أثارت خطوة الحكومة السورية بإجراء تعديلات وتغييرات في المناهج التعليمية جدلًا واسعًا داخل المجتمع السوري، وذلك بعد أن طال التغيير مناهج التاريخ والجغرافيا، فضلًا عن تقليص حصص مادة القرآن الكريم، وإجراء تغييرات جذرية على منهاج دار الوحي الشريف، الذي يُعدّ من أبرز المناهج الشرعية في سوريا.
وتقول الحكومة السورية إن تغيير المناهج، وخاصة مواد التاريخ والجغرافيا في مختلف المراحل التعليمية، أمر ضروري بسبب ارتباط ذلك بالثورة السورية ونتائجها، ومن ثم فلا يصحّ الاستمرار في تدريس مناهج تمجّد النظام السوري السابق. وأشارت، وفق مصدر في وزارة التعليم، إلى أن الوزارة أرادت إحداث توازن في ما يتعلق بحصص مادة القرآن الكريم في المدارس، من خلال توزيع عدد الحصص التي كانت مخصّصة للقرآن الكريم لتشمل القرآن وبعض المواد الأخرى، بهدف تحقيق توازن تعليمي يستفيد منه الطالب السوري.
أبرز التعديلات الجوهرية في مناهج التاريخ
* إعادة صياغة كاملة لكتاب التاريخ: بعد أن كان – في عهد الأسد – يفتقر إلى التسلسل الزمني المنطقي، ويقدّم الأحداث بطريقة دعائية وغير مترابطة.
* حذف كل ما يمجّد النظام السابق: بما في ذلك الإشارات إلى "الحركة التصحيحية" التي قادها حافظ الأسد عام 1970، وعبارات تمجيد بشار الأسد وزوجته أسماء.
* إدراج فصول ومقتطفات جديدة عن الثورة السورية: تناولت مراحلها الأساسية، وأسباب اندلاعها، وكيف تمكنت من كسر هيبة النظام في سنواتها الأولى، مع ذكر رموز الثورة وأهم محطاتها.
* حذف الإشارات السلبية تجاه العهد العثماني وتركيا: التي كانت تُدرّس ضمن سرديات العداء التاريخي.
* إزالة فقرة "إعدام قادة الحركة الوطنية في السادس من أيار 1916": التي كانت تشير إلى "شهداء السادس من أيار"، في خطوة أثارت انتقادات واسعة واعتبرها البعض محاولة لإرضاء تركيا.
* تعديل تسمية حرب تشرين التحريرية: إلى "حرب عام 1973" دون استخدام التعبيرات الأيديولوجية السابقة.
* حذف الإشارات إلى الآلهة القديمة والأساطير الوثنية من دروس الميثيولوجيا التاريخية التي كانت تُدرّس في المراحل الثانوية.
التعديلات في مناهج الجغرافيا
* إعادة تصميم كتب الجغرافيا لتشمل خرائط سياسية وتاريخية محدّثة تُظهر الحدود السورية وتطورها عبر الزمن.
* تصحيح المفاهيم المغلوطة التي كانت تهدف إلى إظهار النظام السابق كحامٍ للوحدة الوطنية، واستبدالها بمقاربة علمية تشرح التحولات السياسية والجغرافية في سوريا.
* إدراج محتوى جديد عن البيئة والمناخ والتنمية المستدامة بما يتوافق مع المعايير الدولية للتعليم الحديث.
استحداث مادة "الشؤون الإنسانية" بدلًا من "التربية الوطنية"
* تم إلغاء مادة التربية الوطنية بالكامل بعد اعتبارها أداة سياسية لغرس الولاء للنظام السابق.
* استُبدلت بمادة جديدة بعنوان "الشؤون الإنسانية"، تُدرّس في معظم دول العالم، وتهدف إلى تعزيز القيم الإنسانية وفهم الفرد للمجتمع وحقوق الإنسان.
* تم توزيع علامات مادة التربية الوطنية على مادة الاجتماعيات، لتخفيف العبء الدراسي مع الحفاظ على التوازن الأكاديمي.
التعديلات في مناهج اللغة العربية والآداب
* حذف القصائد والأدبيات التي تمجّد النظام السابق أو تتناول ما يُعرف بـ "انتصار تشرين".
* حذف القصائد التي تثير النعرات الطائفية أو القومية.
* إزالة النشيد الوطني السوري "حماة الديار عليكم سلام" من الكتب المدرسية دون إعلان رسمي عن تغييره، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا حول نية الحكومة إعادة صياغة الرموز الوطنية.
* إعادة إدراج شخصيات أدبية محايدة، وتوسيع نطاق النصوص لتشمل أدباء وشعراء من مختلف المكونات السورية.
ورغم أن التعديلات التي قامت بها الحكومة السورية في مواد التاريخ والجغرافيا وكذلك اللغة العربية لم تثر غضب الكثيرين من السوريين ولم تتسبب في ردود فعل رافضة، إلا أن أصواتًا سورية ارتفعت رافضة بشكل مطلق أن يتم تغيير المناهج السورية بدون تشكيل لجان تربوية مختصة بكل مرحلة تعليمية. ومن بين هذه الأصوات شخصيات مقربة من الحكومة السورية، مثل الصحفي والناشط السياسي السوري قتيبة ياسين، الذي قال إنه يجب على الحكومة التوقف عن تغيير المناهج حتى تقوم بتشكيل لجان مختصة يُسند لها مهام تعديل المناهج.
رأي الحكومة في التعديلات
دافع عن هذه التغييرات محمد سائد قدور، مدير التعليم في وزارة التربية والتعليم السورية، موضحًا أن المناهج التعليمية السابقة في سوريا كانت تخضع لرقابة مشددة، خاصة في مواد التاريخ والجغرافيا، حيث كان يُمنع إدراج أي سرد يخالف الأيديولوجيا الرسمية، وهو ما أدى، بحسب قوله، إلى تشويه صورة التاريخ السوري وتغييب تفاصيل الثورة التي اندلعت عام 2011.
وأوضح قدور أن من حق أي ثورة منتصرة أن تقدم روايتها الصادقة بدلاً من الروايات الرسمية التي كانت تُفرض على الطلاب سابقًا، مشيرًا إلى أن التعديلات الأخيرة لم تكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل جاءت في إطار إصلاح شامل يستند إلى أسس مهنية وعلمية.
وتحدث قدور عن أوجه القصور في المناهج التي وُضعت في ظل حكم أسرة الأسد، موضحًا أن كتب الجغرافيا كانت تخلو من الخرائط السياسية القديمة أو السياقات التاريخية التي تشرح تطور الحدود السورية، كما لم تكن مواد التربية الإسلامية تركز على حفظ النصوص القرآنية التي تساعد الطلاب على تقوية لغتهم وتنمية مهاراتهم اللغوية، وهو ما دفع الوزارة إلى تعديل هذه المواد وتبسيطها بما يجعلها ميسّرة لجميع الطلاب دون الدخول في إشكالات فكرية أو خلافات مذهبية.
وأشار مدير التعليم إلى أنه بعد إلغاء مادة التربية الوطنية، سيتم توزيع علاماتها على مادة الاجتماعيات، مع إدراج مادة جديدة تُعنى بالشؤون الإنسانية تُدرّس في معظم دول العالم، لتكون بديلاً لمادة التربية الوطنية السابقة، التي كانت بحسب وصفه أداة لغرس الولاء السياسي للنظام أكثر من كونها مادة تعليمية. ولفت قدور إلى أن نظام الأسد كان يجري تعديلات جوهرية على المناهج بصمت ومن دون إعلان، مثل حذف الآيات القرآنية من كتب اللغة العربية بشكل تدريجي، بهدف إفراغ التعليم من محتواه الديني والثقافي الأصيل.
الخلاف حول مواد الدين
ورغم أن التعديلات التي قامت بها الحكومة السورية في مناهج التربية الإسلامية رُأت فيها أمرًا إيجابيًا، إلا أنها أثارت جدلًا كبيرًا داخل المجتمع السوري. وبخصوص ما تم تعديله في مناهج التربية الإسلامية، فقد ركزت التعديلات على توحيد التفسيرات الدينية وإزالة الأخطاء والتحريفات التي كانت موجودة في المناهج السابقة. تم تعديل العبارات والمفاهيم لتتوافق مع الفهم الديني الموحد، مثل استبدال تعبير "عطاء الطبيعة" بـ"عطاء الله"، وتحويل عبارة "الصراط المستقيم: طريق الخير" إلى "طريق الإسلام"، وإعادة تفسير عبارة "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" لتصبح "اليهود والنصارى".
لكن الأزمة لم تكن في هذه التغييرات، بل كانت في تقليص حصص مواد التربية الإسلامية والقرآن الكريم في المدارس، وهو ما تسبب في خلاف كبير داخل قطاع التعليم وبين المعلمين وأسر الطلاب. وقد عبر قطاع كبير من المعلمين في سوريا عن رفضهم لقرارات الحكومة، وأطلقوا حملة إلكترونية واسعة عبر صفحة رابطة المعلمين السوريين الأحرار على مواقع التواصل الاجتماعي. وأشارت الصفحة إلى أن وزارة التربية استجابت مبدئيًا للضغوط الشعبية، وأصدرت موافقات لإعادة حصص القرآن الكريم إلى جدول الدروس، لكنها سرعان ما تراجعت عن القرار دون توضيح الأسباب.
وأكدت الرابطة أن هذا التراجع أدى إلى فقدان المعلمين الثقة بقرارات الوزارة، وأشعل موجة غضب أوسع داخل المجتمعات المحلية، خاصة بين أولياء الأمور الذين يرون أن هوية أبنائهم الدينية باتت مهددة بسياسات تعليمية غير مدروسة.
وشهدت عدة مدن وبلدات سورية موجة احتجاجات واسعة، تركزت على ما اعتبره المشاركون تهميشًا لمادة القرآن الكريم، ورافق ذلك تهديدات وصلت إلى شخص وزير التربية والتعليم محمد تركو، وسط حالة من الغضب والاستياء لدى المعلمين وأولياء الأمور والطلاب على حد سواء. وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي صور ومقاطع فيديو لتجمعات ووقفات احتجاجية في إدلب وحماة وأمام مبنى وزارة التربية بساحة الميسات في دمشق، على الرغم من محدودية أعداد المشاركين في بعض المناطق.
وكانت أبرز هذه الوقفات في مدينة حماة، حيث نظم عدد من المشايخ والمعلمين احتجاجًا أمام مبنى المحافظة في ساحة العاصي، اعتراضًا على قرار الوزارة بتقليص حصص التربية الإسلامية وإضافة مادة الموسيقى بدلًا عنها.
وفي تصريحات خاصة لـ "عربي بوست"، قالت رابطة المعلمين السوريين الأحرار إن القرارات المتعلقة بتعديل المناهج الدراسية تمثل "انحرافًا خطيرًا" عن الهوية التعليمية السورية، مشيرة إلى أن أبرز تلك التعديلات تمثلت في إلغاء أو تقليص حصص مادة القرآن الكريم، وإجراء تغييرات جذرية على منهاج دار الوحي الشريف، الذي يُعد من أبرز المناهج الشرعية في المنطقة.
وأضافت أن هذه الإجراءات جاءت تحت شعارات مثل "توحيد المناهج" و"تطويرها وفق المعايير الحديثة"، لكن النتيجة، بحسب الرابطة، كانت طمسًا متعمدًا لروح التعليم الإسلامي، وإبعادًا للطلاب عن مصادر قيمهم الأخلاقية والدينية.
تغييرات تمس البنية الدينية للمناهج
وسلطت الرابطة الضوء على مجموعة من الخطوات التي وصفتها بالخطيرة، من بينها دمج حصص القرآن الكريم ضمن مواد أخرى بشكل شكلي لا يحقق أي فائدة تربوية حقيقية، واستبدال المصطلحات الدينية الواضحة بمفردات حيادية تميل إلى الفكر العلماني، فضلًا عن تعديل منهاج دار الوحي الشريف الذي خرّج، وفق البيان، آلاف الحفاظ الذين حملوا رسالة القرآن علمًا وخلقًا.
كما أشارت الرابطة إلى ما اعتبرته تضييقًا ممنهجًا على المعلمين المتخصصين في العلوم الشرعية، ومنعهم من أداء دورهم التربوي في توجيه الأجيال الجديدة، معتبرة ذلك محاولة لإقصاء الكفاءات الدينية من الساحة التعليمية، ما يهدد بفراغ تربوي وأخلاقي في المدارس.
وأكدت الرابطة أن دار الوحي الشريف كانت على مدى السنوات الماضية رمزًا للتربية القرآنية الأصيلة، إذ ساهمت في تخريج جيل مؤمن معتدل يحمل القيم الإيمانية والإنسانية المتوازنة، ووصفت ما يجري اليوم بأنه تعدٍ خطير على هوية المجتمع وثقافته، في وقت يحتاج فيه السوريون، بعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام، إلى التمسك بثوابتهم الأخلاقية والدينية بوصفها عنصر وحدة واستقرار روحي.
تغييرات دون تنسيق مجتمعي
في المقابل، يقول مصدر داخل الحكومة السورية في حديث خاص لـ "عربي بوست" إن الحكومة متفقة جميعها من حيث المبدأ مع خطوة تغيير المناهج التعليمية ووضع مناهج جديدة، معتبرًا أن المناهج التي كانت معتمدة في عهد نظام الأسد سيئة ولا تصلح للظروف الحالية التي تمر بها البلاد.
وأوضح المصدر أن المناهج القديمة كانت جامدة ومحمّلة بالأيديولوجيا السياسية، ولا تواكب التطورات الفكرية والتقنية والاجتماعية التي شهدها المجتمع السوري خلال السنوات الأخيرة، وهو ما دفع الحكومة إلى السعي نحو صياغة مناهج جديدة أكثر انفتاحًا ومرونة وتعبيرًا عن الواقع الحالي.
لكن المصدر انتقد الطريقة التي جرى بها اعتماد التعديلات الجديدة، مشيرًا إلى أن الحكومة تسرعت في الإعلان عنها دون فتح باب النقاش المجتمعي، ودون إشراك الفاعلين في القطاع التعليمي والمجتمع المحلي في مناقشة فلسفة التغييرات وأهدافها.
وقال المصدر إن الحكومة كان ينبغي أن تجري حوارًا واسعًا مع المواطنين في سوريا ومع القطاعات المرتبطة بمسار التعليم، مثل روابط المعلمين والمشرفين على العملية التعليمية وأولياء الأمور، لشرح خلفيات التعديلات الجديدة وأسبابها، لأن غياب هذا الحوار جعل الحكومة تواجه انتقادات واسعة من أطراف كثيرة مرتبطة بالعملية التعليمية.
وأضاف أن الحكومة كان يمكن أن تتجنب الجدل الحالي لو أنها شكلت لجانًا في كل المحافظات السورية لجمع الملاحظات والمقترحات من المعلمين وأولياء الأمور والجهات المهتمة بالتعليم، ودراستها بشكل كافٍ قبل إقرار المناهج الجديدة، مؤكّدًا أن تطوير المناهج خطوة مهمة وضرورية لبناء جيل جديد، لكنها تحتاج إلى شراكة حقيقية مع المجتمع التعليمي والمواطنين، لأن التعليم لا يمكن أن يُدار بعقلية الأوامر الفوقية.