“إنذار دبلوماسي” وتهديدات أجبرته على القبول.. هل فتح لبنان باب المفاوضات مع إسرائيل تجنباً لشروط أكثر قسوة؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/11/06 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/11/06 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش
لبنان تعرض لضغوط كثيرة من أجل تقديم تنازلات للتفاوض مع إسرائيل/ عربي بوست

أجبرت الوساطات والضغوط الدولية والتهديدات الإسرائيلية الرئيس اللبناني، جوزيف عون، على إطلاق دعوة للتفاوض بين لبنان وإسرائيل، اعتبرتها أوساط لبنانية أنها لم تكن مبادرة شجاعة بقدر ما هي "تنازل مبكر" يعيد فتح الباب أمام تسوية غير متكافئة، ومن موقع أضعف سياسياً وأثقل عسكرياً، ما يعيد بيروت إلى نقطة الصفر في التفاهمات السابقة التي أجرتها مع الاحتلال الإسرائيلي.

وفق المعلومات التي توصل بها "عربي بوست"، فإن ما يجري في الكواليس يتجاوز الخطاب العلني، إذ تتقاطع المعطيات الحكومية والدبلوماسية لتشير إلى أن لبنان بدأ فعلياً مرحلة جديدة من المداولات مع العواصم المؤثرة، تمهيداً لصياغة تفاوض من نوع مختلف عن كل ما عرفه سابقاً، خاصة أن الظروف باتت حرجة وتظهر معالمها من تصاعد العمليات الإسرائيلية في مناطق لبنانية مختلفة.

في هذا التقرير، نتطرق إلى كواليس الضغوطات والوساطات، وأيضاً التهديدات التي تعرض لها الرئيس اللبناني من أجل الدعوة لمفاوضات جديدة بين لبنان وإسرائيل، وما هو الجديد الذي فرضته قوى إقليمية ودولية على بيروت، والتنازلات التي قدمتها الأخيرة من أجل تجنب الأسوأ، خاصة أن الظروف المحيطة بلبنان تجعلها في موقف أضعف أمام ضغوط القوى الدولية وتهديدات إسرائيل.

مخاوف لبنانية من شروط "أكثر قسوة"

يشير مصدر حكومي لبناني رفيع لـ"عربي بوست" إلى أن الرئيس جوزيف عون لم يطرح فكرة التفاوض من فراغ، بل انطلاقاً من قناعة أنّ المواجهة العسكرية مع إسرائيل لم تعد خياراً واقعياً، وأن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية يفرض على الدولة اللبنانية أن تلتقط زمام المبادرة قبل أن تُفرض عليها شروط أكثر قسوة، وخاصة بعد اتفاق شرم الشيخ الذي أنهى، ولو جزئياً، الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

وتشير المصادر إلى أن الدعوة الأخيرة لعون لم تكن خطوة منفردة، بل ناتجة عن مشاورات دامت أسابيع مع أطراف عربية وغربية، أبرزها مصر وفرنسا، اللتان حاولتا منذ بداية الأزمة بلورة "مخرج سياسي منظم" يوقف الانزلاق نحو مواجهة عسكرية مفتوحة تعمل حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على استدراج لبنان إليها.

ووفق المصدر، فإنّ ما دفع لبنان إلى التحرك هو الإحساس بأن الرعاية الأميركية للاتفاقات السابقة لم تعد تضمن شيئاً، وأن إسرائيل تستخدم كل خرق جديد كورقة ضغط لدفع لبنان نحو تفاوض مباشر مع إسرائيل.

وتضيف المصادر أن الأوروبيين، وعلى رأسهم الفرنسيون، أبلغوا بيروت صراحة أن الاستمرار في التعويل على التهرب وعامل الوقت لن يجلب سوى عزلة مالية وسياسية متزايدة، وأن المساعدات العسكرية الموعودة قد تُجمّد إذا لم يُبدِ لبنان مرونة في فتح القناة السياسية مع إسرائيل.

اجتماع سابق للحكومة اللبنانية/ رويترز
اجتماع سابق للحكومة اللبنانية/ رويترز

تحول غير مسبوق في شكل الوفد اللبناني

يصرّ الجانب الأميركي، من خلال ضغوط تمارسها عبر الموفد الخاص توماس باراك وتصريحاته، والموفدة مورغان أورتاغوس، التي زارت مع الجيش الإسرائيلي مواقع متقدمة على الحدود، على أن أي تفاوض جديد يجب أن يكون مباشراً وتحت إشرافه الكامل، لا عبر لجنة وقف إطلاق النار الخماسية التي كان يتمسك بها لبنان.

مصدر دبلوماسي عربي أوضح لـ"عربي بوست" أن مسؤولين أميركيين، على رأسهم باراك وأورتاغوس، أبلغوا لبنان أن اللجنة فقدت صلاحيتها السياسية، وأن المطلوب اليوم هو تفاوض مباشر على مستوى حكومي، يضم عناصر مدنية ودبلوماسية إلى جانب ضباط الجيش اللبناني.

وهنا تكمن نقطة التحول الكبرى، وخاصة أن الرئاسة وافقت من حيث المبدأ على إشراك مدني وخبير دبلوماسي في الوفد المفاوض، وهو أمر لم يحدث في أي مرحلة سابقة من المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية.

ووفق المصدر، فإن القرار جرى التوصل إليه بعد نقاش طويل بين القصر الجمهوري ورئاسة الحكومة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يفاوض باسم حزب الله، بهدف إضفاء طابع رسمي جامع على التفاوض، ومنحه مرونة في مناقشة الملفات التقنية والسياسية في آنٍ.

ووفق المصدر، فإن القبول بهذا الشكل الجديد من التمثيل لا يعني بالضرورة انتقال لبنان إلى مفاوضات سلام وتطبيع، لكنه سيشكّل، في نظر الدبلوماسيين الغربيين، مؤشراً واضحاً على نضوج موقف رسمي يتهيأ لإعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل ضمن إطار تفاوضي واقعي.

ويشير المصدر إلى أن لبنان الرسمي أبلغ الأطراف المعنية بالملف، وتحديداً الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر، أنه بات يدرك أن لا هروب من التفاوض، وأن إشراك مدنيين هو تمهيد لتوسيع دائرة البحث لتشمل ملفات التنقيب عن الغاز، وإعادة الإعمار، وملفات قانونية، خاصة أن باريس والقاهرة شجعتا هذا التوجه، ورأتا فيه مدخلاً لتخفيف الاحتقان الحدودي، وفتح باب التواصل الذي يمكن تطويره لاحقاً إلى مسار سياسي برعاية إقليمية أوسع.

ضغوط أميركية وتحركات مصرية وفرنسية

خلف هذه الليونة الظاهرية، يختبئ حجمٌ هائل من الشكوك، فالمؤسسة العسكرية اللبنانية، التي تتولى عملياً تنفيذ "اتفاق وقف الأعمال العدائية" الذي وُقِّع برعاية أميركية–فرنسية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ترفع منذ أشهر تقارير متكررة عن الاستباحة الإسرائيلية الواسعة، التي تشمل آلاف الخروقات الجوية، ومئات التوغلات البرية والبحرية، وعشرات الاغتيالات.

ومع ذلك، فإن الدولة اللبنانية لم تتلقَّ أي التزام إسرائيلي بالتهدئة مقابل مبادرتها نحو التفاوض، بل على العكس، تلقت رسائل دبلوماسية قاسية من وسطاء أميركيين مفادها أن "أي إخلال لبناني بالاتفاقات سيُقابَل بتجميد المساعدات وفرض عقوبات اقتصادية".

هذا ما تعتبره دوائر الحكم في بيروت تهديداً مبطناً يراد منه دفع الحكومة إلى القبول بالشروط المطروحة من دون ضمانات مقابلة، ويشير المصدر الدبلوماسي إلى أن الجانب المصري يلعب دوراً أساسياً في هذا المشهد، من خلال قنوات اتصاله المفتوحة مع حزب الله ومع المسؤولين الأمنيين اللبنانيين من جهة، والإسرائيليين من جهة أخرى.

وبحسب المصدر، فإن جهاز المخابرات العامة المصرية يحاول تسويق فكرة "التفاوض المرحلي" بين لبنان وإسرائيل، الذي يبدأ باتفاقات ميدانية محددة على الحدود، ويتدرج نحو تفاهمات سياسية لاحقة.

وفق مصدر "عربي بوست"، فإن وفداً مصرياً من جهاز المخابرات العامة نقل إلى لبنان اقتراحاً أولياً ينص على هدنة طويلة مقابل التزام لبناني بإدارة ملف السلاح عبر الدولة، مع بقاء جزء من القدرات الدفاعية للحزب ضمن ترتيبات محلية. إلا أن هذا الاقتراح لم يُناقَش رسمياً بعد، في انتظار نتائج الاتصالات الأميركية–الإسرائيلية الجارية، التي ستُبلّغ إلى لبنان خلال الزيارة المرتقبة للمبعوث الأميركي.

الوفد الأمريكي في لقاء سابق مع الرئيس اللبناني/ رويترز
الوفد الأمريكي في لقاء سابق مع الرئيس اللبناني/ رويترز

أما الفرنسيون، فيتحركون على خطين متوازيين: تأكيد دعم الجيش اللبناني وتثبيت وقف إطلاق النار، ومحاولة فتح قناة سياسية خلفية بين بيروت وتل أبيب بموافقة أميركية.

ووفق المصدر الحكومي اللبناني، فإن فرنسا ترى أنّ استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى حرب مؤكدة، وأن مجرد دخول لبنان في مسار تفاوضي، حتى لو لم يؤدِّ إلى اتفاق نهائي، كفيل بتجميد التصعيد وفتح المجال لمؤتمر دولي يعيد تنظيم العلاقة الأمنية والاقتصادية في منطقة الجنوب.

إذ إن رئيس المخابرات الفرنسية نيكولا ليرنر نقل إلى بيروت رسالة تشير إلى أن بلاده تربط أي حزمة مساعدات اقتصادية للبنان ببدء مسار تفاوضي فعلي، معتبرين أن "الوقت ينفد".

تصعيد إسرائيلي واستعدادات ميدانية

في المقابل، لا تزال إسرائيل تتعامل مع الدعوة اللبنانية بحذر ولا مبالاة في آنٍ واحد. وبحسب المصادر الدبلوماسية، فإن الحكومة الإسرائيلية لا ترى حاجة ملحّة للتفاوض ما لم يتحقق هدفها الرئيسي، وهو فرض منطقة خالية من السلاح في عمق الجنوب اللبناني، وخلق واقع أمني يتيح لها الحركة بحرية تحت غطاء "الردع المشروع".

وتشير المعلومات إلى أن النقاشات الإسرائيلية الداخلية تشمل سيناريوهات عمليات عسكرية محدودة في الجنوب والبقاع، بهدف رسم خطوط تماس جديدة تسبق أي تفاوض. وتضيف المصادر أن بعض التقارير العسكرية الإسرائيلية تُستخدم حالياً لإقناع الأميركيين بأن العمل العسكري هو السبيل الأسرع لانتزاع تنازلات من حزب الله والدولة اللبنانية معاً.

من هذا المنطلق، يعتبر المصدر الدبلوماسي أن إسرائيل تدعي أن حزب الله أعاد ترميم قدراته العسكرية عبر شحن أسلحة متطورة بوسائل متعددة إلى لبنان، وهذا لا يُخفيه الحزب، وخاصة أن أمينه العام نعيم قاسم تحدث عن ذلك مراراً، لذا فالتسريبات والتهديد بالحرب ليست سوى وسيلة ضغط متدرجة لدفع لبنان إلى طاولة المفاوضات بشروط محددة سلفاً.

ويؤكد مصدر "عربي بوست" أن الإدارة الأميركية الحالية تستخدم لغة الترغيب والترهيب: إما التفاوض تحت الرعاية الأميركية وبالشروط الإسرائيلية، وإما مواجهة عملية عسكرية لا يمكن التكهن بنتائجها، لتحسين صورة الإدارة الأميركية بأنها دفعت نحو إعادة تحريك المفاوضات بين إسرائيل والدول التي كانت تُشكّل تهديداً لها.

ماذا عن موقف حزب الله؟

ينقسم المشهد الداخلي في لبنان حول كيفية التعامل مع هذه الضغوط. بعض القوى السياسية ترى في الدعوة إلى التفاوض خطوة ضرورية لحماية ما تبقّى من الاستقرار، بينما تعتبرها قوى أخرى استسلاماً مقنّعاً. لكن الثابت أن الموقف الرسمي بات أكثر انفتاحاً من أي وقت مضى، وهو ما يفسر القبول بإشراك مدني ودبلوماسي في المفاوضات المقبلة.

بالمقابل، تؤكد المصادر الحكومية أن هذا القرار اتُّخذ "لتجنب أي التباس بين الصبغة العسكرية والسياسية للتفاوض، ولإعطاء صورة دولة مفاوضة". أما رئاسة الحكومة، فترى أن هذه الصيغة تمنح المفاوضات مرونة أكبر في بحث ملفات الطاقة والحدود والاقتصاد، بعيداً عن الخطاب التقليدي.

بينما يتعامل حزب الله بحذرٍ مزدوج، فهو لا يريد الظهور كمعرقل للتسوية، لكنه يرفض أي نقاش يتعلق بسلاحه شمال الليطاني دون ضمانات إسرائيلية تشمل الانسحاب من النقاط المحتلة، وإطلاق سراح الأسرى، والذهاب نحو جدولة ملف إعادة الإعمار.

وتشير أوساط سياسية إلى أن الحزب أبلغ حلفاءه أنه لن يشارك في أي مفاوضات مباشرة، لكنه لن يمنع الدولة من الذهاب إلى تفاوض غير مباشر طالما أنه يجري "تحت سقف رئاسة الجمهورية التي يثق بها"، وهذه الصيغة الهشة تعكس التوازن الصعب الذي يحاول لبنان الرسمي الحفاظ عليه بين استرضاء الضغوط الدولية ومنع انهيار الجبهة الداخلية.

ووفق المصدر، فإن حزب الله لا يمانع إيفاد دبلوماسيين ومدنيين إلى أي مفاوضات بين لبنان وإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يريد جدول أعمال واضحاً يُقرّ عبر الحكومة.

"شروط استسلام" إسرائيلية

في الكواليس الدبلوماسية، يبرز تقاطع واضح بين التحركين المصري والفرنسي من جهة، والموقف الأميركي من جهة أخرى، فالعواصم الثلاث تشترك في هدف منع الحرب، لكنها تختلف في الوسيلة.

فواشنطن تفضل تفاوضاً مباشراً سريعاً يضع الأسس لسلام أمني طويل الأمد، بينما ترى باريس والقاهرة ضرورة الحفاظ على "مسافة رمزية" تحفظ للبنان توازنه الداخلي. ومع ذلك، فإن ما يجمع هذه الأطراف هو قناعتها بأن التصعيد العسكري الإسرائيلي بات وشيكاً إذا لم يبدأ التفاوض خلال أسابيع قليلة.

وتفيد المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست" من مصدر أمني لبناني رفيع، بأن إسرائيل أبلغت لبنان عبر فرنسا ومصر عن نيتها فرض واقع ميداني جديد في الجنوب اللبناني، في حال لم تتلقَّ جواباً واضحاً وحاسماً من الدولة اللبنانية بشأن المقترحات المطروحة للتفاوض.

وتُظهر المراسلات التي اطّلع عليها الجانب اللبناني أن السيناريو الإسرائيلي لا يقتصر على الضغط السياسي، بل يشمل عمليات عسكرية برية محدودة قد تتطور إلى اجتياح أوسع، تصل حدوده القصوى إلى مداخل العاصمة بيروت، في إطار ما تسميه تل أبيب "عمليات حسم ميداني"، هدفها إعادة صياغة قواعد الاشتباك قبل أي مسار تفاوضي.

وبحسب المصدر، فإن الخطة الإسرائيلية تتضمن إقامة منطقة عازلة يتراوح عمقها بين خمسة وسبعة كيلومترات على طول الحدود الجنوبية، بحيث تُخلى من أي وجود عسكري لحزب الله أو فصائل مسلحة أخرى، إلى جانب منطقة خالية من السلاح الثقيل شمال نهر الأولي، الممتد بين بيروت وصيدا، لتتحول إلى ما يشبه الحزام الأمني الصامت بإشراف مباشر من القوات الدولية والجيش اللبناني.

كما تطالب إسرائيل بـ"ترتيبات أمنية مشتركة" شبيهة بتلك التي جرى تطبيقها في الثمانينيات خلال الحرب الأهلية، تتيح لها مراقبة المجال الجوي والبحري والبري من دون قيود.

وتشمل الشروط الإسرائيلية أيضاً تفاهمات مكتوبة حول ملف الحدود البحرية وحقول الطاقة في شرق المتوسط، بحيث يجري تحديد آلية واضحة لعمليات التنقيب عن النفط والغاز وتصدير الإنتاج اللبناني لاحقاً، مع بحث إمكان دمجه في الشبكات الإسرائيلية أو الإقليمية في مراحل لاحقة من التعاون الاقتصادي.

وتؤكد المصادر أن هذه البنود، وفق الرسائل التي وصلت إلى بيروت عبر باريس والقاهرة، تُطرَح بصيغة "شبه إنذار دبلوماسي"، يربط بين القبول اللبناني بالتفاوض وفق هذه الشروط، وتجنّب حرب شاملة قد تندلع في أي لحظة.

وهذا الطرح يُناقَش حالياً في بعض العواصم الغربية باعتباره الحد الأدنى المطلوب لوقف النار، لكن لبنان الرسمي لا يزال يرفض الدخول في أي التزامات قبل الحصول على ضمانات دولية بوقف الاغتيالات والهجمات الجوية الإسرائيلية.

تحميل المزيد