“طالبان باكستان” تُشعل الصراع مجدداً بين كابول وإسلام أباد.. كل ما نعرفه عن الحركة وخريطة انتشارها

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/10 الساعة 13:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/10 الساعة 13:59 بتوقيت غرينتش
قصف باكستاني يستهدف زعيم حركة طالبان باكستان- عربي بوست

في تصعيد جديد للتوترات بين باكستان وحركة طالبان باكستان، شهدت العاصمة الأفغانية كابول انفجارات عنيفة. وأفادت وسائل إعلام باكستانية بأن هذه الانفجارات نجمت عن قصف جوي نفذته طائرات حربية باكستانية، استهدف قيادات بارزة في الحركة، من بينهم زعيمها المفتي نور ولي محسود، الذي نجا من الاستهداف.

يأتي هذا التصعيد بعد يوم واحد فقط من اشتباكات عنيفة في إقليم خيبر بختونخوا، أعلن الجيش الباكستاني على إثرها مقتل 11 من جنوده و19 من عناصر طالبان الباكستانية، مما يؤكد استمرار دائرة العنف بين الطرفين. وفي وقت سابق، كان رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف ووزير الدفاع خواجه آصف قد أكدا عزم القوات الباكستانية على "ملاحقة أعداء باكستان أينما كانوا"، مشيرين إلى أن بعض الدول المجاورة التي تدّعي الصداقة تستضيف خصوم باكستان وتسمح لهم بالتخطيط لعمليات ضد أراضيها.

في هذا التقرير، نرصد بالتفصيل خريطة حركة طالبان باكستان، وقادتها، وعلاقتها بأفغانستان، وموقفها من الجيش الباكستاني.

مفتي نور ولي محسود: زعيم طالبان باكستان

استهدفت غارة جوية باكستانية في كابول زعيم حركة طالبان باكستان، مفتي نور ولي محسود، ولا يزال مصيره غير مؤكد. وُلد محسود عام 1978 في منطقة تيرزا بجنوب وزيرستان، إحدى المناطق القبلية شمال غرب باكستان. ينحدر من قبيلة محسود البشتونية، وهي قبيلة بارزة في وزيرستان اشتهرت بمقاومتها للتدخلات الخارجية عبر التاريخ، من الحكم البريطاني وحتى الآن.

نشأ نور ولي في بيئة محافظة للغاية تسودها العادات والتقاليد البشتونية. تلقى تعليمه الأولي في المدارس المحلية، حيث درس القرآن والحديث والفقه الإسلامي، مما أكسبه معرفة دينية واسعة. بدأت أفكاره الجهادية تتشكل تحت تأثير الخطاب الديني الجهادي السائد في المنطقة، خاصة بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، الذي شكّل نقطة تحول حاسمة في مسار حركة طالبان في أفغانستان وباكستان.

الانضمام إلى حركة طالبان باكستان

انضم نور ولي محسود إلى حركة طالبان باكستان في وقت مبكر من حياته، وسرعان ما برهن على قدراته القيادية والإدارية، فاشتهر بذكائه التكتيكي وبلاغته الخطابية بين رفاقه. قبل تولّيه قيادة الحركة، شغل عدة مناصب بارزة، أهمها قاضي محكمة الشريعة التي أسسها بيت الله محسود، الزعيم السابق للحركة، كما شغل منصب نائب الزعيم بعد مقتل بيت الله محسود، مما منحه خبرة واسعة في إدارة شؤون التنظيم والإشراف على عملياته العسكرية والأمنية.

كانت علاقته بالزعماء السابقين للحركة قائمة على التعلم وتوريث القيادة؛ فقد اكتسب من الملا فضل الله، سلفه، أساليب التخطيط العسكري وتنظيم الهجمات. كما تبنّى فلسفة التعامل مع القبائل المحلية التي كانت تشكّل محور قوة الحركة، مع التركيز على تأمين ولاء السكان لضمان استمرار العمليات دون تدخل كبير من القوات الحكومية.

تحت قيادته، نفذت حركة طالبان باكستان سلسلة من العمليات العسكرية المنظمة ضد القوات الحكومية والمدنيين. واعتمد محسود على استراتيجيات حرب العصابات، بما في ذلك الكمائن والتفجيرات الانتحارية والهجمات على البنية التحتية الحيوية. ومن أبرز العمليات التي نُسبت إليه الهجمات على القواعد العسكرية في وزيرستان والمراكز الأمنية في بيشاور وضواحيها، والتي أسفرت عن مقتل عشرات الجنود والمدنيين.

تميّز نور ولي محسود بأساليبه المتقدمة في التخطيط الاستخباراتي، مستفيدًا من علاقات الحركة العميقة مع الشبكات المحلية والدولية. كما اهتم بتطوير قدرات المقاتلين على استخدام التكنولوجيا الحديثة للتواصل والتنسيق، مما ساعد طالبان باكستان على تنفيذ عملياتها بفعالية أكبر رغم الضغوط الأمنية الشديدة التي فرضتها الحكومة الباكستانية.

العلاقة مع حركة طالبان الأفغانية

على الرغم من أن طالبان باكستان كانت تنظيمًا منفصلًا، فإن نور ولي محسود حافظ على علاقات استراتيجية مع حركة طالبان الأفغانية. وقد شملت هذه العلاقات التنسيق في عمليات التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية. ومع ذلك، شهدت العلاقات توترات أحيانًا، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على المناطق الحدودية وحقوق النفوذ بين التنظيمين. وتمكن محسود من الحفاظ على نوع من التوازن بين دعم طالبان الأفغانية والحفاظ على استقلالية حركة طالبان باكستان، مما أظهر قدراته الدبلوماسية ضمن عالم الجهاد المعقد.

بالإضافة إلى دوره العسكري، كان نور ولي محسود شخصية سياسية مؤثرة. فقد أدرك أهمية التغطية الإعلامية والدعاية للحفاظ على مكانة الحركة محليًا ودوليًا، لذا عمل على إصدار بيانات رسمية، وأدلى بخطابات إعلامية متكررة لتبرير العمليات المسلحة، مستندًا في ذلك إلى التأويل الديني والسياسي لتبرير أعمال العنف. وقد اعتبرت الحكومة الباكستانية والولايات المتحدة والأمم المتحدة محسود أحد أبرز قادة الإرهاب في جنوب آسيا، مما أدى إلى إدراجه على قوائم الإرهاب الدولية وفرض عقوبات واسعة على الحركة التي يقودها.

كان لنور ولي محسود تأثير كبير على المجتمعات المحلية في وزيرستان والمناطق المحيطة بها. فبالرغم من العمليات المسلحة، استطاع أن يحظى بدعم بعض القبائل المحلية بسبب تبنيه سياسات اقتصادية واجتماعية محددة، مثل حماية قوافل التجار المحليين وتقديم بعض الخدمات الأساسية تحت إشراف الحركة. إلا أن هذه السياسات كانت مزدوجة، إذ كان السكان مضطرين أحيانًا إلى الامتثال لأوامر الحركة خشية الانتقام، مما أسفر عن حالة من السيطرة شبه المطلقة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مناطق نفوذ طالبان.

يُعد نور ولي محسود من أبرز القادة الجهاديين في جنوب آسيا، إذ جمع بين الخبرة العسكرية والقدرة السياسية والدبلوماسية في قيادة حركة طالبان باكستان. لقد ترك بصمة واضحة في تاريخ الحركة وفي المنطقة بشكل عام، ليس فقط من خلال العمليات المسلحة، بل أيضًا من خلال الطريقة التي نظم بها الحركة، وحافظ على ولاء مقاتليها، وأدار علاقاتها مع الحركات الجهادية الأخرى.

تُعد حركة طالبان باكستان (TTP) من أبرز الجماعات المسلحة وأكثرها تأثيرًا وتهديدًا للأمن الداخلي في جنوب آسيا، خاصة في المناطق القبلية المحاذية لأفغانستان. تأسست الحركة رسميًا عام 2007 على يد بيت الله محسود في وزيرستان جنوب غرب باكستان، وهي منطقة تتميز بنشاط قبلي بشتوني مكثف يسهل تداخل الشبكات القبلية مع التنظيمات المسلحة العابرة للحدود.

تعتمد الحركة على أيديولوجية ديوبندية سلفية متشددة مستوحاة من طالبان الأفغانية، لكنها تعمل بشكل مستقل داخل باكستان. تركز TTP على مواجهة الدولة الباكستانية ومؤسساتها الأمنية، وتسعى لإقامة إمارة إسلامية على غرار النموذج الأفغاني، مع الحفاظ على تنظيم داخلي مستقل وأجندة وطنية خاصة. وقد نجحت الحركة في بناء بنية تحتية عسكرية وإدارية داخل المناطق القبلية، مما منحها القدرة على تنفيذ هجمات معقدة ومتزامنة، فضلًا عن إقامة تحالفات مع جماعات جهادية دولية.

تهدف الحركة إلى فرض الشريعة الإسلامية وفق تفسيرها المتشدد، وتعتبر الحكومة الباكستانية عميلة للغرب بسبب تعاونها مع الولايات المتحدة في "الحرب على الإرهاب". كما ترى أن الديمقراطية العلمانية وسيادة القانون المدني تتعارضان مع تعاليم الإسلام التي تلتزم بها. وتسعى طالبان باكستان إلى السيطرة على مؤسسات الدولة وفرض تطبيق الشريعة على المواطنين من خلال الهجمات المسلحة ضد العسكريين والأجهزة الأمنية والمجتمع المدني. وقد أظهرت الحركة قدرة على تعديل أهدافها التكتيكية من خلال التركيز على القوات الأمنية والاستخباراتية في محاولة لكسب شرعية أكبر بين السكان المحليين والداعمين الإسلاميين.

التحولات القيادية والاستراتيجية

شهدت الحركة تغييرات قيادية جوهرية أثرت على استراتيجياتها وأهدافها. بدأ التأسيس بقيادة بيت الله محسود، الذي وحّد الفصائل القبلية المسلحة وأرسى علاقات مع طالبان الأفغانية والقاعدة، مما منح الحركة شرعية ضمن شبكة الجهاد العالمي.

بعد مقتل محسود، تولى حكيم الله محسود القيادة حتى عام 2013، وسعى إلى توسيع نطاق العمليات ليشمل مناطق أوسع، مع تصعيد الهجمات ضد المدنيين والمؤسسات الحكومية.

في عهد الملا فضل الله، ركزت الحركة على إعادة هيكلة إدارتها، محوّلةً إدارة المناطق القبلية من نظام شبه قبلي إلى نظام مركزي مشابه لطالبان الأفغانية. وشمل ذلك برامج تدريب عسكري مركزية وتعيين حكام ظليين للأقاليم.

أما القائد الحالي نور ولي محسود، فقد تبنى استراتيجيات أكثر تكيّفًا مع المستجدات الداخلية والدولية. وتميزت قيادته بتقليل الهجمات العشوائية على المدنيين، وزيادة استهداف القوات الأمنية، وتوسيع التحالفات مع الفصائل المسلحة المعارضة للدولة، بهدف تعزيز القوة العسكرية وتنظيم الهجمات بفعالية أكبر.

النشاطات العسكرية والأيديولوجية

ركزت الحركة منذ نشأتها على تنفيذ هجمات عنيفة ضد القوات العسكرية والجهات الحكومية، وشملت استهداف المدنيين بطرق متنوعة، مثل المدارس والمراكز التعليمية. ومن أبرز هذه العمليات هجوم مدرسة بيشاور الذي أدى إلى مقتل العديد من الأطفال، ومحاولة اغتيال الناشطة مالالا يوسفزاي بسبب دورها في الدفاع عن التعليم، بالإضافة إلى سلسلة هجمات استهدفت مراكز الشرطة والمؤسسات الحكومية في مدن مختلفة.

بعد اتفاق السلام بين طالبان الأفغانية والحكومة الأمريكية، انضمت عشر جماعات مسلحة إلى طالبان الباكستانية، من بينها فروع من القاعدة وفصائل كانت قد انفصلت عن الحركة. وقد أدى هذا الاندماج إلى تعزيز القدرات العملياتية وتصعيد العنف، خصوصًا بعد سيطرة طالبان الأفغانية على كابول.

وعلى الرغم من استقلالية الحركة عن طالبان الأفغانية، فإن هناك علاقات وثيقة تربطها بعدة جماعات جهادية دولية. فطالبان الأفغانية توفر لها الحماية في الأراضي الأفغانية، بينما تقدم القاعدة إشرافًا استراتيجيًا وخبرة تنظيمية. وفيما يخص تنظيم داعش في ولاية خراسان، فإن الوضع أكثر تعقيدًا، إذ نشأت هذه الولاية جزئيًا من أعضاء سابقين في الحركة، لكنها تجنبت المواجهة المباشرة معها. ويشير المحللون إلى أن أي تحالف محتمل بين الحركة وولاية خراسان قد تكون له تداعيات أمنية تتجاوز حدود المنطقة، ويعزز قوتها الإقليمية والدولية.

الجذور التاريخية

تعود أصول الحركة إلى السياسات الجهادية التي تلت الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001. فبعد هذا الغزو، انقلب العديد من الجهاديين الباكستانيين الذين كانوا يقاتلون نيابة عن الدولة ضد القوات الأمريكية وحلفائها على الدولة الباكستانية نفسها، بسبب تعاون باكستان مع الغرب. بدأ هؤلاء المسلحون في توفير الملاذ لطالبان الأفغانية والقاعدة وحلفائهم الفارين من أفغانستان. ومع تصاعد الضغط الأمريكي على باكستان، شكّل هؤلاء تحالفًا رسميًا مع طالبان والقاعدة لتأسيس حركة طالبان الباكستانية عام 2007. اعتبروا أنفسهم امتدادًا لطالبان الأفغانية وشاركوا في دعم حرب طالبان ضد القوات الأمريكية، كما سعوا إلى إقامة نظام شريعة في باكستان على غرار النموذج الأفغاني.

واجهت الحركة تحديات كبيرة في ترسيخ مكانتها كقوة مناهضة للدولة. فإلى جانب مقاومة الحكومة والجيش، كان عليها أن تحقق شرعية سياسية ودينية داخل النظام الجهادي المحلي. لذلك، اتبعت الحركة استراتيجيات شملت تعزيز تحالفاتها مع طالبان الأفغانية والقاعدة لزيادة شرعيتها، والقضاء على كبار شيوخ القبائل المعارضين، وضم أعضاء من جماعات مسلحة مناهضة للشيعة، وإنشاء نظام شريعة في شمال غرب باكستان مشابه لما فرضته طالبان الأفغانية. كان الهدف من هذه الإجراءات جذب الإسلاميين وزيادة قاعدة الدعم الشعبي. وساهم هذا المزيج من التحالفات والعنف والإدارة المحلية في تعزيز مكانة الحركة ضمن النظام الجهادي المحلي وضمان استمرار نشاطها رغم الضغوط العسكرية.

التطور التنظيمي بعد عام 2014

تأثرت حركة طالبان الباكستانية بتراجع تأثير القاعدة بسبب الضغوط العسكرية، وصعود نفوذ طالبان الأفغانية، وجهودها الداخلية للحفاظ على أهميتها في السياسة الباكستانية. بعد الضربات الأمريكية بالطائرات المسيرة، قلّلت الحركة من دعمها العلني للقاعدة، لكنها حافظت على الإشراف السري. وفي عام 2014، بدأت الحركة بتحويل هيكلها شبه القبلي إلى إدارة مركزية، مع برامج تدريب عسكري موحدة وتعيين حكام ظل للأقاليم. وقد زاد هذا التحول من قدرتها على توجيه الهجمات بشكل متزامن وتحقيق أهداف استراتيجية طويلة المدى. كما انخرطت الحركة في القضايا السياسية الداخلية، داعيةً بعض أحزاب المعارضة إلى مراجعة نهجها السلمي ودعم حقوق البشتون والبلوش، رغم الاختلافات الأيديولوجية.

بعد سيطرة طالبان الأفغانية على كابول، ازدادت حرية حركة طالبان الباكستانية داخل الأراضي الأفغانية. أفرجت طالبان عن مئات من سجناء الحركة، وجددت الحركة البيعة للقيادة الأفغانية، معتبرة صمودها ضد الدولة الباكستانية مؤشرًا على القدرة على تحقيق نصر مماثل. وسجلت الحركة أعلى معدل هجمات شهري منذ سنوات، مما يعكس تصاعد قوتها التنظيمية وقدرتها على تنفيذ عمليات معقدة ضد أهداف الدولة، وزيادة نفوذها على الحدود، وقدرة أكبر على التنسيق مع الجماعات المسلحة الأخرى.

تظل الحركة نشطة وتواصل تهديد الأمن الداخلي والخارجي في باكستان من خلال هجمات تكتيكية، واختطافات، وتفجيرات، واستهداف المدنيين والعسكريين. وتبقي الحركة قنوات مفتوحة للتحالف مع جماعات مثل ولاية خراسان لتعزيز قوتها الإقليمية والدولية، مما يجعلها لاعبًا محوريًا في شبكة الجماعات الجهادية العابرة للحدود، ويجعل تقييم تهديدها ضرورة استراتيجية لأي مراقب للأمن الإقليمي والدولي.

تواجه الحركة تحديات متعددة، مثل استمرار العمليات العسكرية ضدها، والمراقبة الدولية، والانقسامات الداخلية بين الفصائل، مما قد يحد من قدرتها على تنفيذ هجمات منظمة. وفي الوقت نفسه، توجد فرصة للحوار مع الحكومة بعد عودة طالبان الأفغانية، لكن الحركة ترفض التخلي عن سلاحها قبل تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في تطبيق الشريعة وفق تفسيرها الصارم.

التحديات الأمنية في باكستان

منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، تواجه باكستان تحديات أمنية واستراتيجية متصاعدة، أبرزها تنامي نفوذ حركة طالبان الباكستانية التي اتخذت من الأراضي الأفغانية قاعدة لعملياتها. فقد كثفت الحركة من هجماتها ضد قوات الأمن والمصالح الحيوية في البلاد، مما بات يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الوطني والاستقرار الاقتصادي. ولم يقتصر الخطر على الجانب العسكري، إذ نجحت الحركة في إعادة بناء تماسكها الداخلي واستقطاب فصائل منشقة، إلى جانب تجديد تنظيم القاعدة دعمه العلني لها، ما عزز موقعها ضمن المشهد الجهادي في جنوب آسيا.

تعاني باكستان منذ تأسيسها من أزمة هوية سياسية وأمنية عميقة الجذور، نتيجة التنوع الثقافي والديني وغياب سلطة مركزية مستقرة. وقد فاقمت الانقلابات العسكرية المتكررة وهيمنة المؤسسة العسكرية على الحكم هذه الأزمة، في ظل فشل الحكومات المدنية في إكمال ولاياتها الدستورية. وفي هذا المناخ المضطرب، برزت الحركات المسلحة والانفصالية، وعلى رأسها طالبان الباكستانية، التي ظهرت كرد فعل على العمليات العسكرية التي تلت الغزو الأمريكي لأفغانستان، وسعت إلى توحيد التنظيمات الإسلامية المقاتلة في المناطق القبلية.

تتضاعف هذه التحديات الأمنية في ظل وضع اقتصادي مأزوم، يتسم بتضخم قياسي وتراجع الاحتياطي النقدي وارتفاع معدلات البطالة، إلى جانب كوارث بيئية متكررة. ومع تزايد الضغط الداخلي، اتخذت الحكومة قرارات مثيرة للجدل، أبرزها ترحيل ملايين المهاجرين الأفغان غير المسجلين، ما يعكس الترابط المعقد بين الأزمات الاقتصادية والأمنية والإنسانية التي تعصف بالبلاد.

مناطق انتشار حركة طالبان باكستان

عادت حركة طالبان الباكستانية في السنوات الأخيرة لتتصدر قائمة التهديدات الكبرى للأمن القومي، بعدما بدت شبه منهارة إثر العملية العسكرية الواسعة "ضرب العدو" التي شنها الجيش عام 2015. استطاعت الحركة استعادة قوتها تدريجيًا بفضل إعادة الهيكلة التنظيمية وعودة طالبان الأفغانية إلى الحكم عام 2021، مستفيدة من الانقسامات السياسية الحادة داخل باكستان. وتشير البيانات الحديثة إلى أن نشاط الحركة في عام 2025 تجاوز إجمالي العنف المسجل خلال عام 2024، مع تنفيذ أكثر من 600 هجوم استهدف قوات الأمن فقط.

أُدمجت المناطق القبلية السابقة في إقليم خيبر باختونخوا بموجب تعديل دستوري عام 2018، ما منح سكانها حقوقًا قانونية وانتخابية مساوية لبقية المواطنين. غير أن هذه المناطق، ولا سيما شمال وجنوب وزيرستان، بقيت المعقل الأهم لطالبان الباكستانية. ترجع أهمية هذه المناطق إلى طبيعتها الجبلية الوعرة وصلاتها العرقية الوثيقة بقبائل محسود، فضلًا عن قربها من الحدود الأفغانية التي تسهّل الحركة والتمويل والتدريب. وتشير بيانات مشروع النزاعات المسلحة (ACLED) إلى أن هذه المناطق شكّلت نحو 40% من مجمل أعمال العنف التي نفذتها الحركة منذ عام 2021.

انطلاقًا من قواعدها في الشمال، وسعت طالبان الباكستانية عملياتها جنوبًا في إقليم خيبر باختونخوا، مستهدفة مقاطعات بانو وديرة إسماعيل خان ولاكي مروت. وتكمن أهمية هذه المناطق في كونها بوابة نحو إقليم البنجاب، القلب الاقتصادي والسياسي لباكستان، فضلًا عن قربها من إقليم بلوشستان المضطرب، ما يسهل شبكات التهريب والتجنيد. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 60% من أعمال العنف منذ عام 2021 تتركز في هذا النطاق الجنوبي، ما يعكس طموح الحركة إلى التوسع وتأمين ملاذات بديلة حال تعرضها لضغوط عسكرية.

في أعقاب استعادة قوتها بعد عام 2021، ركزت الحركة في البداية على استهداف قوات الأمن، حيث شكلت الهجمات ضدها أكثر من ثلاثة أرباع نشاطها المسلح بين عامي 2021 و2022. غير أن العنف الموجه ضد المدنيين المرتبطين بالدولة شهد تصاعدًا لافتًا منذ عام 2023، إذ تضاعف أكثر من أحد عشر مرة مقارنة بعامي 2021 و2022. واستهدفت الهجمات شيوخ القبائل المتعاونين مع الحكومة وموظفي الخدمة المدنية وفرق التطعيم ضد شلل الأطفال وحتى عناصر الأمن خارج أوقات عملهم. تعتمد الحركة تكتيكًا يقوم على تنفيذ هجمات مركزة لإضعاف سلطة الدولة وخلق فراغ أمني يُظهر قدرتها على السيطرة الميدانية بأقل تكلفة ممكنة، مع اعتماد متزايد على المتفجرات والهجمات بعيدة المدى، ما يضاعف حالة القلق وعدم الاستقرار بين المدنيين.

تصعيد باكستاني ضد أفغانستان بسبب طالبان

شهدت الساحة الباكستانية مؤخرًا تصعيدًا غير مسبوق في الخطاب السياسي والإعلامي تجاه أفغانستان، بالتزامن مع اشتداد المواجهات بين الجيش الباكستاني وعناصر طالبان باكستان. وجهت إسلام آباد اتهامات مباشرة إلى حكومة طالبان الأفغانية بدعم الجماعة الباكستانية وتسهيل تحركاتها عبر الحدود، في وقت توترت فيه العلاقات بين البلدين إلى حد غير مسبوق.

صرح رانا ثناء الله، مستشار رئيس الوزراء الباكستاني، بأن الاتفاقية الأمنية مع السعودية تعتبر أي اعتداء من الأراضي الأفغانية على الحدود الباكستانية بمثابة هجوم مباشر على المملكة، مضيفًا أن "هذه الاتفاقية تمثل صفعة لأعداء باكستان في المنطقة". وأكد أن أي هجوم محتمل من الهند سيُعتبر بدوره اعتداءً على السعودية، في إشارة إلى الأبعاد الدبلوماسية الجديدة للتحالف بين البلدين.

أما وزير الدفاع خواجة آصف فاعتبر أفغانستان "دولة معادية"، محذرًا من أن دعم المسلحين يمثل تهديدًا مباشرًا لأرواح الباكستانيين. وأشار إلى أن باكستان خاضت حربين دفاعًا عن الشعب الأفغاني ضد الروس والأمريكيين، لكنها اليوم تواجه أفغانستان وقد تحولت إلى "بؤرة لأعداء باكستان"، حسب وصفه.

من جانبه، صرح الجنرال أحمد شريف، المتحدث باسم الجيش، بأن عناصر من الهند وأفغانستان متورطون في تصاعد العنف، مؤكدًا أنهم "يريقون دماء الباكستانيين". وانتقد شريف ما وصفه بتورط بعض اللاجئين الأفغان في أنشطة إرهابية، رغم أن باكستان استضافتهم لأكثر من أربعة عقود. وفي حديثه الإعلامي، أشاد بدور الجيش في تحسين العلاقات مع واشنطن، مثنيًا على "حنكة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب"، ما أضفى بُعدًا سياسيًا إضافيًا على الخطاب العسكري.

ولم يقتصر التصعيد على الجانب الرسمي، إذ انخرطت شخصيات دينية بارزة في الحملة ضد طالبان الأفغانية. فقد وجّه رئيس مجلس علماء باكستان طاهر أشرفي رسالة إلى قادة الحركة قال فيها: "نحن الذين علمناكم الدين، وأنتم طلابنا، وسنصدر الفتاوى ضدكم لأنكم أصبحتم أعداء باكستان". كما انتقد المفتي عبد الرحيم، رئيس جامعة الرشيد في كراتشي وأحد أبرز داعمي طالبان سابقًا، سياسات حكومة كابول، معتبرًا أنها تتعارض مع الشريعة الإسلامية وتخالف اتفاق الدوحة. وحمّل الحركة مسؤولية معاناة اللاجئين الأفغان في باكستان، واتهمها بالتقارب مع الهند وتنفيذ أجندات معادية لإسلام آباد.

يشير هذا التصعيد المتعدد المستويات — السياسي والعسكري والديني — إلى دخول العلاقات بين باكستان وأفغانستان مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة، تتجاوز البعد الأمني لتشمل أبعادًا دبلوماسية وأيديولوجية أعمق، مع تحذيرات متزايدة من أن أي خطأ في الحسابات قد يفاقم الأزمات الإقليمية ويهدد استقرار جنوب آسيا بأكملها.

تحميل المزيد