خارطة طريق جديدة في ليبيا: مبادرة الأمم المتحدة بين التفاؤل المحدود والتشكيك الداخلي، وهذا موقف الأطراف الفاعلة

عربي بوست
تم النشر: 2025/08/23 الساعة 17:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/08/23 الساعة 17:17 بتوقيت غرينتش
المبعوثة الأممية لليبيا والدبيبة وحفتر- عربي بوست

عبر ساسة وعسكريون ليبيون عن "تشكيكهم" في قدرة الفاعلين السياسيين الأساسيين في ليبيا على التفاعل بإيجابية مع خارطة الطريق التي طرحتها مبعوثة الأمم المتحدة الخاصة إلى ليبيا، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن لإنقاذ ليبيا من حالة الجمود السياسي التي تعيشها منذ سنوات طويلة.


وتنوعت ردود فعل هؤلاء الساسة والعسكريين الذين تحدثوا إلى "عربي بوست" بين الإشادة بالمبادرة الأممية وبين التشكيك في قدرة الأطراف الليبية المختلفة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من جديد لإيجاد أرضية مشتركة للعمل من خلالها للوصول إلى مسار ينهي وضع ليبيا الحالي.

خطة الأمم المتحدة


كانت المبعوثة الأممية الخاصة إلى ليبيا، هانا تيتيه، قد طرحت خارطة طريق جديدة تهدف إلى إنهاء الأزمة السياسية الممتدة منذ عام 2011 عبر تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال فترة لا تتجاوز 18 شهرًا.


وقدمت تيتيه هذه الخطة خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن الدولي، مؤكدة أن نجاحها يتطلب قبول القادة الليبيين والانخراط الجاد في تنفيذها، موضحة أن الخطة تستند إلى مراحل متدرجة تضمن الانتقال السلس نحو الاستقرار السياسي، مع إشراك مختلف القوى الوطنية في العملية، وتهيئة الظروف المناسبة لإنهاء حالة الانقسام التي عطلت مسار بناء الدولة.

تعتمد خارطة الطريق على ثلاث ركائز رئيسية تشكل الأساس لأي تسوية سياسية في ليبيا:


أولًا، وضع إطار انتخابي متكامل من الناحية الفنية والسياسية يسمح بإجراء انتخابات شفافة تعكس الإرادة الحقيقية للشعب الليبي.
ثانيًا، توحيد المؤسسات المتنازعة عبر تشكيل حكومة واحدة تفرض سلطتها على كامل الأراضي الليبية وتضع حدًا لازدواجية الإدارات.
ثالثًا، إطلاق حوار وطني شامل يجمع القوى السياسية والاجتماعية لمعالجة القضايا العالقة وبناء توافق وطني يساعد في تهيئة المناخ المناسب للانتخابات وصياغة رؤية مشتركة لمستقبل البلاد.

وفي إطار التحضير لهذه الخطة، أنهت اللجنة الاستشارية الليبية، المؤلفة من 20 خبيرًا، اجتماعات مكثفة استمرت ثلاثة أشهر، وخلصت في مايو/أيار 2025 إلى تقديم مجموعة من الخيارات المطروحة أمام الحوار الوطني.


وشملت هذه الخيارات إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، أو تنظيم انتخابات برلمانية أولًا ثم مراجعة الدستور قبل الانتخابات الرئاسية، أو البدء بإقرار دستور دائم كشرط لأي استحقاق انتخابي، أو تشكيل جمعية تأسيسية لمراجعة الدستور ومن ثم الذهاب إلى الانتخابات. وترى البعثة الأممية أن جميع هذه السيناريوهات قابلة للتطبيق وتشكل فرصًا عملية لتجاوز المأزق السياسي المزمن.

وخلال إحاطتها أمام مجلس الأمن، شددت تيتيه على أن الخطة ليست مجرد طرح نظري، بل عملية مدروسة بمراحل مترابطة، بحيث تمهد كل خطوة للخطوة التالية وصولًا إلى الانتخابات في إطار زمني يتراوح بين 12 و18 شهرًا.


وأكدت أن المشاورات التي أجرتها مع المجتمع المدني والأحزاب والمكونات الاجتماعية كشفت عن رغبة صادقة في إنهاء المراحل الانتقالية المتكررة، وبناء شرعية جديدة عبر صناديق الاقتراع.

كما أشارت إلى أن الدعم الدولي المرتقب للخطة يهدف إلى توفير ضمانات حقيقية لنجاحها، بما يعزز وحدة ليبيا ويحافظ على مؤسساتها ويضع حدًا لدوامة الانقسام السياسي.

خطة لا تحمل مقومات النجاح


قال المحلل السياسي الليبي فرج دردور إن خطة المبعوثة الأممية الجديدة إلى ليبيا لا تحمل مقومات النجاح، لأنها ربطت تطبيقها بوجود بيئة ملائمة في البلاد، بينما لم تطرح أي آليات واضحة لتحقيق هذه البيئة.


وأوضح أن الحديث عن "البيئة الملائمة" يعني الوضع الأمني والسياسي في الشرق والغرب، وهيمنة الميليشيات، والانقسام المؤسسي، وكلها عوامل لا يمكن تجاوزها بمجرد إعلان خطة دون أدوات تنفيذية.


وأضاف أن المبعوثة اكتفت بالحديث عن آليات لمعاقبة المعرقلين، ثم طالبت مجلس الأمن بدعمها في هذا المسار، إلا أن الواقع يؤكد أن مجلس الأمن منقسم في الملف الليبي، ولا يمكنه أن يدعم طرفًا على حساب طرف آخر حتى إذا كان أحد الأطراف يعرقل التنفيذ، وهو ما يجعل الحديث عن العقوبات غير ذي جدوى.

وأشار دردور إلى أن الإشكالية الكبرى تكمن في أن الأطراف الليبية جميعها تعلن الترحيب بالخطة الأممية، لكنها في الواقع لا تبدي أي نية لدعم نجاحها على الأرض. فالتجارب السابقة، منذ اتفاق الصخيرات عام 2015 مرورًا بمؤتمرات باريس وبرلين وجنيف، أثبتت أن هذه الأطراف تتعامل مع المبادرات الأممية بخطاب مزدوج؛ حيث تعلن الالتزام إعلاميًا، لكنها عمليًا تعمل على إجهاض أي خطوة يمكن أن تهدد مصالحها. وهذا ما يجعل الخطة الحالية معرضة لأن تلقى نفس مصير الخطط السابقة التي لم يُكتب لها النجاح.

ورغم انتقاده للخطة، أقر دردور بأنها، من حيث البنود والخطوات، تعد الأفضل مقارنة بالمبادرات السابقة، وأنها لو وجدت بيئة مناسبة يمكن أن تنهي حالة الانقسام وتفتح الطريق نحو استقرار دائم في ليبيا.

غير أنه عاد ليؤكد أن هذه البيئة ليست متاحة حاليًا، وأن العقبات الداخلية كبيرة، بدءًا من سطوة السلاح والميليشيات، وصولًا إلى غياب الإرادة السياسية الحقيقية لدى الفاعلين. واعتبر أن أي رهان على نجاح الخطة دون معالجة هذه العقبات سيكون وهمًا.

لكن الباحث الليبي موسى تيهوساي، المقرب من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، يختلف مع فرج دردور، ويقول إن الخطة الأممية الجديدة الخاصة بالملف الليبي تمثل "الخيار الأكثر واقعية" في المرحلة الراهنة، ويرى أنها السبيل الأفضل لكسر حالة الجمود السياسي التي تخنق البلاد منذ سنوات.


وأكد تيهوساي أن الخطة ليست مجرد مقترح نظري أو مبادرة عابرة مثل كثير من المبادرات السابقة، بل هي آلية سياسية مشتركة تحمل مقومات عملية يمكن أن تجمع الأطراف الليبية المختلفة على أرضية واحدة وتخلق مسارًا أكثر تماسكًا نحو التسوية.
وأوضح أن أحد أبرز عناصر قوة الخطة هو كونها لا تسعى إلى فرض حلول مفصلة على مقاس طرف معين أو إقصاء طرف آخر، بل تحاول أن تضع خيارات واقعية تعترف بالتوازنات الداخلية وتفتح الباب أمام مشاركة الجميع.

وفي هذا السياق قال: "إذا فكرت بعمق في المشهد الليبي ستجد أن هذه الخطة مقبولة بدرجة كبيرة، لكنها تحتاج إلى إرادة حقيقية وتخلي النخبة السياسية عن النرجسية والمغالبة". وأشار إلى أن النخب الحاكمة اعتادت أن تصوغ الحلول على مقاسها الضيق، محاولة تهميش بقية القوى، وهو ما اعتبره "مقاربة غير منطقية وغير قابلة للاستمرار".

الأزمة لدى حفتر


لفت دردور النظر إلى أن الوضع في الشرق الليبي يزيد من صعوبة تطبيق الخطة، قائلاً إن السلطات هناك منعت إجراء الانتخابات البلدية، وتعمل الآن على الإعداد لتنصيب حاكم للبلاد في سبتمبر المقبل، وهو ما قد ينتهي بتزكية المشير خليفة حفتر رئيسًا بدعم من برلمان طبرق وبعض القبائل التي وصفها بأنها مغلوبة على أمرها.


وأضاف أن حفتر سبق أن عيَّن أبناءه في مواقع عسكرية عليا داخل الجيش، كما يرفض التشاور مع الساسة في الغرب حول مستقبل ليبيا، وهو ما يعني عمليًا أن الشرق يسير في اتجاه تكريس الانقسام لا تجاوزه.


وانتقد دردور موقف الأمم المتحدة، معتبراً أنها لم تتخذ أي إجراءات حقيقية ضد تحركات حفتر، وقال: "لا نجد أي تنديد جاد بما يقوم به حفتر ولا أي موقف حازم من البعثة الأممية، وهذا الصمت يشجع على مزيد من الانقسام".


ويرى أن هذا الموقف الدولي المتراخي يعكس حسابات القوى الكبرى التي لا تريد الدخول في مواجهة مع حفتر، خاصة في ظل دعمه من أطراف إقليمية وازنة مثل مصر والإمارات، ومن قوى دولية مثل فرنسا وروسيا، التي ما زالت ترى فيه ورقة يمكن استثمارها في إعادة رسم المشهد الليبي.


وأوضح أن العقبة الحقيقية أمام أي خطة ليست في الغرب حيث يقف عبد الحميد الدبيبة، فالأخير يمكن إقناعه أو حتى إجباره على التنحي، لكن المشكلة تكمن في الشرق حيث يسيطر حفتر على الأرض.

وأكد أن أي حكومة مستقبلية ستجد نفسها مضطرة للعمل تحت سلطة حفتر أو بموالاته، وإلا فلن يُسمح لها بالوجود في الشرق، الأمر الذي يجعل الحديث عن أن حفتر سيسمح بإجراء انتخابات حرة أمرًا غير منطقي.

في الوقت نفسه، وردًا على ما قيل حول أن الأزمة تكمن في الشرق الليبي، قال النائب سالم القنيدي، عضو لجنة الدفاع في مجلس النواب الليبي ببرلمان طبرق، إن خطة المبعوثة الأممية الجديدة لم تصل بعد إلى البرلمان، مؤكداً أن المؤسسة التشريعية في الشرق ستنظر في تفاصيلها بمجرد وصولها، وستخصص لها جلسة منفصلة لمناقشتها بشكل معمق.


وأوضح أن البرلمان في طبرق يتعامل مع أي مبادرة أو مقترح من منطلق الشرعية القانونية والدستورية، وأنه لا يمكن أن يُبنى حل حقيقي للأزمة الليبية من خارج المؤسسات الرسمية المنتخبة والمعترف بها داخليًا وخارجيًا.


وأضاف القنيدي أن الشرق الليبي لا ينظر بعين القبول الكاملة إلى الحلول التي تقدمها الأمم المتحدة، لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن أي مسار أممي يجب أن يكون مرجعه الأساس مجلس النواب في طبرق، باعتباره الجهة التشريعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي.


وشدد على أن هذه المؤسسة سبق أن أبدت استعدادها الواضح للذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية شاملة، ولتشكيل حكومة جديدة تمثل كل الليبيين وتعمل على إنهاء حالة الانقسام. غير أن الغرب الليبي – بحسب قوله – هو من عرقل هذا التوجه ورفض المضي قدمًا في هذه الخطوات.


وأشار عضو لجنة الدفاع في البرلمان إلى أن الكرة الآن في ملعب الغرب الليبي، وليس الشرق. فالبرلمان في طبرق – كما يقول – أبدى مرونة واستعدادًا للتجاوب مع أي حلول سياسية واقعية، في حين أن القوى السياسية والعسكرية في الغرب لم تُظهر الجدية الكافية للتوصل إلى تسوية. وأوضح أن المطلوب الآن من الغرب الليبي أن يقدم للرأي العام ما يثبت أنه حريص على حل الأزمة.
وذكر القنيدي أن البرلمان في طبرق ظل خلال السنوات الماضية متمسكًا بخيار الانتخابات كطريق أساسي لإنهاء المراحل الانتقالية المتكررة. وأكد أن النواب طالبوا مرارًا بتحديد قاعدة دستورية واضحة، وتجاوز الخلافات القانونية والفنية التي عطلت إجراء الانتخابات في السابق.


كما شدد على أن البرلمان كان ولا يزال على استعداد لتقديم تنازلات معقولة من أجل الدفع بالعملية السياسية إلى الأمام، غير أن ما يصفه بمواقف التعنت من بعض القوى في الغرب حالت دون ذلك.


وبحسب القنيدي، فإن جوهر الأزمة في ليبيا يتمثل في غياب إرادة سياسية جامعة، واستمرار محاولات بعض الأطراف استثمار الوضع لصالحها، دون النظر إلى المصلحة الوطنية العليا. وأوضح أن البرلمان في طبرق يعتبر أن الشرعية لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس الانتخابات، وأن أي حكومة لا تنبثق عن عملية انتخابية حقيقية ستظل موضع شك في شرعيتها.

موقف الغرب الليبي


أما بخصوص الموقف في غرب ليبيا من مبادرة الأمم المتحدة، فقد قال الأكاديمي الليبي فرج دردور إن العقبة الحقيقية أمام أي خطة ليست في الغرب حيث يقف عبد الحميد الدبيبة، فالأخير يمكن إقناعه أو حتى إجباره على التنحي، لكن المشكلة تكمن في الشرق حيث يسيطر حفتر على الأرض.


وأكد أن أي حكومة مستقبلية ستجد نفسها مضطرة للعمل تحت سلطة حفتر أو بموالاته، وإلا فلن يُسمح لها بالوجود في الشرق، الأمر الذي يجعل الحديث عن أن حفتر سيسمح بإجراء انتخابات حرة أمرًا غير منطقي.


وتابع فرج دردور حديثه قائلاً إن ليبيا تعاني منذ سنوات من ازدواجية الشرعية بين مؤسسات الشرق والغرب، وكل المحاولات الأممية لإيجاد أرضية مشتركة باءت بالفشل. واعتبر أن الخطة الحالية، رغم طموحها، لن تنجح ما لم يتم فرض واقع جديد على الأرض يحد من نفوذ الأطراف المسلحة ويفرض شروطًا واضحة على القوى السياسية.

وأضاف: "المناخ الحالي غير ملائم، وكل ما نسمعه من تصريحات ترحيب بالخطة ما هو إلا محاولة لكسب الوقت، بينما على الأرض لا توجد خطوات عملية."


في المقابل، ألمح عادل عبدالكافي، المستشار العسكري الليبي، إلى احتمال أن تقوم بعض الدول الإقليمية المتحكمة في الملف الليبي بفرض حكومة جديدة بديلة لحكومة الدبيبة، لأن ذلك قد يخدم مصالحها السياسية في ليبيا.

وأوضح أن هذه الفرضية ليست بعيدة، بل قد تكون مطروحة فعلاً في الكواليس، خاصة مع تزايد الحديث عن تراجع شعبية حكومة الوحدة الوطنية وفشلها في تقديم حلول ملموسة للمشاكل الاقتصادية والأمنية، إلى جانب استمرار الانقسام بين الشرق والغرب.

لكن في الوقت نفسه يرفض سالم القنيدي، عضو برلمان طبرق، هذه الفرضية، معتبرًا أن الغرب ربما يرحب بالمبادرة ويسعى إلى تحقيق نتائجها.

وقال إن البرلمان لا يرفض أي جهد دولي من حيث المبدأ، لكنه يرفض أن يتم فرض حلول تتجاوز المؤسسات الوطنية. وأكد أن البرلمان سيناقش الخطة بعناية، لكنه سيضع في اعتباره التجارب السابقة التي أثبتت أن كثيرًا من المبادرات الأممية لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة على الأرض، لأنها لم تأخذ في الحسبان التوازنات الداخلية، أو لأنها كانت منحازة إلى طرف على حساب آخر.


وأشار أيضًا إلى أن الشرعية التي يتمسك بها البرلمان مستمدة من الاتفاقات السابقة، وعلى رأسها اتفاق الصخيرات، باعتباره المرجعية الأساسية التي تمخضت عنها المؤسسات القائمة. وأكد أن أي تغيير في هذا المسار يجب أن يمر عبر البرلمان، وأن أي محاولة للقفز عليه لن تكون مقبولة لدى الشرق الليبي مهما حاول الغرب الليبي أن يسوّق لذلك.

المعادلة الصفرية والموقف الخارجي


يشير تيهوساي، الباحث الليبي المقرب من حكومة الدبيبة، إلى ملمح آخر في الأزمة، وهو أن الأزمة الليبية تكشف عن معادلة سياسية مأزومة قائمة في جوهرها على ما أسماه "المعادلة الصفرية"، أي منطق "إما أنا أو الفوضى".


ويرى أن هذه الذهنية هي التي تدفع الأطراف المتصارعة للتمسك بمقاعد السلطة ورفض تقديم تنازلات جدية. "كل طرف يظهر وكأنه يريد التغيير، لكنه في الحقيقة لا يريد أن يذهب إلى التغيير"، على حد وصفه.


وأكد أن هذا السلوك جعل البلاد تدور في حلقة مفرغة من الانسداد السياسي، حيث تبقى كل المبادرات رهينة لعبة الكراسي والصراع على النفوذ، بينما تبتعد أكثر فأكثر عن جوهر الحل المطلوب.


ويرى تيهوساي أن ما تحتاجه ليبيا اليوم ليس مجرد شعارات عن الديمقراطية أو تداول السلطة، بل "واقعية سياسية" تعترف بالحقائق الميدانية والاجتماعية والسياسية وتبني عليها، بما يؤدي إلى إنتاج حلول منطقية وعملية.

وقال إن أي مسار قابل للحياة يجب أن يحقق نوعًا من التسوية التي تضمن مصالح مختلف القوى، لأن الإقصاء والتهميش لن يؤديا إلا إلى تفجير صراعات جديدة. "الحل العاجل لم يعد ترفًا، بل ضرورة قصوى لتفكيك حالة الجمود التي تجر البلاد إلى مزيد من الانقسام والتدهور"، بحسب تعبيره.

يتوافق مع ذلك ما طرحه فرج دردور، بالقول: "ماذا لو نفذت البعثة الأممية خطتها وشكلت حكومة جديدة، ثم رفض حفتر التعامل معها أو منع دخولها إلى الشرق؟"


وأضاف أن هذا السيناريو وارد جدًا، وفي حال حدوثه فلن تملك الأمم المتحدة أي أدوات فعلية لإجبار حفتر على القبول، وبالتالي سيبقى الانقسام قائمًا كما هو. وهذا يعيد إلى الأذهان ما حدث سابقًا مع حكومة الوفاق الوطني التي لم تتمكن من دخول بنغازي أو بسط نفوذها على برقة، وبقيت حكومة منقوصة السيادة.


وشدد دردور على أن العقبة في الشرق لا تقتصر على شخصية حفتر فحسب، بل تتعلق أيضًا بالدعم الخارجي الذي يتلقاه. وأوضح أن "هناك تحضيرات لتصعيد كبير قد ينتهي بتنصيب حفتر رئيسًا لليبيا من الشرق، دون أي رفض دولي جاد"، وهو ما يعني أن البلاد قد تدخل مرحلة جديدة من الانقسام وربما الصراع المفتوح.

وأكد أن غياب موقف حازم من الأمم المتحدة والدول الكبرى تجاه هذه التحركات يترك الباب مفتوحًا أمام انهيار أي مسار سياسي جديد.

في هذه النقطة أشار موسى تيهوساي إلى أن الخطة الأممية الأخيرة تحظى بدعم دولي واسع النطاق، إذ تبنتها قوى مؤثرة تسعى لتثبيت الاستقرار في ليبيا، وهو ما يمنحها وزنًا إضافيًا لا يمكن تجاهله. لكنه حذر في الوقت ذاته من أن التحدي الأكبر يتمثل في الأطراف الليبية التي ما زالت ترهن نفسها بولاءات خارجية.


وقال: "المشكلة ليست فقط في الداخل، بل في ارتباط بعض القوى الليبية بمشاريع إقليمية ودولية متعارضة، وهو ما يجعل الوصول إلى توافق داخلي رهينًا بموافقة إقليمية أولًا". وأوضح أن هذا التشابك بين الداخلي والخارجي هو ما يعقّد المشهد الليبي ويجعله عالقًا بين حسابات القوى الكبرى وطموحات الأطراف المحلية.


ولفت تيهوساي إلى أن الاستمرار في الرهان على دعم الخارج دون بناء توافق داخلي صلب لن يؤدي إلى أي استقرار دائم، بل سيبقى مجرد تسكين مؤقت سرعان ما ينهار مع أي تحوّل في مواقف القوى الإقليمية. "لا يمكن لأي حل أن يُفرض من الخارج إذا لم يجد قاعدة قبول واسعة في الداخل الليبي"، مؤكدًا أن الليبيين هم من يجب أن يتحملوا المسؤولية الكبرى عن مصير بلدهم.

أما المستشار العسكري الليبي عادل عبدالكافي، العميد السابق في الجيش الليبي، فقد قال إن كل الإحاطات السابقة للأمم المتحدة حول ليبيا كانت تتحدث عن عوامل كثيرة تخص الوضع السياسي والأمني، لكن الحقيقة التي يراها بوضوح أن العامل الأقوى الذي يتحكم في استقرار ليبيا هو الأطراف الدولية، وليس الأطراف المحلية كما يُصوَّر في البيانات الرسمية.


وأوضح أن التجربة الليبية على مدار السنوات الماضية أثبتت أن القوى المحلية، سواء في الشرق أو الغرب أو الجنوب، لم تعد تتحرك بشكل مستقل، وإنما أصبحت تستقوي بالخارج. فهي تحصل على السلاح من الخارج، وتجلب المرتزقة بدعم من الخارج، وتبني تحالفاتها على أساس ارتباطها بدول إقليمية أو قوى دولية. ولذلك فإن استقرار ليبيا الحقيقي لن يتحقق إلا إذا وصلت هذه القوى الدولية نفسها إلى تفاهم أو توافق حول مستقبل ليبيا، وهذا لم يحدث حتى الآن.


وأضاف عبدالكافي أن البعثة الأممية لم تأتِ بجديد في خطتها الأخيرة، وأنها عمليًا لا تختلف عن سابقاتها. وبالتالي من غير المتوقع أن تحقق نجاحًا ملموسًا، لأن الخطة تفتقد إلى القدرة التنفيذية وإلى أدوات الضغط التي تجبر كل الأطراف على الالتزام بها.
فالأمم المتحدة – بحسب قوله – تتعامل مع الأزمة الليبية وكأنها أزمة شكلية يمكن حلها بمجرد إعلان تشكيل حكومة جديدة أو تحديد موعد للانتخابات، بينما الحقيقة أن الأزمة أعمق بكثير، لأنها أزمة إرادة سياسية داخلية، وأزمة ارتباطات خارجية متشابكة.

وأوضح أن اختزال المشهد الليبي في فكرة تشكيل حكومة جديدة أو الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة ليس مجدياً على الإطلاق. فهذه الوصفات البسيطة قد تبدو جذابة من الناحية النظرية، لكنها على أرض الواقع لن تُخرج ليبيا من حالة الانقسام، لأن من يملك قرار الاستقرار ليس الليبيون وحدهم، بل الأطراف الدولية التي تتحكم في السلاح والمال والدعم السياسي.
ولهذا فإن السلاح هو الذي يتكلم اليوم في المشهد السياسي الليبي. وفي الغرب كما في الشرق، يتمترس الجميع خلف قواتهم وميليشياتهم، ويستعدون دائماً لفرض رؤيتهم بالقوة، لا عبر الحوار أو التفاهم السياسي.

وأشار عبدالكافي إلى أن هذا الواقع يجعل التعويل على مسار الأمم المتحدة حالياً بلا جدوى. فالأمم المتحدة لا تملك القدرة على فرض مسار حقيقي، ولا تملك الآليات التي يمكن أن تُحدث فرقاً على الأرض. وحتى إذا تم التوصل إلى اتفاقات شكلية، فإنها تنهار بسرعة عند أول اختبار ميداني، لأن ميزان القوى الحقيقي تحكمه فوهات البنادق ومخازن السلاح، لا الاتفاقات الورقية.

ويرى عبدالكافي أن الأمم المتحدة، في ضوء هذا الواقع، لن تكون قادرة على لعب دور فاعل، فهي تفتقر إلى الإرادة السياسية لمواجهة الأطراف التي تعرقل الحل، وتخشى من الاصطدام مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة. ولهذا فإن خططها تبقى حبيسة الورق، بينما الواقع على الأرض تحكمه الحسابات العسكرية والأمنية، لا المبادرات الدبلوماسية.

وأكد أن استمرار تدفق السلاح والمرتزقة إلى ليبيا يُعد العامل الأهم في إطالة أمد الأزمة. فالمجتمع الدولي لم يتخذ خطوات جدية لوقف هذا النزيف، بل إن بعض القوى الإقليمية والدولية تسمح به عن قصد، لأنها تستثمر في حالة الفوضى وتستخدمها كورقة نفوذ في التوازنات الإقليمية. ولذلك فإن ليبيا لم تصل بعد إلى أي صيغة مستقرة، ولن تصل إلا إذا تغيّر موقف هذه القوى.

مستقبل المبادرة

قال فرج دردور إن الخطة الأممية قد تبدو على الورق مثالية لإنهاء الانقسام الليبي والدخول في مرحلة استقرار، لكنها في الواقع تفتقر إلى الضمانات والآليات التي تجعلها قابلة للتنفيذ.
وأوضح أن "الأطراف الدولية نفسها منقسمة، والبعثة الأممية لا تملك وسائل ضغط فعّالة، والأطراف المحلية لا تملك إرادة حقيقية لإنجاح الخطة، وبالتالي فمصيرها لن يختلف كثيراً عن مصير المبادرات السابقة." وأضاف أن أي محاولة لتجاوز هذه العقبات دون معالجة جذورها ستؤدي إلى إنتاج نفس الأزمة بشكل متكرر.

وقال دردور إن خطورة الموقف تكمن في أن جميع الأطراف تتحدث عن الحلول، لكنها في الواقع تُهيئ لانقسام جديد، وأن الخطة الأممية، مهما بدت واعدة، لن تستطيع الصمود أمام واقع معقد تحكمه الحسابات المسلحة والمصالح الخارجية، وهو ما ينذر باستمرار الأزمة الليبية في دوامة لا نهاية لها، ما لم يحدث تغيير جذري في موازين القوى أو إرادة دولية أكثر حزماً ووضوحاً.

أما موسى تيهوساي، فقال إن النخب السياسية الليبية مطالبة اليوم بالتخلي عن عقلية "الغالب والمغلوب"، واعتماد مقاربة تشاركية تعترف بأن الأزمة طالت أكثر من عقد كامل، وأدت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وخلق حالة من الاستقطاب الحاد. وأكد أن الرهان على الاستمرار في لعبة المناورات السياسية والمكاسب الفئوية لم يعد ممكناً، لأن ليبيا دخلت مرحلة حرجة باتت تهدد كيان الدولة ووحدتها الترابية.

وشدد تيهوساي على أن الخطة الأممية لن تنجح إلا إذا تبنتها القوى الليبية بصدق، وانخرطت فيها بروح مسؤولة، بعيداً عن الحسابات الضيقة. وأضاف: "يجب أن نكفّ عن النظر إلى التسوية باعتبارها معركة لاقتسام الغنائم، ونفكر فيها كفرصة لإنقاذ البلاد من الانهيار الكامل".

وبيّن أن الواقع يفرض التوصل إلى حلول عاجلة تضمن توحيد المؤسسات، وتهيئة الأرضية لانتخابات شفافة، وإنهاء حالة الازدواجية التي تعمّقت خلال السنوات الأخيرة. كما اعتبر أن هذه اللحظة قد تكون الأخيرة لإنقاذ المسار السياسي، لأن استمرار الانقسام سيقود إلى مزيد من التدخلات الخارجية وربما إلى إعادة إنتاج العنف المسلح على نطاق أوسع.

ودعا جميع الأطراف إلى إدراك أن "الوقت لم يعد في صالح أحد"، وأن أي تأخير إضافي في التوصل إلى حل سياسي سيوسّع دائرة الأزمات الاقتصادية والأمنية ويزيد معاناة الشعب الليبي.

وقال موسى تيهوساي إن الأزمة الليبية لم تعد تحتمل المزيد من التردد أو المماطلة، واعتبر أن الكرة الآن في ملعب النخب السياسية والفاعلين المحليين، فإما أن يتجاوبوا مع الخطة الأممية ويستثمروا الدعم الدولي لتحقيق تسوية وطنية شاملة، وإما أن يظلوا أسرى "المعادلة الصفرية" التي ستقود حتماً إلى الفوضى والانهيار. وأضاف: "التاريخ لن يرحم من يضيّع هذه الفرصة، والليبيون يستحقون مستقبلاً أفضل من لعبة الكراسي التي تحكمت في مصيرهم لسنوات طويلة".

تحميل المزيد