في الأسابيع الماضية، بدأت تتسرب أسماء من خلف الكواليس السياسية في طرابلس وبنغازي، لتكشف عن "فوضى" في طريقة تشكيل "الحوار المهيكل" الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة. شخصيات تتلقّى دعوات مجهولة، ناشطون يُدرجون باسم منظمات لم يعرفوا عن ترشيحهم شيئاً، وبلديات تتفاجأ بوجود ممثلين يُزعم أنهم يمثلون سكانها.
ويُعد "الحوار المهيكل" أحد المكونات الأساسية لخارطة الطريق السياسية التي وضعتها بعثة الأمم المتحدة لدعم الليبيين في سعيهم لمعالجة الإشكالات المعقدة والسعي نحو الاستقرار والازدهار، بحسب ما أعلنته الممثلة الخاصة للأمين العام في ليبيا، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن في شهر أغسطس/آب 2025.
خلف هذه المشاهد، يظل الشرق الليبي بقيادة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، يرفض المسار من أساسه، بينما تحاول حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس التي يقودها عبد الحميد الدبيبة، دعمه، فيما يطرح الليبيون السؤال الذي أصبح ملازماً لكل مسار سياسي: من يملك حق التحدث باسمهم؟ من يجلس في هذه اللجان وكيف جرى اختياره؟
غرفة الفرز الأممية: تفويض واسع وغموض بالقوائم
"الحوار المهيكل"، وفق البعثة الأممية في ليبيا، صُمّم كمنصة لتوسيع دائرة التشاور ووضع تفاهمات ليبية تساعد على الخروج من الانسداد، ويشمل أربعة محاور رئيسية: الاقتصاد، الأمن، الحوكمة، وحقوق الإنسان ما في ذلك المصالحة الوطنية.
وتوضح البعثة في صفحة "أسئلة وأجوبة" أنها صاغت خارطة الطريق الحالية استناداً إلى توصيات لجنة استشارية من خبراء ليبيين، وإلى مشاورات حضورية وعبر الإنترنت شارك فيها أكثر من 26 ألف ليبي وليبية من مختلف الفئات. وتشدد على أن المسار ليس هيئة تنفيذية جديدة ولا بديلًا عن المؤسسات القائمة.
تجربة ملتقى الحوار السياسي عام 2020، الذي انتهى بتشكيل حكومة عبد الحميد الدبيبة، ما زالت حاضرة في ذاكرة كثيرين، 75 اسماً قُدمت على أنها تمثل "الطيف الليبي"، مع وعود بالتوازن الجغرافي والسياسي والمجتمعي، لكن من دون معايير مكتوبة واضحة أو آلية اعتراض معلنة على الأسماء.
كلوديا غازيني، كبيرة محللي الشأن الليبي في مجموعة الأزمات الدولية، أوضحت لـ عربي بوست: "في حوار 2020 الذي قادته ستيفاني ويليامز، كانت الأمم المتحدة أكثر وضوحاً: 75 عضواً بينهم حصص محددة يختارها مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، والباقي تختاره البعثة من مكوّنات أوسع في المجتمع الليبي".
لكن اليوم، تضيف غازيني "ما نفهمه هو أن البعثة دعت مؤسسات ليبية مختلفة لإرسال ترشيحاتها للحوار المهيكل، نفترض مجلس النواب، المجلس الأعلى، وربما البلديات وبعض المؤسسات الأخرى، لكن من دون وضوح كامل حول من هي هذه المؤسسات بالضبط، وهل ستختار الأمم المتحدة أيضاً جزءاً من المشاركين بشكل أحادي كما في السابق".
حسب المحللة المتخصصة في الشأن الليبي فإن الغموض لا يتعلق فقط بكيفية تشكيل الحوار، بل أيضاً بهدفه: "هل سيناقش قوانين الانتخابات؟ ترتيب المراحل بين الدستور والحكومة والانتخابات؟ أم تمهيد لتشكيل حكومة جديدة؟ كل هذا ما زال غير محسوم، ما يزيد الشكوك حول المسار برمته".
في بياناتها الرسمية، تقول بعثة الأمم المتحدة إنها تسعى هذه المرة إلى إشراك طيف أوسع من الفاعلين، وأن الحوار المهيكل صُمّم لمنع احتكار العملية السياسية من الأطراف المستفيدة من الوضع القائم.
وتتعهد بوضع معايير اختيار واضحة تُنشر للرأي العام، وتضمن التوازن الجغرافي والتمثيل الواسع للمجتمع الليبي، ما في ذلك النساء والشباب والمكوّنات الثقافية والمجتمع المدني، مع بناء "شراكات متينة" مع البلديات المنتخبة والأحزاب والنقابات.
بهذه اللغة، تقدّم البعثة "الحوار المهيكل" كمسار يقطع مع احتكار النخب التقليدية، ويحوّل "الفرز" من عملية مغلقة بين السياسيين إلى عملية أوسع يشترك فيها المجتمع، لكن أصواتاً من الداخل ترى أن الفجوة بين الخطاب وما يجري فعلياً في كواليس الترشيح والاتصال ما زالت واسعة.
نواب وأحزاب: انفتاح أم التفاف على المؤسسات؟
بالنسبة لعضو مجلس النواب الليبي، النائبة أسمهان بلعون، فإن البعثة لا تتعامل فقط مع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وبعض المؤسسات الرسمية، بل تتجه مباشرة إلى بلديات وجامعات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني، وتقدّم ذلك على أنه كسر لاحتكار الأجسام التقليدية لمقاعد التمثيل.
بلعون أوضحت لـ"عربي بوست" أن المشكلة ليست في إشراك هذه الجهات، بل في أن يتم ذلك "من فوق" وبتواصل مباشر يتجاوز المؤسسات المنتخبة والتسلسل المؤسسي للدولة.
وقالت "عندما تخاطَب الجامعات والبلديات من وراء ظهر الجهات الدستورية والتنفيذية المختصة، فهذا يمسّ بمبدأ السيادة، ويقدّم ليبيا كفسيفساء من الفاعلين المنفصلين، لا كدولة لها مؤسسات يجب احترامها. بهذه الطريقة، نخشى أن تتحول عملية التمثيل إلى شبكة جديدة من الوسطاء المقرّبين من البعثة، بدل أن تُخضَع لقواعد واضحة وقابلة للمساءلة أمام الشعب".
من جهتها، ترى الأكاديمية السياسية المستقلة الدكتورة فيروز النعاس أن إدارة البعثة للمسار السياسي هي في الحقيقة إدارة للأزمة، وليست سعياً حقيقياً لإنهائها، وهي تحرص على المحافظة على استمرار وديمومة الوضع الراهن.
وأوضحت النعاس في تصريح لـ"عربي بوست" أن التأكيد المستمر على أن الحوار المهيكل مجرد جسم يقدم توصيات ولا يحق له اتخاذ أي قرارات يدفعنا للتساؤل: ما الذي سيقدمه الحوار المهيكل مختلفاً عمّا قدمته اللجنة الاستشارية؟ ولماذا تكرار نفس العمل وبذل نفس الجهد في شيء سبق أن أشرفت عليه البعثة نفسها؟
الطريق الواضح والوحيد نحو إنهاء الأزمة الحالية، وفق الأكاديمية السياسية المستقلة الدكتورة فيروز النعاس، هو الذهاب إلى مرحلة تأسيسية بخطة زمنية واضحة ومهام محددة، تنتهي بإنهاء جميع الأجسام الحالية، بدل إعادة تدويرها في مسارات جديدة.
ما يحدث خلف كواليس الحوار المهيكل: "فرز هجين"
مصدر مطلع شارك في ترتيبات الحوار المهيكل كشف لـ"عربي بوست" أن البعثة خاطبت الأحزاب والجامعات والبلديات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وطلبت من كل مؤسسة ترشيح خمسة أسماء (ثلاثة رجال وامرأتين) مع مراعاة التمثيل الجغرافي والثقافي، وترك مساحة لترشيحات إضافية تختارها هي من خارج هذه المؤسسات.
المصدر أوضح أنه لاحقاً، عادت البعثة لتطلب تعديلاً في الترشيحات بحيث يكون المرشح الواحد ممثلاً لثلاثة أحزاب معاً، ما أثار احتجاجات داخل التكتلات الحزبية. بعض ممثلي التكتلات قالوا للبعثة: هذه قوائمنا، اختاروا منها ما تشاؤون، لكن لا تطلبوا إعادة التسمية. في النهاية، قبلت البعثة بالأمر الواقع في بعض الحالات.
الملاحظة الأهم أن التواصل مع من وقع عليهم الاختيار لم يتم دائماً عبر القنوات الرسمية، بل عبر مكالمات هاتفية مباشرة، وطلب من البعض عدم إبلاغ مؤسساتهم. هكذا ظهرت قائمة هجينة: جزء منها ترشيحات مؤسسات، وجزء منها اختيارات أقرب إلى "قائمة أصدقاء البعثة والدول الداعمة"، مع فراغات تُملأ بحسب علاقات بعض الموظفين الليبيين في البعثة ومحيطها.
الشرق خارج المسار: حوار "لا يعبّر عن الليبيين"
في الشرق الليبي، لم يتوقف الاعتراض عند تفاصيل آلية الفرز، بل وصل إلى رفض المسار من أساسه. حكومة أسامة حمّاد أعلنت تعليق التعاون مع بعثة الأمم المتحدة على خلفية اتفاق دعم مالي مع قطر للحوار السياسي، وقدّم معسكر الشرق ذلك كدليل على أن المسار "مفروض من الخارج" ولا يراعي توازن القوى على الأرض.
محمد امطيريد، أحد الوجوه السياسية في الشرق، يقول في مداخلة مسجلة لـ"عربي بوست" إن الحوار المهيكل كما طُرح اليوم يعبّر عن بعثة الأمم المتحدة أكثر ما يعبّر عن الليبيين.
وأوضح "نحن في الشرق رفضناه لأنه لا يقوم على توزيع عادل، ولأننا نرى اختراقات واضحة في آلية تشكيله، بدءاً من اللجنة في جنزور مروراً بالمكتب الملازم للبعثة الذي لا يقوم بدوره كما يجب".
امطيريد عبر عن خشيته من "تكرار تجربة جنيف وتونس وكل الحوارات التي جاءت بإملاءات من الخارج. البعثة تبحث عن أسماء متهالكة لا تملك سلطة القرار، وتستبعد الأسماء النافذة ذات الوزن السياسي والعسكري والمشاريع المبنية على تضحيات شهداء، و الاتفاق مع دولة واحدة، لتمويل الحوار يفتح باب الشك في حياد المسار.
كما أضاف المتحدث أن الخطة نفسها لا تقود إلى انتخابات قريبة، بل إلى مرحلة انتقالية جديدة من عدة سنوات، "لهذا، رغم ترشيحي، قررت الانسحاب لأننا لا نرى أن هذا المسار يحقق مطلبنا الأساسي: حل سياسي يقود إلى انتخابات عاجلة".
الضحايا والحقوقيون: من يملك حق الكلام؟
وسط صراع الشرعيات بين البعثة والأجسام السياسية والشرق والغرب، تبدو فئات أخرى، مثل الضحايا والمدافعين عن حقوق الإنسان، غائبة تماماً عن مركز صناعة القرار، رغم ذكرها في بيانات البعثة.
الناشط الحقوقي علي العسبلي أوضح لـ"عربي بوست" أن صوت الضحايا ليس غائباً بل مُغَيَّباً بشكل متعمداً عن كل المسارات السياسية والحوارات الحالية، وآخرها الحوار المهيكل، وقال "الأطراف على الطاولة لا تمثل الضحايا، بل تمثل قدرتها على فرض نفسها بقوة السلاح أو المال أو النفوذ القبلي والجهوي".
بحسب الناشط الحقوقي فإن بعثة الأمم المتحدة "أعادت تدوير نفس الشخصيات، وتعامل ملف العدالة كزينة تُضاف إلى البيانات، لا كجزء أساسي من أي ترتيب سياسي. أي مسار لا يمنح هؤلاء تمثيلاً حقيقياً سيعيد إنتاج نفس الفشل ويدفع ليبيا إلى تدوير الأزمة بدل حلّها".
ماذا عن منطق اللجنة الاستشارية؟
من داخل "مطبخ" خارطة الطريق، يرى الخبير القانوني وعضو اللجنة الاستشارية المستشار أن المشكلة لا تتعلق فقط بقوائم الحوار، بل بغياب تنفيذ الشروط الفنية والسياسية لإنجاح أي استحقاق انتخابي، مثل استكمال مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أو إعادة تشكيله، "هذا ليس تفصيلاً إدارياً، بل ضمانة أولى لأي عملية انتخابية".
بالنسبة لحذيفة فإن الليبيين في حاجة إلى تسوية سياسية شاملة تتضمن تصحيح وضع المفوضية، توفير التمويل والإجراءات الأمنية للعملية الانتخابية، تعديل الإعلان الدستوري والقوانين الانتخابية، وتشكيل سلطة تنفيذية جديدة واحدة تشرف على المرحلة الانتقالية الأخيرة. والرسالة الأهم للأطراف المحلية "الالتزام بخارطة الطريق الأممية وعدم عرقلتها بقرارات أحادية تزيد الانقسام".
الخلاصة: من يملك حق فرز الليبيين؟
بعد أكثر من عقد من الحروب والمسارات والاتفاقات، لم تعد أزمة ليبيا فقط في غياب دستور أو حكومة موحّدة، بل أيضاً في من يملك حق تمثيل من.
- البعثة الأممية تتحرك بين رغبتها في توسيع التمثيل وخطر التحول إلى "غرفة فرز دولية".
- الأجسام السياسية تدافع عن شرعيتها.
- الشرق والغرب يتنازعان على القول الفصل.
- الضحايا والنساء والشباب وشرائح واسعة من المجتمع يكتشفون أن دورهم ينتهي بمجرد تكوين القوائم الفعلية.
وحتى يتم معالجة هذا الأمر، سيظل كل حوار جديد مهدداً بأن يُقرأ على أنه قوائم أُعدّت بين البعثة والنخبة، ثم قيل لليبيين: هذه أسماءكم.. وهذه قراراتكم. وما لم يتحول سؤال "من يفرز الليبيين؟" إلى بند أساسي في تصميم أي مسار سياسي، سيبقى شعور الليبيين بأنهم خارج غرفة اتخاذ القرار أقوى من أي بيان رسمي.