"رفض أي مشاريع تقسيم، وتأكيد خصوصية السويداء، والانتقال إلى ترتيبات ميدانية وإنسانية ملموسة تخفّف الاحتقان"، كانت هذه ثلاثة اشتراطات رئيسية وضعها وزير الخارجية السوري والوفد المرافق له خلال الاجتماع الذي جمعهم في باريس مع وزير الخارجية الإسرائيلي، برعاية أمريكية، وفق ما كشفته مصادر مطلعة لـ"عربي بوست".
تحوّلت باريس إلى ساحة رئيسية لمسار دبلوماسي أمني غير معلن بين دمشق وتل أبيب. وبعد سلسلة لقاءات جرت بعيداً عن الأضواء، انعقد يوم الثلاثاء 19 أغسطس اجتماع جديد ضمّ وزير الخارجية السوري أسعد شيباني ونظيره الإسرائيلي وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، بمشاركة مدير المخابرات السورية حسين سلامة، ومدير المخابرات الخارجية الفرنسية نيكولا ليرنر.
اللقاء الذي جرى وسط تكتم لافت، وأُعلن عنه للمرة الأولى من قبل وكالة الأنباء السورية الرسمية، بدا وكأنه يعكس محاولات لاستكشاف إمكانات التقدّم. وتمكّن "عربي بوست" من الوصول إلى كواليس أولى المباحثات العلنية في عهد النظام الجديد، التي جرت بين الوفدين السوري والإسرائيلي في باريس.
تصلّب سوري وطلبات إسرائيلية
مصادر دبلوماسية سورية مطلعة أوضحت لـ"عربي بوست"، معلقة على أجواء اجتماع باريس، أن اللقاء الذي انعقد برعاية المبعوث الأمريكي إلى سوريا ولبنان، السفير توماس باراك، جاء في إطار مسارٍ يهدف مباشرةً إلى احتواء التوتر في الجنوب السوري وإعادة تثبيت قواعد الاشتباك على جبهة الجنوب.
وبحسب المصادر، فإن وفد دمشق، برئاسة شيباني وسلامة، ركّز منذ البداية على ثلاثية واضحة: وحدة الأراضي السورية ورفض أي مشاريع تقسيم، تأكيد خصوصية السويداء باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الدولة السورية ومكوّنها الدرزي مكوّناً أصيلاً في النسيج الوطني، ثم الانتقال إلى ترتيبات ميدانية وإنسانية ملموسة تخفّف الاحتقان وتمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.
وتقول المصادر إن البحث توزّع على أربعة محاور مترابطة:
المحور السياسي: أعاد الجانب السوري تثبيت مرجعية السيادة الكاملة للدولة على الجنوب، ورفض أي صيغ دائمة تُكرّس وقائع أمر واقع خارج هذه السيادة، مع إبداء الاستعداد لمناقشة إجراءات بناء ثقة تحت مظلّة أممية–أمريكية–عربية، تُترجم بخطوات قابلة للقياس.
المحور الأمني: طُرحت "آلية واضحة" لإعادة تفعيل اتفاق فصل القوات لعام 1974، تتضمن: وقفاً فورياً لأي توغلات عبر خط وقف إطلاق النار، إعادة تنشيط دوريات "الأندوف" وتسهيل حركتها، اعتماد خطوط اتصال ساخنة لمعالجة أي احتكاكات، وضبط تموضع التشكيلات غير النظامية ضمن نطاقات متفق عليها جنوب سوريا. على أن يُستكمل ذلك بمراجعة ميدانية مشتركة بإشراف فني دولي. كما جرى التطرّق إلى تكثيف إجراءات مكافحة التهريب عبر البادية والريف الجنوبي باعتبارها أحد عوامل التأزيم.
المحور الإنساني: اتُّفق على توجيه حزمة مساعدات عاجلة للسويداء ومحيطها ولتجمّعات البدو في البادية الجنوبية، تشمل الغذاء والدواء والوقود والدعم الخدمي لشبكات المياه والكهرباء، على أن تُنفّذ عبر قنوات أممية ومحلية، بعيداً عن التسييس أو الاستخدام كورقة ضغط.
المحور المجتمعي: شدّد الوفدان على ضرورة معالجة القضايا المعيشية والأمنية عبر الدولة ومؤسساتها، مع بحثٍ تمهيدي في خطوات إنسانية إضافية مثل متابعة ملفات المفقودين وعمليات تسليم الجثامين عند الحاجة، بوصفها إجراءات تُخفّف التوتر.
ملف "قسد" حاضر في لقاء الوفدين السوري والإسرائيلي
بحسب مصادر "عربي بوست"، طُرح على الطاولة ملف الجنوب السوري من زاوية منع تكرار الاستهدافات التي طالت وحدات الجيش السوري خلال اشتباكات السويداء، حيث قدّم الوفد السوري طلباً صريحاً للحصول على ضمانات عملية في هذا الشأن.
كما استحضر الوفد مواقف معلنة لوزراء ومسؤولين إسرائيليين، منهم جدعون ساعر، تحدّثت عن الدفع نحو صيغة تحالف كردي–درزي–إسرائيلي، معتبرين أن هذه الطروحات تشكّل خلفية سياسية لمساعٍ لفرض "منطقة عازلة" في الجنوب، تكون نواتها مجموعات محلية قريبة من الشيخ حكمت الهجري، على أن تُربط بشريط عازل موازٍ للحدود السورية–العراقية تُهيمن عليه "قسد" من البوكمال حتى تخوم التنف عند المثلث الحدودي.
وفي هذا السياق، أكّد الجانب السوري امتلاكه معطيات حول اجتماعات عُقدت بين قيادات في "قسد" ومسؤولين في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لبحث هذه السيناريوهات، لا سيما عقب المؤتمر الأخير لـ"قسد".
وشدّد الوفد على أن أي ترتيبات من هذا النوع ستُبقي الجنوب والشرق في حالة فوضى مزمنة، وتُقوّض سلطة الدولة المركزية، بما ينعكس سلباً على الأمن الإقليمي. وأوضح المفاوضون السوريون أن دمشق، ومعها دول إقليمية في المنطقة، تدرك هذه المقاربة وترفض تحويل الحدود السورية–العراقية إلى فضاء مفتوح للتهريب أو مناطق نفوذ لفصائل موازية، مؤكدين أن ضبط الحدود يجب أن يتم حصراً عبر مؤسسات الدولة—الجيش والأمن العام السوري—وتحت سيادة الحكومة المركزية.
وخَلُص النقاش إلى تثبيت مبدأ أن أي ترتيبات أمنية في الجنوب أو الشرق لا تُقرّ إلا ضمن مرجعية الدولة وبإشرافها المباشر، مع إبقاء قنوات المتابعة مفتوحة لبحث آليات الضمان والتطبيق.