ارتفاع معدلات اضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب، والعنف الأسري، وتزايد حالات الانتحار، والهجرة العكسية؛ هذه الحالة التي وصل إليها المجتمع الإسرائيلي هي ضريبة للعدوان المستمر لجيش الاحتلال على قطاع غزة. صحيح أنها لا تضاهي ما دفعه الفلسطينيون، لكنها تؤكد أن وضع الإسرائيليين النفسي بعد عامين من الحرب "كارثي".
إذ كشفت تقارير إسرائيلية رسمية وغير رسمية عن ارتفاع مقلق في مؤشرات العزلة والجريمة بين الإسرائيليين، في وقت فشلت فيه خطط حكومة بنيامين نتنياهو لتغطية العدد المهول من المتضررين نفسياً، وسط مخاوف مستمرة من تأثير ذلك على تماسك المجتمع الإسرائيلي الذي بات يعاني على جميع المستويات.
من خلال هذا التقرير، يقدم "عربي بوست" صورة شاملة عن الوضعية النفسية للمجتمع الإسرائيلي، انطلاقاً من تقارير رسمية وإعلامية محلية، ويستعرض التقرير بالأرقام كيف "تفتك" الحرب على قطاع غزة أيضاً بالمجتمع اليهودي الذي بات مليئاً بالأمراض النفسية.
تزايد اضطرابات ما بعد الصدمة بنسب غير مسبوقة
مع طيّ صفحة العام الثاني من حرب الإبادة على غزة، تخرج المزيد من البيانات التي تؤكد أن إسرائيل تواجه موجة غير مسبوقة من اضطرابات ما بعد الصدمة "PTSD".
حيث أعد مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست وثيقة نشرتها القناة 12، جاء فيها أنه منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تلقت شعبة إعادة التأهيل في الجيش طلبات لأكثر من سبعة آلاف متقدم للاعتراف بأنهم يعانون من مظاهر أزمة نفسية، وسط تحذيرات من خبراء في أكبر ثلاثة مراكز بحث وعلاج في إسرائيل بأن المرضى النفسيين في تدفق مستمر.
حاييم ريفلين، مراسل "الحراس"، كشف في تقرير مطول أن الجنود المصابين بأعراض ما بعد الصدمة بسبب الحرب يعانون من نوبات عصبية، ويخجلون من البوح بها، ويحاولون الهروب منها عبر إدمان المخدرات والكحول، والأفكار الانتحارية.
ونقل ريفلين عن خبراء أن الزيادة الكبيرة في عدد المصابين لا تبدو إسرائيل مستعدة للتعامل معها بهذا الحجم المتنامي، لأن تآكل قدرات الجنود في الميدان، والإسرائيليين المعرّضين للخطر، وانعدام التوافق مع استمرار الحرب، كل ذلك يُفاقم خطر الضرر النفسي طويل الأمد.
وقد أظهرت دراسة شاملة للمركز الوطني للصدمات النفسية والصمود بجامعة تل أبيب، ارتفاعاً مذهلاً في معدل اضطراب ما بعد الصدمة، رغم أن الأرقام في الواقع أعلى مما يتم نشره، فهناك آلاف الإسرائيليين في مرحلة دون السريرية، لديهم الكثير من الأعراض، وسيحتاجون إلى العلاج أيضاً.
وبعد إعلان نهاية الحرب بعام أو عامين تقريباً، ستبدأ إسرائيل برؤية هذه الموجة قادمة، وبعد أن قدّر معدّ الدراسة، البروفيسور يائير بار حاييم، عدد المصابين باضطراب ما بعد الصدمة بـ30 ألفاً في بداية الحرب، غيّر تقديره إلى 50 ألفاً، وفقاً لما نقلته سيفان ألكيلك، مراسلة القناة "آي 24".
إيتاي غال، مراسل صحيفة معاريف، نقل عن فلاد سفيتليتسكي، مدير المركز في شيبا، القائم منذ ثلاثين عاماً، أن عدد مرضاه السنوي استقر عند 1500 مريض، لكن منذ اندلاع الحرب، تضاعف إلى 3 آلاف، وللتعامل مع هذا العبء، افتتح ست عيادات إضافية، وباتت أوقات انتظار المرضى تصل شهراً وشهرين.
وهناك إدراك لدى الخبراء أن موجة من الاضطرابات النفسية قادمة، وقد ينجم عنها حالات من الانهيار، "فقد بتنا نرى حالات طلاق، وتدهوراً في العمل والدراسة، وفي النهاية، عندما تشتد الأمور، قد يذهبون إلى الانتحار، وهذا سيستمر"، حسب ما صرح به مدير المركز في شيبا.

فيما وصف أورين تانا، مدير قسم الطب النفسي بمستشفى إيخيلوف، الزيادة الهائلة بأعداد المرضى النفسيين مقارنةً بفترة ما قبل الحرب، معتبراً أن التعريف الإحصائي لـ"أطول حرب في تاريخ إسرائيل" يؤثر على عدد المرضى، جسدياً ونفسياً، وهو أمر لا يقل إثارة للقلق.
أما أوفير ليفي، مدير العيادة بالمركز الوطني للصدمات النفسية والصمود، فأكد أننا في حرب منذ عامين، ومعظم من يلجأ إلينا إما يخدمون في الجيش، أو يعانون من ضغوط نفسية، ولذلك تتراجع فعالية العلاج، ما يشعرنا بالقلق من شدة الموجة المتوقعة، في ضوء تآكل الإجماع العام حول الحرب وأهدافها.
وأسفر ذلك عن شعور الإسرائيليين عموماً بالقلق، والعجز، والإحباط، والغضب، وذلك له عواقب وخيمة، لأنهم لا ينامون، ويشعرون بالتوتر، ويتجنبون أي شيء قد يُذكرهم بالصدمة، وتنتابهم الكوابيس، وتعود بهم الذكريات المؤلمة، وينظرون إلى العالم كمكان خطير، وفقاً لما نقلته إيدو إفراتي، مراسلة صحيفة "هآرتس".
اتساع رقعة الأمراض النفسية وفشل الدولة في مواجهتها
عقدت جامعة تل أبيب مؤتمراً "من أجل مستقبل إسرائيل" في مايو/أيار 2025، قدمت فيه ليمور لوريا، رئيسة قسم إعادة التأهيل بوزارة الحرب، إحصائية غير مسبوقة تفيد بأن 47% من جرحى الحرب يعانون من مشاكل في الصحة النفسية واضطراب ما بعد الصدمة.
وجاء ذلك بالتزامن مع حالة الاستنزاف التي تواجهها الدولة بسبب أعداد متصاعدة ممن يتلقون علاجات الفصام، والاكتئاب، والقلق، واضطرابات الأكل، مما يجعلها أمام ورطة كبيرة.
وشهد المؤتمر اعترافات إسرائيلية بأن المنظومة النفسية انهارت فعلياً بعد اندلاع الحرب، وطوابير المرضى غير واقعية، رغم وجود 400 مؤسسة تقدّم خدماتها للصدمات النفسية، وسط اتفاق على أن هذه الظاهرة المرضية ستُلازم الإسرائيليين لسنوات عديدة قادمة، وعليهم الاستعداد لعقدين أو ثلاثة عقود مقبلة من العلاجات المكثفة.
فيما كشف إيتاي غال، مراسل صحيفة "معاريف"، أن الدولة تستعد لأكبر موجة من اضطرابات ما بعد الصدمة في تاريخها، حيث تواجه صناديق التأمين الصحي والمراكز الطبية أكبر أزمة صحة نفسية تضربها، ويُعاني عشرات آلاف الإسرائيليين من الاكتئاب، والقلق، والوحدة.
وسط تحذيرات بأنها ليست سوى في بداية الموجة، لأن التوقعات أن واحداً من كل ثلاثة إسرائيليين يعانون هذه الاضطرابات، وقد شهدت الأشهر الأخيرة فقط تعامل مؤسسة "عيران" للاستشارات النفسية مع رقم قياسي تجاوز 100 ألف مكالمة، لم يُسجل منذ إنشائها.
مؤسسة "كلاليت الصحية"، وهي أكبر منظومة للصحة النفسية في إسرائيل، كشفت عن زيادة بنسبة 25% في استهلاك الأدوية النفسية، وتصاعد بـ52% في المكالمات المتعلقة بالقلق، وارتفاع بـ45% في تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة.
وكشف مدير المؤسسة، غيل سالزمان، أن الجمهور يعاني من صدمة شديدة ومستمرة بسبب الحرب، وسط خشية من إصابته بمتلازمة ما بعد الصدمة المزمنة.
أما عاراد كوديش، كبير الأطباء النفسيين في مؤسسة "مئوحيدت"، فأكد أن نظام الصحة النفسية لا يُقدم استجابة مُرضية للإسرائيليين، رغم أن الضائقة النفسية مشكلة مُلحّة لهم، تُسبب الانفصال عن البيئة، والشعور بالوحدة، والاكتئاب، والقلق، واليأس، وفقدان الأمل، وأحياناً الانتحار، وفقاً لما ذكرته نيتا عنبار سابان، مراسلة الشؤون الصحية.
وأكدت دافني ليدور، مراسلة موقع "المكان الأكثر سخونة في جهنم"، أن الكنيست شهد نقاشات مستفيضة حول هذه اضطرابات الجنود، وباتت المراكز تستقبل بمعدل 21 مصاباً يومياً، وقرابة 10 آلاف منذ بداية الحرب، 35% منهم يعانون من أمراض نفسية، عدد منهم أنهى حياته قبل أيام من عودته إلى غزة.
ورغم أن الكنيست تعهد في نقاشات سابقة بتشكيل طاولة مستديرة للوزارات الحكومية لمساعدة الجنود، لكن ذلك لم يحدث، ناقلةً عن الجندي غاي مزراحي، الذي حضر النقاش: "لا نستطيع الصمود أكثر، لقد مررنا بشهور في غزة لا أستطيع وصفها، ولم أعد أشعر بأي طعم للأكل بعد كلّ الجثث التي ذبحتها".
أفيرام، جندي آخر، قال: "أتناول أربعة أقراص نفسية يومياً، أخجل من قول إني لا أنام مع زوجتي ليلاً، لأن ذلك يعني الاستيقاظ، والصراخ في منتصف الليل في حالة ذهول، وسيلان اللعاب، والتعرق في السرير. أشعر بقدر كبير من العار، لأننا نشعر أنه نتيجة لهذه الحرب كل شيء ينهار، لا أعرف من أين أجمع شتات عائلتي، إنها تتحطم لأشلاء، والنتيجة أنني خرجتُ من هذه الحرب أكثر تضرراً".
الأسوأ لم يأتِ بعد.. مخاوف من مزيد من الأمراض النفسية
وفقاً لبيانات أعلنتها رئيسة قسم إعادة التأهيل في الجيش، ليمور لوريا، فإنه مقابل الزيادات في أعداد المصابين نفسياً، ما زلنا نواجه نقصاً في أعداد العاملين والأخصائيين، بدليل أن كل أخصائي يعالج 850 جندياً من ذوي الاحتياجات الخاصة، وبالتالي فإن الفجوة أكبر بكثير.
ما يعني أن الحكومة، وفق ليمور لوريا، فشلت، وهذا الفشل مُخزٍ، وبدأ يُكلف أرواحاً بشرية، ومن يعتقد أن ما يواجه الجنود من أزمات نفسية لن يكون له عواقب بعيدة المدى، فهو مُخطئ، ويُعرّض الدولة للخطر.
سفيتلانا غريشين، أخصائية الطب النفسي، ومديرة مركز "عصر الانتباه" في حيفا، ذكرت في مقال نشره موقع "زمان إسرائيل"، أكدت أنه قبل عامين دخلت الدولة بأكملها في تجربة صادمة مستمرة، ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شهدنا زيادة مطردة وغير مسبوقة في عدد من يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، سواء على خطوط المواجهة في غزة، أو في الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وتشير التقديرات إلى أنه بحلول نهاية الحرب، سيكون ما بين مليون ونصف ومليوني إسرائيلي مصابون بالصدمة، وهو رقم سيُجبر الدولة على التعامل مع أزمة صحية ونفسية هائلة، لأن أكثر أعراض الاضطراب إثارة للقلق هي أفكار فقدان معنى الحياة، والشعور بفقدان الهدف، والذنب، والعجز، والقلق، وهي مشاعر قد تدفع الإسرائيليين الذين يعانونها إلى إنهاء حياتهم.
ومنذ بدء الحرب، يعاني عموم الإسرائيليين، لا سيما على الحدود الجنوبية مع غزة، والشمالية مع لبنان، من نوبات قلق، وغضب، وشتائم، وصراخ، وانطواء على النفس، وشعور بالبكاء، والارتعاش في جميع أنحاء أجسادهم، وضيق في التنفس، والإغماء عدة مرات، حيث تُعدّ إسرائيل أرضاً خصبة لأعراض ما بعد الصدمة؛ ومختبراً استثنائياً للتوتر، وفقاً لما ذكرته رينان نيتسار الكاتبة في القناة 12.
وتعتبر تاليا ليفانون، الرئيسة التنفيذية لائتلاف الصدمات، أن عبارة "اضطراب ما بعد الصدمة" تعتبر إشكالية، لأن الوضع اليوم ليس "ما بعد الصدمة"، بل مستمر ودائم، والتهديد قائم دائماً، وترافقها مظاهر الشكاوى من الصداع، وآلام المعدة، والغثيان؛ وتظهر أمراض لم يكن يُفترض أن تظهر.
وأضافت ليفانون أن هناك ميلاً للإدمان على مواد مختلفة، وصعوبات في العلاقات الشخصية، واضطرابات في النوم، وبالتالي فإن الإسرائيليين يشعرون أنفسهم في حالة طوارئ مستمرة وشديدة، وهذا أمر مُربك ومُستنزف للغاية، وفقاً لما ذكره إيدي كوهين مراسل قناة "آي 24".
مع العلم أن مراقب الدولة، متنياهو إنغلمان، نشر تقريراً حول إخفاقات الحكومة وأوجه قصورها في الرعاية الصحية النفسية، رغم وجود قرابة مليون إسرائيلي عانوا وما زالوا يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب، والقلق، مع النقص الحاد في المعالجين النفسيين من علماء النفس والأطباء، بجانب الفوضى في العلاج المقدم من مستشفيات الأمراض النفسية، وليس معقولاً أن يضطر المرضى للانتظار في طابور لمدة ستة أشهر لتلقي العلاج من طبيب نفسي.

جرائم جنود الاحتلال في غزة تنعكس عليهم
نقل يارون دروكمان، مراسل صحيفة "يديعوت أحرونوت"، عن خبراء إسرائيليين أن العجز الماثل أمام تزايد أعداد المرضى النفسيين يعني انهيار نظام الصحة النفسية، الذي عانى من صعوبات حتى قبل الحرب، وما زال يواجه المزيد من أوجه القصور بسبب عدم استقرار الميزانية، والنقص الحاد في القوى العاملة.
ورغم مضاعفة وزارة الصحة لميزانية مراكز المرونة النفسية أربعة أضعاف في 2024 بمقدار 119 مليون شيكل، وفي 2025 بثلاثة أضعاف، بمقدار 107 ملايين شيكل، لكن الوضع الكارثي ما زال بحاجة لمزيد من الدعم والإسناد، بهدف وضع حدّ لظاهرة قوائم انتظار المرضى، وتوفير استجابات علاجية حساسة ومُصممة خصيصاً لعشرات الآلاف.
وتتحدث التقارير الإسرائيلية أن أكثر من 20 ألف جريح من الجنود منذ بداية الحرب، 56% منهم مصابون بإصابات نفسية، ويُستقبل شهرياً ما معدله ألف جريح نتيجة الحرب المستمرة، نصفهم من الشباب دون سن الثلاثين، وأكثر من نصفهم بنسبة 56% يعانون من ردود فعل نفسية، وسط تحذيرات من نقص حاد في القوى العاملة من المعالِجين، وموجة أخرى من المرضى النفسيين.
بل إن عدد الجرحى من جنود الجيش وأفراد الأجهزة الأمنية وصل إلى ذروة غير مسبوقة بلغت 82 ألفاً، بمن فيهم 31 ألفاً يعانون من أمراض نفسية واضطراب ما بعد الصدمة بنسبة 38%، ما يعني ارتفاع عدد من يُصنّفون بأنهم يعانون من مشاكل نفسية بنسبة 180%، وسيزداد هذا العدد مع نهاية الحرب، عندما يبدأ المزيد منهم بالإبلاغ عن حالتهم.
في الوقت ذاته، كشفت دراسة أجراها باحثون كبار في كلية روبين الإسرائيلية ومعهد الطب النفسي في نيويورك وجامعة كولومبيا، أن نصف الجمهور الإسرائيلي يعاني من اضطراب الحزن المُطوّل نتيجةً لأزمة المختطفين المستمرة، وترتبط هذه الظاهرة بزيادات كبيرة في مستويات القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
وأنشأ القلق على مصيرهم شكلاً فريداً من الحزن الجماعي الذي يؤثر على الأداء اليومي والصحة النفسية، وظهور أعراض اضطراب الحزن المطول، والضعف الوظيفي الملحوظ، وتراجع جودة النوم، وصعوبة التركيز، وانخفاض مستويات التفاؤل والأمل بالمستقبل، مما يكشف عن شكل جديد من الصدمات الجماعية الناتجة عن "الفقدان الغامض"، وهي حالة يسود فيها عدم اليقين بشأن مصير المختطفين.
مع العلم أن هناك تكاليف غير منظورة للحرب في غزة، ستنعكس في انتشار الأذى النفسي بين الجنود، ممن مرّوا بتجارب يصعب استيعابها حتى مع مرور الوقت.
وتكشف بيانات الجيش عن عدد من يعانون من ضائقة نفسية، ويتلقون العلاج، وفي طريقهم للاعتراف بإصابات ما بعد الصدمة، عن صورة قاتمة ازدادت سوءاً مع مرور الوقت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ووفقاً لجميع تقديرات المتخصصين، فإن الأسوأ لم يأتِ بعد، وفقاً لما ذكره يوآف زيتون، المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت".
عيّنات من الأعراض النفسية والمشاكل الاجتماعية والعائلية
منصة "آي سي إيه" استعرضت مظاهر انتشار أعراض ما بعد الصدمة بين الإسرائيليين، ومنها أن 34% من النساء اللواتي أنجبن خلال الحرب أبلغن عن أعراض صحية غير مسبوقة، مثل اكتئاب ما بعد الولادة، وتحدثت 62% عن الكوابيس المرتبطة بالحرب، وعاشت 73% في حالة توتر دائم، ومن السهل ترويعهنّ، وشعرت 40% بالانفصال عن الناس والأنشطة والبيئة.
روبي همرشاليغ وكاتي دور، مراسلا هيئة البث الإذاعي والتلفزيوني "كان"، نقلا نتائج دراسة أجراها البروفيسور أورين كابلان، الخبير في علم النفس الإيجابي بأكاديمية صفد، عن عمق الأزمة النفسية في المجتمع الإسرائيلي بعد حرب غزة، ومنها أن أكثر من ثلث الجمهور 36% يُظهرون أعراضاً حادة لاضطراب ما بعد الصدمة، وترتفع هذه المعدلات بين من تعرضوا مباشرةً لأحداث الحرب، سواء هجوم الطوفان، أو قاطني مناطق سقوط الصواريخ، أو جنود الاحتياط.
فيما كشفت جمعية "عيران" التي تُعنى بالصحة النفسية، أن قرابة 500 ألف مكالمة وردتها منذ بداية الحرب عبر خطوط الهاتف والإنترنت الساخنة، بما فيها مكالمات الدردشة، واتساب، المنتديات، ومراقبة المكالمات المعرضة للخطر، وهذا رقم هائل، جميعهم يتصلون بسبب الألم والوحدة وعدم اليقين والقلق.
وإذا كان هؤلاء من يقعون في دائرة الاستهداف الأولى من الحرب، فإن هناك دوائر أوسع، وبالتالي فلا يوجد إسرائيلي واحد غير متأثر ومتورط بطريقة أو بأخرى، لأن الحرب أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية.
شاولي هرتسيك باز، رئيس جمعية "أمبا"، التي تُنظّم ورش عمل لعلاج ما بعد الصدمة للجنود، ذكر في مقال نشره موقع "ويللا"، أن إسرائيل ستضطر في السنوات القادمة لإنفاق 200 مليار شيكل على علاج المرضى النفسيين بسبب الحرب، لأن تكلفة الواحد منهم تقترب من مليوني شيكل على مدار حياته، في ظل زيادة عددهم بنسبة 287%، بمعدل 1280 طلباً شهرياً، وهو وضع غير مسبوق.
"تسونامي نفسي"، عنوان لافت اختاره موقع "للأطباء فقط"، للإشارة إلى حجم الصدمات التي تحيط بالإسرائيليين بسبب الحرب من خلال إجراء قرابة 300 مكالمة استغاثة منذ بداية الحرب، تعبير عن مشاعر القلق، والصدمة، والفقد، والوحدة، والألم النفسي، مما دفع الخبراء للقول إن شدة المعاناة التي يواجهها الإسرائيليون نتيجة لاستمرار الحرب يجب أن تحرم صناع القرار في الدولة من النوم، ومن نماذج المكالمات:
- بقاء زوج في الخدمة الاحتياطية في غزة لعدة أشهر، وشعوره بأنه على وشك الغرق.
- آخر يعود لواقع متغير، حيث انهار عمله، وأعلنت زوجته رغبتها بالانفصال.
- أحدهم قال في مكالمته بنبرة حزينة: "أحياناً أشعر بالأسف لأنني لم أُقتل في غزة".
والدة جندي عاد بعد فترة طويلة من الخدمة العسكرية في غزة تخشى أن يكون يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، بزعم أنه "ليس نفس الشاب الذي أعرفه، الليالي ليست ليالٍ، والنوم ليس نوماً، وهو غير مستعد لقبول المساعدة، ودائماً يشعر بالوحدة".

تزايد الانتحار.. المؤشر الأخطر من نتائج الحرب على غزة
البروفيسور يائير بار حاييم، رئيس المركز الوطني للصدمات النفسية والمرونة بجامعة تل أبيب، ربط بين تصاعد اضطرابات الحرب وانخفاض معدل استجابة جنود الاحتياط للخدمة العسكرية بسبب الأضرار المستمرة التي تلحق بهم وبعائلاتهم وحياتهم الاجتماعية، والغضب من عدم المساواة في تحمّل العبء، وانخفاض عام في الدافعية بسبب طول مدة الحرب، وتآكل المرونة النفسية لمن تعرضوا لأحداث قتالية صادمة.
وأعلنت إسرائيل عن تسجيل 217 حالة انتحار بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ونهاية 2024، دون الإشارة لأعداد الجنود القتلى، فيما يُقدم 400 إلى 500 إسرائيلي على الانتحار سنوياً، ويُبلَّغ عن 7000 محاولة تنتهي بأقسام الطوارئ، والعديد منهم تعرضوا لأهوال الحرب، ويُعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.
يأتي ذلك أيضاً وسط تحذير من أن الأفكار الانتحارية، على خلفية الحرب، تندلع بعد سنوات من وقوعها، مع زيادة حادة في مكالمات الاستغاثة على الخطوط الساخنة، وفقاً لما كشفته عضوة الكنيست كاتي شطريت، رئيسة لوبي الصحة النفسية ومنع الانتحار.
ونقل ليدور سولطان، الكاتب في صحيفة "إسرائيل اليوم"، عن أمير وادماني، رئيس شعبة الموارد البشرية في الجيش أن هناك 21 حالة انتحار خلال 2025 الذي لم ينته بعد، فيما انتحر ذات العدد خلال 2024 بأسره، رغم الشكوك المحيطة بهذا الرقم.
إذ يتعمد الجيش إخفاء حجم الفشل، ما يعني كثرة حالات الانتحار منذ بداية الحرب، وازدياد عدد المُتعرّضين للخطر بسببها، في ربط واضح لجميع حالات الانتحار بالقتال في غزة، لأن نسبة كبيرة من المنتحرين فعلوها بسبب الحرب وآثارها على حالتهم النفسية.
واتخذ عدد كبير منهم قرارهم النهائي بالانتحار أثناء تدريبهم، أو أثناء خدمتهم في الجبهة الداخلية، وسط الكشف عن إخفاء الجيش لنتائج التحقيقات في قضايا 54 من الجنود والضباط الذين أنهوا حياتهم في حقبة الحرب، ظناً منهم أنها ملاذهم الأخير، مما يستدعي البحث عمن سيليهم في قائمة المنتحرين.
تاني غولدشتاين، مراسل موقع "زمان إسرائيل"، أكد أن "هناك صلة بين انتحار الجنود والحرب والوضع الراهن، وينبع جزء كبير من حالات انتحارهم من ضائقة نفسية مرتبطة مباشرة بخدمتهم في الحرب، ولولاها لما أثرت عليهم بهذا القدر بالاندفاع نحو اتخاذ هذا القرار المصيري، لأنها شكلت لهم تجربة مؤلمة".
وحسب غولدشتاين، فإن من يُقدم منهم على الانتحار لديه تاريخ شخصي من المعاناة والصدمات التي تُصعّب عليه التأقلم، حيث يشعرون بفقدان السيطرة والعجز، والجنود ليس لديهم فكرة متى ستنتهي الحرب، أو إلى أين هم ذاهبون، بل يشعرون بالخوف الجسدي على حياتهم، لأنه في نهاية المطاف يُقتل أصدقاؤهم بجانبهم.