع الشراكات مع قطر لا سيما في المشروعات التكاملية التي تقوم على تعظيم الاستفادة من الإمكانات المتاحة وتبادل الخبرات، بما يحقق المصالح المشتركة ويدعم مسارات التنمية المستدامة في البلدين.
وأشاد نائب رئيس الوزراء وزير الصحة المصري، خالد عبد الغفار، بالتعاون المتطور بين بلاده وقطر خلال السنوات الأخيرة، حيث شهدت العلاقات بين البلدين تطورات لافتة على المستويين السياسي والاقتصادي، وذلك خلال مشاركته في احتفالية العيد الوطني لدولة قطر، التي نظمتها السفارة القطرية في القاهرة، مساء الثلاثاء.
استفادة مشتركة.. هذه ملامحها
بحسب خبير اقتصادي فإن قطر لديها مصلحة في الاستفادة من الفرص الاستثمارية المصرية كما أن القاهرة لديها رغبة في تعزيز التعاون مع الدوحة في مجالات الطاقة، خاصة أن البلدين أعضاء بمنتدى الدول المصدرة للغاز الذي يضم أكبر منتجي الغاز على مستوى العالم، وأن هذا التنسيق يدعم مصالح البلدين في صياغة السياسات الدولية للطاقة، لا سيما أن المنتدى يضم دولاً تُمثل نحو 70% من احتياطيات الغاز العالمية.
ولفت إلى أن نقطة التحول في علاقات البلدين تمثلت في الاستثمار القطري الضخم في مشروع منطقة "سملا وعلم الروم" بالساحل الشمالي الغربي، كونها ليست مجرد صفقة استثمارية، بل هو إعلان عن تحالف اقتصادي سياسي جديد يؤكد أن الاقتصاد أصبح لغة السياسة الحديثة، مشيراً إلى أن هذا المشروع يعكس تطور العلاقات القطرية-المصرية إلى آفاق أرحب.
وأكد أن العلاقات بين البلدين تشهد تطوراً كبيراً وتقارباً استراتيجياً يعكسان وعي البلدين بأهمية التكامل في مواجهة التحديات الإقليمية، وتعزيز التنمية المشتركة، كما أن تلك العلاقة بين البلدين تجاوزت البعد السياسي إلى فضاء اقتصادي وتنموي متكامل، يتجسد في مشاريع كبرى واستثمارات مشتركة بما يمثل نواة حقيقية لتشكيل سوق عربية مشتركة وخطط تنموية متناسقة تخدم البلدين.
وذكر المتحدث أن الاستثمارات القطرية في مصر تمثل عنصر دعم مباشر للاقتصاد، وتوفر لمصر قدرة أكبر على الصمود في مواجهة الضغوط الاقتصادية، مؤكداً أن التنويع في مجالات الاستثمار من التطوير العقاري والصناعي إلى السياحة يعزز الاستقرار الاقتصادي، ويسهم في خلق فرص عمل وتحسين معدلات النمو.
وأوضح أن هذا التكامل بين الدوحة والقاهرة يعكس "رؤية شاملة" تقوم على توظيف القدرات المشتركة في خدمة الأمن والتنمية في البلدين والمنطقة. وتطرق إلى بعد آخر في التفاهمات الاقتصادية والسياسية تتعلق بالتنسيق بشأن خطوات إعادة الإعمار في غزة والاستقرار على اللجنة التي ستدير القطاع بعد وقف الحرب.
ورغم أن الدوحة لوحت بعدم المشاركة في عملية إعادة الإعمار المتعثرة، لكن في حال جرى استكمال خطة السلام التي قدمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب فإنها من المتوقع أن تكون أكثر انفتاحاً، وسوف تستجيب لرغبة القاهرة لحشد الجهود الإقليمية والدولية قبل مؤتمر إعادة الإعمار.