جيوش مؤجرة.. كيف تعزز الشركات الأمنية الأمريكية الخاصة نفوذ واشنطن العسكري في الشرق الأوسط؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/11/28 الساعة 05:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/11/28 الساعة 06:02 بتوقيت غرينتش
الشركات الأمنية الأمريكية تدعم نفوذ واشنطن العسكري في الشرق الأوسط - عربي بوست

تتحول الشركات الأمنية الأمريكية الخاصة إلى أداة متزايدة الأهمية تستخدمها الولايات المتحدة لإعادة هندسة حضورها العسكري في الشرق الأوسط، ولا سيما في مناطق النزاع، إذ توفر حضوراً يسمح لواشنطن بالبقاء مؤثرة دون انخراط مباشر منها، وذلك من خلال "جيوش مؤجرة" يقف خلفها عسكريون سابقون من المحاربين القدامى وشخصيات استخباراتية متقاعدة.

يُبيِّن تبَع نشاط الشركات الأمنية الأمريكية في المنطقة أن نطاق عملها يمتد من العراق وسوريا إلى اليمن وليبيا وصولاً إلى غزة، ويتزامن هذا الانتشار مع رغبة الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تجنّب تورّط الجيش الأمريكي مباشرةً في مناطق الصراع، مع الإبقاء في الوقت ذاته على نفوذ يصعب تحقيقه في حالة الانسحاب الكامل.

وتظهر بيانات رسمية أمريكية وبيانات أخرى من المصادر المفتوحة متعلقة بنشاط الشركات الأمنية حجم التحوّل في الاعتماد على المتعاقدين بدلاً من الجنود النظاميين، إذ تؤدي هذه الشركات أدواراً كانت حكراً على الجيوش، لتصبح بذلك ذراعاً غير رسمية تتحرك بما لا يتعارض مع المصالح الأمريكية، وتظهر في بؤر التوتر كجزء من مشهد يُدار جزء منه بأيادٍ أمريكية لكن بلا جيش أميركي معلن.

ولادة "الجيوش المؤجرة"

شكّلت حرب العراق التي قادتها الولايات المتحدة عام 2003 نقطة تحوّل مفصلية في صعود الشركات الأمنية الخاصة؛ إذ فتح طول أمد الحرب الباب واسعاً أمام الاعتماد الأمريكي المتزايد على المتعاقدين لدعم العمليات العسكرية الأمريكية.

مع مرور الوقت، أصبحت الاستعانة بالمتعاقدين ــ ما في ذلك تنفيذهم لمهام قتالية ــ جزءاً طبيعياً من طبيعة العمل العسكري الأميركي في العراق، وكانت شركة "بلاك ووتر" في مقدمة هذه الشركات قبل أن تغيّر اسمها لاحقاً إلى Academi بعد سلسلة اتهامات بانتهاكات واسعة.

تُظهر تقارير سابقة لمكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي أن عدد المتعاقدين العاملين مع الجيش الأميركي في العراق عام 2008 بلغ نحو 190 ألفاً، وهو رقم لافت إذا ما قورن ببيانات الكونغرس الأمريكي التي أشارت إلى وجود 157,800 جندياً أميركياً عام 2008.

ومع اقتراب الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011 بلغ عدد الجنود الأميركيين 42,800 جندياً، ثم هبط الرقم بشكل حاد إلى 4100 جندي فقط عام 2012.

لم يكن هذا الانخفاض مجرد نتيجة طبيعية لانتهاء الحرب فحسب، بل أيضاً تجسيداً واضحاً لسياسة أميركية جديدة تقوم على تجنّب التدخلات العسكرية المباشرة واسعة النطاق، مقابل زيادة متصاعدة في الاعتماد على الشركات الأمنية الخاصة في الشرق الأوسط، ما يضمن لأمريكا نفوذاً فعالاً ومرناً في المنطقة.

الشركات الأمنية الأمريكية
عدد قوات الجيش الأمريكي في العراق خلال الفترة من 2003 وحتى 2012 – خدمة أبحاث الكونغرس

من يدير الشركات الأمنية الأمريكية الخاصة؟

تقف وراء الشركات الأمنية الأميركية الخاصة شبكة من العسكريين السابقين والمحاربين القدامى الذين انتقلوا من الخدمة الرسمية داخل الجيش إلى العمل في القطاع الخاص، مستفيدين من خبراتهم الواسعة في العمليات العسكرية ومن شبكات علاقاتهم داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية.

إلى جانب هؤلاء، يبرز حضور واضح لمسؤولين سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية وعناصر من القوات الخاصة، ما بات يشكل العمود الفقري لهذه الشركات ويعملون في بيئات إمّا تشهد نزاعات وحروب، أو مخاطر أمنية عالية، وذلك مقابل الحصول على عقود مالية ضخمة.

ولا يعمل هؤلاء العسكريون المتقاعدون بمعزلٍ تام عن الدولة الأميركية؛ فالقانون الفيدرالي الأميركي (1005.13) يفرض على منتسبي وزارة الدفاع ــ بمن فيهم المتقاعدون ــ عدم قبول أي وظيفة أو هدية أو مكافأة من حكومة أجنبية من دون الحصول على موافقة رسمية مسبقة.

الشركات الأمنية الأمريكية
القانون الفيدرالي الأميركي (1005.13) يفرض على منتسبي وزارة الدفاع عدم قبول أي وظيفة أو هدية أو مكافأة من حكومة أجنبية من دون الحصول على موافقة رسمية مسبقة

يُظهر نشاط هذه الشركات في الشرق الأوسط أدواراً حساسة تتجاوز الحراسة التقليدية، وتشمل حماية منشآت حيوية مثل حقول النفط والغاز، وتأمين المنشآت الدبلوماسية والحكومية الأميركية، إضافة إلى مهام التدريب وتنفيذ العمليات المتقدمة.

وتشير وثيقة صادرة عن خدمة أبحاث الكونغرس (2023) إلى أن المتعاقدين أصبحوا جزءاً أساسياً من الحضور العسكري الأميركي في الخارج، وفي بعض الفترات فاق عددهم عدد القوات النظامية في العراق وأفغانستان.

تلخص الوثيقة أسباب الاعتماد المتزايد على المتعاقدين بثلاثة عوامل رئيسية:

– تخفيف العبء عن العسكريين النظاميين وإتاحة المجال لهم للتركيز على العمليات القتالية الأساسية.

– توفير خبرات متخصصة في مجالات حيوية مثل اللغات والاستخبارات وصيانة الأنظمة المتقدمة.

– الاستجابة السريعة لاحتياجات ميدانية تتطلب قوة يمكن تعزيزها أو تقليصها بسهولة وبتكلفة سياسية أقل من نشر القوات النظامية.

خريطة انتشار الشركات الأمنية الخاصة

مع نهاية التدخل الأميركي الواسع في العراق، دخلت الشركات الأمنية الأميركية الخاصة مرحلة جديدة من حضورها في الشرق الأوسط، وامتد نشاطها من الخليج إلى بلاد الشام وليبيا.

أدّى انسحاب القوات القتالية الأميركية عام 2011 إلى إعادة هيكلة الوجود الأميركي في كلٍّ من العراق وسوريا، بحيث ملأت الشركات الخاصة الفراغ الذي خلّفه تراجع عدد الجنود النظاميين، لتصبح الذراع الميدانية الأساسية للنفوذ الأميركي.

في العراق، ومباشرة بعد الانسحاب الأمريكي، تولّت وزارة الخارجية الأميركية إدارة منظومة أمنية ضخمة تضم 5 آلاف متعاقد، لتأمين السفارة الأميركية والمواقع الدبلوماسية. وسرعان ما أصبحت شركات مثل Constellis/Triple Canopy خط الدفاع الأول عن الوجود الأميركي، تتولى حماية القوافل وتأمين القواعد وتشغيل البنية الأمنية اليومية في بيئة ما تزال هشة.

وبحلول أواخر عام 2020، كان في العراق وسوريا أكثر من 1400 متعاقد أمني، من بينهم نحو 900 في مهام حماية وتدريب، بينما كانت الأعداد تتغير تبعاً لمستوى التوتر والصراع.

تبيّن بيانات وزارة الدفاع الأميركية أن الوجود العسكري الرسمي في سوريا يقتصر على نحو 500 جندي فقط، لكن هذا الرقم يخفي اعتماداً واسعاً على المتعاقدين الذين يتولون المهام اللوجستية والأمنية في مواقع نائية تُعد من الأكثر خطورة في المنطقة.

كانت خدمة الأبحاث التابعة للكونغرس قد نشرت في 2022 إحصائية لعدد المتعاقدين مع الجيش الأمريكي في سوريا والعراق قبل أن تحذف التقرير، لكن نسخة مؤرشفة منها لا تزال متاحة على الإنترنت، وتُظهر أنه سجّلت وزارة الدفاع وجود نحو 6770 متعاقد يعملون في العراق وسوريا، مقابل نحو 4500 جندي أمريكي في كلا البلدين.

الشركات الأمنية الأمريكية
عدد المتعاقدين الذين عملوا مع أمريكا في العراق وسوريا عام 2022 – خدمة أبحاث الكونغرس

اليمن وليبيا.. يد الشركات الأمنية تصل إليها 

لم يكن اليمن ساحة تقليدية للوجود الأمني الأميركي الخاص، لكن عام 2018 تكشفت تفاصيل عن تحوّل ملفت في عمل الشركات الأمريكية الأمنية الخاصة في الشرق الأوسط، عندما كشف موقع "باز فييد" الأمريكي عن دور شركة أمريكية أمنية خاصة نفذت مهمات اغتيال في اليمن عام 2015.

قادت العملية شركة Spear Operations Group بتمويل إماراتي، وكان يقود الشركة أبراهام غولان الإسرائيلي – المجري، وضمت العملية محاربين أميركيين سابقين من القوات الخاصة.

أقر غولان خلال مقابلته مع الموقع الأمريكي بأن المهمة التي نفذوها كان "برنامج اغتيالات موجه" ضد "شخصيات ذات توجه إسلامي"، كما ظهر أن بعض عناصر الشركة الأمنية خدموا سابقاً في القوات البحرية، ما يعكس الثقل العسكري الذي تعتمد عليه هذه الشركات في تنفيذ مهامها.

وعلى الرغم من أن الحكومة الأمريكية نأت بنفسها عن هذه العملية، إلا أن مشاركة شركة أمنية خاصة بقيادة عسكريين سابقين أظهر كيف يمكن لخبرات اكتُسبت داخل المؤسسة العسكرية الأميركية أن تُستخدم لاحقاً بما يخدم مصالح حلفاء إقليميين لواشنطن.

أما ليبيا، فمثّلت نموذجاً أكثر خطورة لهذا النمط. عام 2019، ومع هجوم خليفة حفتر للسيطرة على طرابلس، كشف تحقيق سري للأمم المتحدة عن عملية معقدة قيمتها 80 مليون دولار، كان أحد أبرز وجوهها إريك برنس، المؤسس السابق لشركة بلاك ووتر.

ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن العملية شملت خططاً لتشكيل فرقة اغتيالات خاصة تستهدف قادة ليبيين معارضين لحفتر، بينهم شخصيات تحمل جنسيات أوروبية إذا لزم الأمر، في خرق واضح لحظر السلاح المفروض على ليبيا.

ورغم نفي برنس أي علاقة له بالعملية، قدّمت لجنة الخبراء الأممية أدلة تشير إلى أنه أو شركاءه لعبوا دوراً في تسهيل المهمة، التي تضمنت توفير طائرات وزوارق وفريق من المرتزقة.

عكست هذه العملية مستوى جديداً من تدخل الشركات الخاصة، من المهام الدفاعية أو التدريبية إلى بناء قدرات هجومية وتنفيذ عمليات قتالية معقدة في واحدة من أكثر الساحات فوضوية في المنطقة آنذاك.

التدخل في غزة

كانت الحرب الإسرائيلية على غزة علامة فارقة إضافية في تواجد الشركات الأمنية الأمريكية، إذ بقي القطاع لعقود ساحة مغلقة أمام أي وجود أمني أميركي سواءً أكان رسمياً أو خاصاً، بسبب حساسيته السياسية وتعقيد المشهد الميداني هناك.

لكن عامي 2023 و2024 شهدا تحوّلاً غير مسبوق، حين دخلت الشركات الأميركية الخاصة إلى غزة لأول مرة، في خطوة كشفت عن مستوى جديد من الهندسة الأميركية للنفوذ في أكثر ساحات المنطقة خطورة.

بدأ هذا التغيّر خلال فترات الهُدن المؤقتة، عندما شرعت شركة UG Solutions المسجلة في ولاية كارولاينا الشمالية في توظيف نحو 100 من قدامى المحاربين في القوات الخاصة الأميركية للعمل عند نقطة تفتيش في ممر نتساريم الذي أنشأته إسرائيل لشطر غزة إلى قسمين.

وجاء هذا الانتشار ضمن رؤية مشتركة بين واشنطن وإسرائيل لإعادة هيكلة عملية توزيع المساعدات داخل القطاع، عبر استبدال المنظمات الدولية بشركات أمنية ولوجستية خاصة.

عملت UG Solutions جنباً إلى جنب مع كيان أميركي مستحدث هو "مؤسسة غزة الإنسانية"، التي ظهرت نتيجة مشروع أميركي–إسرائيلي يهدف إلى إدارة ملف المساعدات بشكل منفصل عن الأمم المتحدة.

تأسست UG Solutions عام 2023 على يد الضابط السابق في القوات الخاصة الأميركية جيمسون جوفوني، ما يعكس استمرار النمط القائم على توظيف خبرات المحاربين القدامى في عمليات ميدانية عالية التعقيد.

الشركات الأمنية الأمريكية
البيانات الخاصة بتسجيل شركة – UG Solutions – أوبن كوربوريتس

ولم يقتصر الحضور الأميركي الخاص في غزة على هذه الشركة؛ إذ دخلت شركة أخرى هي Safe Reach Solutions، التي تأسست في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 بقيادة فيليب ريلي، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA).

بينما قدمت الشركة نفسها كجهة تعمل في المجال الإغاثي واللوجستي، أفادت تقارير ــ بما في ذلك تقارير من الإعلام الإسرائيلي ــ بأن دور الشركة تعدّى توزيع المساعدات ليصل إلى مهام استخباراتية، بينها المساعدة في تحديد هوية عناصر من حركة حماس ومسلحين آخرين داخل القطاع.

كشف هذا النشاط أن الشركات الأمنية الخاصة لم تعد مجرد جزء من المشهد الأمني الإقليمي، بل أصبحت تُستخدم حتى في الساحات الأكثر حساسية سياسياً، حيث لا ترغب الولايات المتحدة أو أي دولة غربية في إرسال قوات رسمية إليها.

يُشير استمرار الضوء الأخضر الأميركي الرسمي لعمل الشركات الأمنية الخاصة في الشرق الأوسط إلى تحوّل أعمق من مجرد الاستعانة بمتعاقدين خاصين؛ وهو تحوّل يكشف أن واشنطن لم تعد تتعامل مع هذه الشركات كأداة مساندة، بل كجزء من هندسة النفوذ الأميركي نفسها.

فالموافقة الرسمية التي تمنحها أمريكا للعسكريين المتقاعدين للعمل في الخارج تُبقي لواشنطن نفوذاً غير رسمي، خصوصاً في مناطق الصراع، ما يتحقق لها من خلال عمليات تُدار من خلف الستار.

تحميل المزيد