تحولت شرق إفريقيا إلى منطقة صراع مكشوف حول النفوذ بين مصر وإثيوبيا اللتين باتتا تتنافسان على توسيع حضورهما الاقتصادي والأمني والسياسي بين دول المنطقة، بالتزامن مع استمرار التصعيد بين القاهرة وأديس أبابا على خلفية أزمة سد النهضة وإعلان إثيوبيا افتتاح سد النهضة بشكل رسمي شهر سبتمبر/أيلول 2025، وتحركاتها لإيجاد موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر.
تحركات إثيوبيا دفعت مصر إلى التحرك والعمل على تعزيز حضورها السياسي والأمني في دول جوار إثيوبيا أو أخرى لها علاقات وطيدة معها، في محاولة من القاهرة لاستباق أي تمدد إثيوبي في منطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية، التي ظلت لعقود محط أطماع قوى إقليمية ودولية، وهو ما دفع القاهرة إلى الاستثمار في بنى تحتية وعقد اتفاقيات مع أكثر من بلد في شرق القارة السمراء.
أمام هذه التطورات التي يشهدها صراع النفوذ بين مصر وإثيوبيا بدأت الكثير من الأسئلة تُطرح حول طبيعة هذه الحرب غير المباشرة التي بدأت بين البلدين، وأساليب تضييق الخناق التي ستكون حاضرة خلال الفترة المقبلة، وهو ما سنجيب عنه من خلال هذا التقرير الذي يكشف عن طبيعة تحركات مصر وإثيوبيا ومشاريعهما في المنطقة التي لم تهدأ منذ عقود.
مصر تبحث عن توسيع نفوذها في شرق إفريقيا
مصدر مصري مطلع على ملف العلاقات بين مصر وإثيوبيا أوضح لـ"عربي بوست"، أن التحركات المصرية محكومة بموجب قواعد القانون الدولي لمجابهة تحركات إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر، "لا يحق لأي دولة غير متشاطئة أن يكون لها وجود على سواحله".
لذلك اتجهت القاهرة نحو تعزيز تواجدها التنموي والاقتصادي في مناطق جغرافية تضعها إثيوبيا نصب أعينها لتحقيق تطلعاتها سواء كان ذلك بشأن الوصول إلى منفذ على البحر الأحمر أو ما يمكنها من تشكيل تكتل يجري توظيفه ضد مصر في ظل ما يمكن تسميته "صراعات الأنهار" خاصة مع رغبة أديس أبابا في إعادة تقسيم مياه نهر النيل ورفضها الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة.
ويضيف المصدر أن القاهرة اتخذت أقصر الطرق نحو تعزيز تحالفاتها في دول جوار إثيوبيا، وذلك بعد أن قررت مؤخراً تنفيذ مشروعات في "ميناء دوراليه" الجيبوتي، وله أهمية استراتيجية بالنسبة لجيبوتي وإثيوبيا أيضاً، بل إن أديس أبابا تعتمد عليه في نقل غالبية وارداتها وصادراتها.
كما أن الميناء لديه موقعه المهم في شمال باب المندب، ما يجعل هناك تماساً بينه وبين التواجد المصري لتأمين قناة السويس، والقاهرة بهذه الخطوة تضيق الحصار على إثيوبيا التي يبدو أن لديها أوراقاً أخرى.
التحرك المصري تجاه جيبوتي يهدف بالأساس إلى تأمين البحر الأحمر ومواجهة طموحات إثيوبيا البحرية بعيداً عن صراع موارد نهر النيل، والقاهرة تعول على أن تكون مضايقة رئيس الوزراء آبي أحمد في خططه التوسعية تجاه البحر الأحمر دافعاً نحو تقديم تنازلات في ملف سد النهضة، بعد أن وجدت مصر نفسها بلا أدوات ضغط تقريباً، وفق ما أكده مصدر "عربي بوست".
وكان الإعلان الإثيوبي عن أهمية الاتجاه إلى البحر الأحمر، ووصف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد افتقار إثيوبيا إلى منفذ بحري أمام البرلمان، بأنه "قضية وجودية"، ورقة توظفها القاهرة لصالحها.
ولفت المصدر إلى أن التواجد التنموي لتطوير الميناء الجيبوتي يمنح القاهرة فرصة استكشاف المنطقة عسكرياً في حال كانت هناك تهديدات إثيوبية للبحر الأحمر، خاصة وأن خطط أديس أبابا لإيجاد منفذ بحري لا تنحصر فقط على أطماعها تجاه أريتريا باعتبارها دولة تقول إنها كانت تابعة لها، ولكنها تطال أيضاً جيبوتي وإقليم أرض الصومال الانفصالي.
فيما تتجه القاهرة لتعزيز أمن الطاقة مع جيبوتي وإقامة محطات طاقة شمسية ورياح، وبدأت مصر تنفيذ تفاصيل الاتفاق الذي جرى بين الرئيس السيسي ونظيره في جيبوتي، خلال زيارة السيسي لها في أبريل/نيسان 2025، وتم الاتفاق على مشروعات في جيبوتي يقوم بها الجانب المصري.
ومن تلك المشروعات توسعة محطة طاقة الرياح في منطقة جوبيتي "الجوبيت"، وإنشاء محطة للطاقة الشمسية في ميناء الحاويات بميناء جيبوتي، وتوسعة ميناء الحاويات في ميناء دوراليه، والأخير هو ميناء حيوي جداً كان يعتبر منفذاً بحرياً لإثيوبيا نحو البحر الأحمر.
هل تسعى القاهرة لمحاصرة التوسع الإثيوبي؟
بحسب مصدر دبلوماسي فإن مصر لا تهدف إلى تضييق الخناق على إثيوبيا بقدر رغبتها في إقامة علاقات طيبة مع الدول الأفريقية سواء كانت هذه الدول صديقة لأديس أبابا أو معادية لها، ويظهر ذلك في الاتجاه نحو بناء سد تنزانيا، وهو يخدم الدول الأفريقية بالدرجة الأولى دون أن يشكل ضرراً على أي من دول حوض النيل الأخرى، ولا يضر إثيوبيا.
وللمشروع المصري في تنزانيا أهداف تتمثل في حماية تنزانيا من الفيضان وتخفيف حدة تدفق المياه في نهر روفيجي، وهو أحد الأنهار الداخلية، وذلك للاستفادة من المياه في الزراعة وإنتاج الكهرباء، كما أن تنزانيا لن تلجأ إلى بيع الكهرباء من وراء السد لأنها ليس لديها سوى 2000 ميغاوات في حين أن لديها عدد مواطنين يصل إلى 90 مليون مواطن.
وأشار المصدر الدبلوماسي إلى أن القاهرة اتجهت أيضاً إلى حفر آبار مياه جوفية في عدد من دول حوض النيل، بينها أوغندا وكينيا وجنوب السودان، وهي تهدف إلى توفير مياه شرب نقية للسكان وتعمل على تطهير بعض البحيرات في تلك الدول نتيجة انسداد القنوات المائية، وهو ما تستهدفه مصر تحديداً في أوغندا.
كما أن لدى مصر مشروعات لتحلية المياه ومراكز الإنذار المبكر وتنبؤات الأمطار، وسعت مصر مع دولة مثل الكونغو الديمقراطية إلى تطهير بعض المناطق في نهر الكونغو لتحسين عملية النقل النهري في بعض الأماكن التي لا تصلح للنقل، وفي أماكن الجنادل والصخور والشلالات.
ولفت المصدر ذاته إلى أن التعاون مع دول حوض النيل يختلف عن التعاون مع دولة مثل إريتريا مثلاً، وهي دولة جوار لإثيوبيا، ولكنها دولة صديقة لمصر، ويعد رئيسها أسياس أفورقي أكثر الرؤساء الأفارقة زيارة إلى مصر على مدار 15 عاماً الماضية.
لكنها دولة ليس لها تواجد مباشر على حوض النيل، وتشارك في اجتماعات دول حوض النيل بصفتها مراقباً، باعتبار أن نهر عطبرة الذي يمر من خلالها لا يصل إلى النيل مباشرة، لكن لديها تواجد مهم على ساحل البحر الأحمر، وتشكل الأطماع الإثيوبية فيها مدخلاً مهماً للتعاون وتضييق الخناق على إثيوبيا أيضاً.
واستقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئيس إريتريا أسياس أفورقي، في أكتوبر/تشرين الأول 2025، وخلال اللقاء أكد السيسي التزام مصر الثابت بدعم سيادة إريتريا وسلامة أراضيها، وتضمن اللقاء التأكيد المصري على أهمية تعزيز التعاون لضمان أمن البحر الأحمر، وعدم التأثير على الملاحة في هذا المجرى الملاحي الحيوي، حيث شدد السيسي على ضرورة تكثيف التنسيق بين مصر وإريتريا، وكذلك مع الدول العربية والأفريقية المشاطئة، ما يسهم في ترسيخ الأمن والاستقرار في هذه المنطقة الهامة.
وفيما يخص الصومال، أعلنت وزارة الخارجية المصرية في سبتمبر/أيلول 2024 رسمياً عن تسليم شحنة مساعدات عسكرية إلى مقديشو لدعم الجيش الصومالي، بعدما وصلت شحنة سابقة كشفت عنها وسائل إعلام بينما لم تعلق القاهرة عليها، وكانت تلك الشحنات أرسلت بعد اتفاق للتعاون العسكري بين البلدين، وتعتزم مصر المشاركة في قوات حفظ السلام الأفريقية في الصومال، بعدما رفضت حكومة مقديشو التمديد للقوات الإثيوبية.
في المقابل، وقعت إثيوبيا مع إقليم أرض الصومال الانفصالي في يناير/كانون الثاني 2024 مذكرة تفاهم تحصل أديس أبابا بموجبها على حق استخدام واجهة بحرية بطول 20 كيلومتراً من أراضي الإقليم لمدة 50 عاماً، وفي المقابل "ستعترف إثيوبيا رسمياً بجمهورية أرض الصومال".
كما أعلن موسى بيهي عبدي، زعيم هذه المنطقة في ذلك الوقت، لكن حكومة أديس أبابا لم تعلن عزمها الاعتراف بالإقليم الذي لم تعترف به أية دولة منذ إعلان انفصاله عام 1991، واكتفت بالإشارة إلى أنها ستجري "تقييماً متعمقاً بهدف اتخاذ موقف في شأن جهود أرض الصومال للحصول على الاعتراف الدولي".
إعادة بناء العلاقات مع الدول المحيطة بإثيوبيا
يشير خبير سياسي مصري إلى أن مصر تحاول بشتى الطرق إعاقة رغبة إثيوبيا في أن تتحكم في تدفقات مياه النيل الواردة إلى دول المصب، وهو ما يتطلب إعادة الثقة أولاً مع دول حوض النيل وبناء علاقات قوية مع دول جوار يمكن أن تشكل حاضنة لها، في وقت تتبع مصر أساليب سلمية، بينها الاتجاه إلى المنظمات الدولية والأممية للحفاظ على حقوقها، وهو ما يتطلب علاقات دبلوماسية قوية مع هذه الدول.
وأشار المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم ذكر اسمه، إلى أن القاهرة لم تتأثر بعد سلباً بتشغيل سد النهضة، لكن على المدى المتوسط أو الطويل يمكن أن تظهر التأثيرات، وهو ما سيقود إلى مشكلات اقتصادية جمة تحاول تلافيها من الآن.
ولفت إلى أن عدم التوقيع على اتفاق قانوني ملزم لسد النهضة يؤدي إلى تراجع الإنتاج المحلّي وارتفاع أسعار الغذاء داخلياً وزيادة معدّلات التضخم والفقر الريفي. وبوجه عام، فإن امتلاك إثيوبيا أداة التحكُّم في بحيرة السد "يحوّل المياه إلى أداة ضغط سياسي واقتصادي، ما يجعل الاقتصاد المصري عرضة لمخاطر متكرّرة تتجاوز الزراعة إلى قطاعات الصناعة، الأمن الغذائي والطاقة".
كما أن القاهرة تستخدم الآن نفس الشعارات التي سبق وأن رفعتها إثيوبيا، والتي لعبت على وتر الرغبة في التنمية في أثناء تدشينها سد النهضة، وأن غالبية المشروعات مع دول حوض النيل أو الدول المطلة على ساحل البحر الأحمر هي تنموية بالأساس.
في المقابل، فإن التواجد المصري في هذه الدول يقوض مساعي إثيوبيا الاستعمارية التي اعتادت عليها تاريخياً، وفي كلتا الحالتين فإنه يمكن تحديد ما إذا كانت القاهرة قادرة على حصار أديس أبابا من عدمه مرتبطاً بإرغامها على توقيع اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة وتراجعها عن نواياها التصعيدية تجاه الصومال وإريتريا وجيبوتي.
وأشار المصدر إلى أن مصر تمضي في اتجاه تعزيز الشراكة مع دول حليفة لإثيوبيا، وهي تقع في معسكر آخر ليس بقريب عن مواقف القاهرة في القارة الأفريقية أو في دول الجوار، خاصة في السودان، وأن تلك التحركات وصلت إلى تشاد، وهي دولة لديها مواقف أكثر قرباً من قوات الدعم السريع، ولديها أيضاً علاقات مهمة مع إثيوبيا.
وأشار المصدر الدبلوماسي إلى أن القاهرة تسير في مسارات تنموية وعسكرية وأمنية في خططها نحو إقامة علاقات استراتيجية مع هذه الدولة، وهو أيضاً ما يشكل خصماً من نفوذ إثيوبي مع دول تتماشى مع أجندته.
وبحسب المصدر ذاته، فإن مصر تحاول وقف حرب السودان ما يساهم أيضاً في تكثيف الضغط على إثيوبيا، وأن استعادة التوازن في الدولة التي تشهد حرباً منذ ما يقرب من ثلاث سنوات يساهم في تحجيم أديس أبابا.
وشهدت القاهرة، مساء الأحد الماضي، اجتماعات مكثفة عقدتها "اللجنة المصرية – التشادية المشتركة"، التي ترأسها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، ونظيره التشادي عبد الله صابر فضل، بمشاركة عدد من المسؤولين والوزراء من البلدين، وفق بيان لوزارة الخارجية المصرية.
إذ أكد عبد العاطي في إفادة رسمية، عقب الاجتماع، حرص بلاده الدائم على دعم الجهود التشادية، باعتبارها "شريكاً محورياً لمصر في تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد، ومكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وإحلال التنمية محل الصراع".
تحركات إثيوبية أقلقت مصر ودفعتها إلى التحرك
لم تكتف إثيوبيا بالتحالفات الثنائية، بل اتجهت إلى تعزيز حضورها داخل المؤسسات القارية الكبرى. فقبل أشهر أعلنت رسمياً دخولها المرحلة التشغيلية لاتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA)، وهي أكبر تكتل تجاري في العالم من حيث عدد الدول المشاركة.
وتحاول أديس أبابا من خلال هذه الخطوة تقديم نفسها كقوة اقتصادية صاعدة قادرة على قيادة التكامل الأفريقي، في مقابل نفوذ القاهرة التي لطالما احتفظت بدور مركزي داخل الاتحاد الأفريقي. ومع أن مصر هي إحدى الدول الداعمة للاتفاقية، فإن بطء اندماجها الاقتصادي الإقليمي يمنح إثيوبيا فرصة لتصدر المشهد الاقتصادي القاري.
وفي خطوة رمزية بارزة، أطلق رئيس الوزراء آبي أحمد في أديس أبابا مبادرة "نبض أفريقيا" (Pulse of Africa)، وهي منصة إعلامية جديدة تسعى إلى "إعادة صياغة صورة القارة" في الإعلام العالمي. تتجاوز هذه المبادرة، التي تبدو ثقافية في ظاهرها، كونها مجرد مشروع ثقافي، لتكون جزءاً أساسياً من استراتيجية القوة الناعمة الإثيوبية.
من جهة أخرى، دخلت إثيوبيا مرحلة جديدة من التصنيع الدفاعي بالشراكة مع نيجيريا، حيث يعمل البلدان على مشروع لتصنيع طائرات مسيَّرة (درونز) محلية الصنع لأغراض مدنية وعسكرية.
وقبل أسابيع استقبلت أديس أبابا وفداً من القوات الجوية النيجيرية في جولات داخل منشآت التصنيع العسكرية، بينما تعهدت أبوجا باستقبال وفد إثيوبي لزيارة مؤسسات التدريب العسكري. وتُعد هذه الشراكة تتويجاً لتوجه أفريقي متصاعد نحو تقليص الاعتماد على الموردين الخارجيين من الصين وتركيا وإيران.
كما شهدت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا توقيع اتفاقية دفاعية جديدة بين إثيوبيا وكينيا، هي الثانية منذ اتفاق عام 1963، في ظل توترات حدودية وتنافس إقليمي متصاعد. وتهدف الاتفاقية إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي عبر تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتدريب العسكري، وتطوير الصناعات الدفاعية، ومكافحة الإرهاب، وحماية الحدود.
ويمتد التعاون ليشمل مجالات الطاقة والاقتصاد، من خلال اتفاقية لشراء الكهرباء وإنشاء خط نقل بطول 1045 كيلومتراً يربط إثيوبيا بكينيا بطاقة مبدئية قدرها 200 ميجاوات ترتفع إلى 400 ميجاوات، اعتماداً على فائض إنتاج سد النهضة.