تحوّل مشروع الإسكان الاجتماعي في مصر، الذي أُطلق لتوفير سكن للفقراء وذوي الدخل المحدود، إلى أكبر بوابة للسمسرة والفساد المنظم.
ففي الوقت الذي ينتظر فيه ملايين المصريين فرصة الحصول على وحدة سكنية بأسعار ميسرة، يستحوذ سماسرة مدعومون بشبكات من موظفين ومسؤولين محليين على الطروحات الحكومية، ليحوّلوها إلى صفقات مشبوهة تُباع فيها الوحدات والأراضي بمضاعفات أسعارها الرسمية.
وارتفعت مقدمات الحجز من 20 ألفًا إلى 50 ألف جنيه، وقفزت أسعار الوحدات من مائة ألف إلى مليون جنيه خلال سنوات قليلة، لتغدو "شقق الفقراء" سلعة في سوق سوداء يتحكم فيها السماسرة أكثر مما تتحكم فيها الدولة.
خطط للسيطرة على الطروحات الحكومية
في أطراف مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة، وتحديدًا في منطقة حدائق أكتوبر التي ما تزال قيد الإنشاء، يجتمع العشرات من سماسرة العقارات لرسم خططهم للاستحواذ على الطروحات الحكومية التي تُعلن من حين لآخر.
وخلال تواصلنا مع أحدهم، ويدعى محمود سيد، تكشّف لنا جانب مما يجري على أرض الواقع، إذ قدم نفسه كوسيط قادر على ضمان الفوز بأراضٍ سكنية تستعد وزارة الإسكان لطرحها قريبًا في 20 محافظة، وفق نظام "أسبقية الحجز".
منذ اللحظة الأولى، عرض محمود سيد حزمة من الضمانات مقابل دفع 200 ألف جنيه لتأمين ترسية قطعة أرض في مدينة بدر بشرق القاهرة. وأوضح أن مجموعة من الأشخاص يعملون معه بأسلوب أقرب إلى "الاختراق الإلكتروني" لموقع الحجز، من خلال التحكم في "IP" الخاص بالقطع المطروحة وتكثيف المحاولات في وقت واحد لضمان الفوز، وهو الأسلوب ذاته الذي يُستخدم في باقي المدن.
أما عن طريقة الدفع، فقد أكد السمسار أنه يتقاضى 200 ألف جنيه قبل فتح باب الحجز، على أن يُعاد المبلغ في حال الفشل بخصم 20 ألف جنيه تعتبر "تكاليف التقديم". وزاد من ثقته حين طلب منا التواصل مع أشخاص حصلوا بالفعل على وحدات ضمن مشروع "سكن مصر" في القاهرة والجيزة، ليطمئنّا إلى مصداقية ما يقوله.
ولم يقتصر عرضه عند هذه المرحلة، بل مضى ليؤكد أن الأرض يمكن إعادة بيعها في اليوم التالي للتخصيص بأكثر من 800 ألف جنيه فوق السعر الذي تحدده وزارة الإسكان، مشيرًا إلى أن هناك شبكة من السماسرة في مختلف المحافظات تتفق فيما بينها لتجنب التنافس على نفس الأراضي.
وعندما أبدينا شكوكنا في قدرته على ضمان الحجز، شرح أن وراء العملية فريقًا كاملًا من المحترفين يستخدمون أكواد بديلة ويستعينون بالذكاء الاصطناعي للانتقال بسرعة من قطعة إلى أخرى في حال تعذر الفوز بقطعة بعينها.
كما كشف عن خطة عمل متكاملة تبدأ قبل ليلة الحجز، حيث يبقى الفريق مستعدًا للدخول فور فتح النظام في الدقيقة الأولى، للتغلب على أي منافسين غير منسقين أو أفراد عاديين قد يسعفهم الحظ.
وتتعدد الأساليب التي تُستغل في السيطرة على الوحدات المطروحة من وزارة الإسكان المصرية؛ فإلى جانب نظام القرعة العلنية، هناك آليات تسجيل إلكتروني بنظام "أسبقية الحجز" للأراضي والوحدات غير المدعمة، وهي ثغرة مثالية للفساد والتلاعب.
هذا الوضع دفع الوزارة إلى العودة مجددًا إلى القرعة الورقية التقليدية التي تُجرى في استاد المقاولون العرب، بعدما أثبتت القرعة الإلكترونية أيضًا أنها عرضة للاختراق وتلاعبت نتائجها لصالح أسماء بعينها.
تلاعب السماسرة
يكشف مصدر مطلع في قطاع الإسكان – طلب عدم ذكر اسمه – أن بؤرة الفساد الكبرى تكمن في الطروحات التي تعتمد على نظام "أسبقية الحجز" الإلكتروني، حيث تُحجز آلاف الوحدات خلال دقائق معدودة.
ويشرح أن بعض الأشخاص يمتلكون أجهزة لابتوب عالية الكفاءة، ويتواجدون في مناطق بخدمة إنترنت قوية، ويستعينون بمهندسين قادرين على توجيه عمليات الحجز نحو الأكواد الخاصة بكل قطعة أرض.
بينما في المقابل، يجد المواطنون العاديون أنفسهم عاجزين أمام موقع ينهار باستمرار أو يظل في حالة تحميل طويلة، لتكون النتيجة أن الوحدات تُباع بالكامل قبل أن يتمكنوا حتى من الدخول.
ويضيف المصدر أن المشهد تطور بشكل لافت، إذ لم يعد السماسرة يكتفون بالعمل في الخفاء داخل مجموعات مغلقة على مواقع التواصل، بل باتوا يعلنون عن أنفسهم علنًا. بل وصل الأمر إلى حد نشر أماكن تجمعاتهم لحجز الأراضي والوحدات، وإرفاقها بأرقام هواتفهم الخاصة لجذب الزبائن مباشرة، وهو ما يشير – برأيه – إلى أنهم إما يحظون بحماية جهات متنفذة، أو أنهم لم يعودوا يخشون شيئًا في ظل تفشي الفساد في آليات التقديم.
كما يوضح أن السماسرة يفرضون رسومًا تتراوح بين 25 و50 ألف جنيه مقابل حجز الوحدة السكنية، بينما تصل هذه المبالغ في حالة الأراضي إلى 200 ألف جنيه أو أكثر بحسب قيمتها.
وفي حال فشل الترسية، يحتفظون بنسبة من الأموال تصل إلى 10 – 25% باعتبارها "تكاليف إجرائية". ويلفت المصدر إلى مسؤولية مشتركة تقع على وزارتي الإسكان والاتصالات؛ فالأولى معنية بطرح الوحدات، بينما الثانية تملك القدرة التقنية على رصد الدخول المتكرر من أجهزة لابتوب متطابقة المصدر، وهو ما يمكن منعه بسهولة عبر إجراءات مشابهة لما يجري في البورصة المصرية لحظر التلاعب في أسعار الأسهم.
أما على صعيد الوحدات المخصصة للفقراء ضمن برنامج الإسكان الاجتماعي، فإن الشروط التي تضعها الوزارة نفسها تفتح الباب أمام التلاعب. فالأولوية في القرعة العلنية تُمنح للأكبر سنًا والأقل دخلًا، وهو ما أوجد ثغرة جديدة يستغلها السماسرة عبر تزوير مفردات الرواتب وتولي عملية التقديم بدلًا عن المواطنين المستحقين، ليصبح التدخل في مسار القرعة جزءًا من تجارتهم المنظمة.
صفقات مشبوهة
من جهته حذّر النائب فايز بركات، عضو لجنة التعليم بمجلس النواب ونائب دائرة أشمون، من أن سيطرة مجموعات من السماسرة على شقق الإسكان الاجتماعي تحرم المستحقين الحقيقيين من الدعم الحكومي.
وأوضح أن هذه السيطرة تُترجم في شكل عمليات بيع مشبوهة تُدار بالتحايل على القانون، يشارك فيها سماسرة وموظفون في البنوك والشهر العقاري، لتؤول الوحدات المدعومة في النهاية إلى غير مستحقيها.
ووصل الأمر – بحسبه – إلى بيع صور البطاقات الشخصية لاستخدامها في التقديم على وحدات أو قطع أراضٍ مدعومة، ثم التنازل عنها لاحقًا مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 10 و30 ألف جنيه.
وكشف النائب أن سماسرة الإسكان الاجتماعي يعمدون إلى إرسال مندوبين يقفون أمام البنوك في أوقات السداد، ليعرضوا على الحاجزين بيع وحداتهم بإغراءات مالية كبيرة، تاركين أرقام هواتفهم للتواصل لاحقًا. وأبدى استغرابه من امتلاك هؤلاء السماسرة قاعدة بيانات بأسماء الحاجزين في مشروعات الإسكان، متسائلًا عن الجهة التي تتولى تسريب تلك البيانات.
ولم يعد نشاط السماسرة محصورًا في الشارع، إذ باتوا يروّجون لعملهم عبر صفحات وجروبات سرية على "فيسبوك"، حيث تُنشر إعلانات دورية عن شقق معروضة للبيع، وأخرى للباحثين عن شراء وحدات، فضلًا عن سماسرة يعلنون امتلاكهم لعروض جاهزة، ويغلفون هذه العمليات بادعاءات كاذبة حول قانونيتها.
وبحسب أحد السماسرة المعروفين في منطقة عابدين بوسط القاهرة – تحدّث إلينا شرط عدم ذكر اسمه – فإن الشروط التي تضعها وزارة الإسكان بخصوص الحد الأدنى للراتب لا تناسب شريحة واسعة من المواطنين المحتاجين فعلًا إلى هذه الوحدات، وهو ما أوجد سوقًا موازية لإصدار مفردات مرتبات بمبالغ محددة. وأكد أن هذه المستندات تُستخرج مقابل ألف جنيه، رافضًا الاعتراف بأنها مزورة، ومبررًا الأمر بحاجة المواطنين.
وأشار السمسار ذاته إلى أن مشاهد الزحام أمام مكاتب البريد للحصول على استمارات الحجز خلقت بدورها سوقًا أخرى، حيث تُباع الاستمارات بضعف قيمتها الرسمية بسبب امتداد الطوابير لمسافات طويلة. وقال إن فريقه يوفر خدمة "تجهيز الأوراق" بشكل كامل مقابل 2000 جنيه، إضافة إلى 600 جنيه ثمن استمارة التقديم.
أما فيما يخص اشتراط وزارة الإسكان تقديم ما يثبت إقامة المتقدم في مسكن بالإيجار، فقد فتح ذلك بدوره بابًا للتحايل عبر تحرير عقود إيجار وهمية مدعومة بإيصالات كهرباء أو غاز، لتمرير الطلبات.
وأوضح السمسار أنه يقدّم أيضًا "استشارات" للراغبين في التقديم، لمساعدتهم على الإجابة عن أي استفسارات قد تطرحها أجهزة المدن التابعة للوحدات المطروحة، بما يضمن تمرير أوراقهم دون مشاكل.
أسعار لا تتماشى مع قدرات الفقراء
يؤكد المصدر الذي تحدثنا معه أن جوهر الأزمة يكمن في السياسات الحكومية ذاتها، حيث تستمر مؤسسات الدولة في طرح وحدات الإسكان الاجتماعي الموجهة للفقراء ولكن بأعداد محدودة وعلى فترات متباعدة، وهو ما لا يغطي حجم الطلب الهائل.
ويضيف أن ملايين المواطنين تقدموا للحصول على هذه الوحدات دون أن يحالفهم الحظ، مما جعل البحث عن وسطاء يسهّلون إجراءات الحجز أمرًا شائعًا للتخفيف من أعباء المحاولات المتكررة. وتضاعفت المشكلة مع القفزات السريعة في أسعار العقارات؛ فبينما كان مقدم الحجز قبل عامين يبلغ 20 ألف جنيه، أصبح الآن 50 ألفًا، كما ارتفع سعر الوحدة من أقل من 100 ألف جنيه قبل ست سنوات إلى نحو مليون جنيه حاليًا، وهو ما يتجاوز قدرات الأسر الفقيرة كليًا.
في عام 2011 أعلنت الحكومة المصرية خطتها لبناء مليون وحدة سكنية ضمن برنامج الإسكان الاجتماعي، في محاولة لسد عجز قُدّر آنذاك بنحو 3.5 مليون وحدة. وحتى السنة المالية 2022-2023 تم تنفيذ 594,571 وحدة ضمن برنامجي "الإسكان الاجتماعي" و"سكن لكل مصري"، أي ما يعادل 60% من الهدف الأصلي، وهو إنجاز مهم لكنه غير كافٍ لتحقيق الغاية المعلنة. ويبرز حجم الفجوة من خلال الأرقام؛ ففي طرح عام 2014 (63 ألف وحدة) تقدّم 144 ألف مواطن، جرى استبعاد نحو 60% منهم لأسباب تتعلق بالأوراق والشروط، ليبقى 57.6 ألف فقط مؤهلين للتخصيص.
وفي 2016 وصل الطلب إلى ذروته حين سجّل أحد الإعلانات أكثر من 500 ألف متقدم. وبحسب بيانات وزارة الإسكان، فقد تقدم حتى نهاية 2020 أكثر من 1.5 مليون مواطن محدودي الدخل لحجز وحدات عبر 14 إعلانًا منذ 2014، تم تخصيص 380 ألف وحدة منها (بما يعادل نحو 380 ألف أسرة أو 1.9 مليون نسمة).
ويرى مصدر حكومي أن أخطر ما يواجه هذه المشروعات هو انتشار السماسرة، سواء عند الإعلان عن طرح جديد أو بعد التخصيص، وهو ما لم تُوجد له حلول فعالة تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه.
وأوضح أن اعتماد نظام الحجز الإلكتروني لم يحقق النتائج المرجوة بسبب "الأمية الرقمية" لدى الفئات المستهدفة، مما فتح الباب أمام سوق سوداء أوسع داخل مراكز الإنترنت التي تولت عمليات الحجز بالنيابة عن المواطنين.
ويضيف المصدر أن صندوق الإسكان الاجتماعي أصبح أكثر تشددًا في التحقق من صحة البيانات، لكنه يعترف بوجود تزوير في بعض المستندات التي حصلت بموجبها أسر على شقق خلال السنوات الماضية.
ويربط هذه الثغرات بضعف الرقابة في الأجهزة المحلية وانتشار الفساد الذي يسمح بتمرير الأوراق المزورة. كما أشار إلى أن بعض موظفي وزارة الإسكان يسربون أسماء الفائزين وقاعدة البيانات الخاصة بهم، ما يمكّن السماسرة من مطاردة المستفيدين لإغرائهم ببيع وحداتهم مقابل ما يُعرف بـ"الأوفر"، والذي قد يتراوح بين 200 ألف جنيه ويصل إلى مليون جنيه في حالة الأراضي.