في تطور جديد ينذر بتوتر دبلوماسي وتجاري بين القاهرة وكييف، كشفت مصادر مصرية متطابقة عن تصاعد أزمة حادة بين وكالة "مستقبل مصر" الحكومية، التي تتولى عمليات استيراد القمح لصالح الجيش المصري، وبين الحكومة الأوكرانية، على خلفية اتهامات موجهة للوكالة بشراء شحنات من القمح مصدرها أراضٍ أوكرانية تحتلها روسيا منذ اندلاع الحرب بين البلدين في فبراير/شباط 2022.
تشير المصادر الحكومية إلى أن جهاز "مستقبل مصر" أبرم صفقات ضخمة مع شركات روسية، أبرزها صفقة في ديسمبر 2024 لتوريد نحو 1.267 مليون طن من القمح، مع تغطية معظم احتياجات الدولة حتى منتصف 2025.
تثير هذه الصفقات قلق أوكرانيا، التي تعتبر مناطق دونيتسك وزابوريجيا وخيرسون الواقعة تحت الاحتلال الروسي مناطق محرمة للتجارة، وهو ما جعل كييف تفكر في إدراج "مستقبل مصر" في القائمة السوداء.
وكانت صلاحية استيراد القمح والمنتجات الغذائية قد انتقلت رسميًا من هيئة السلع التموينية إلى جهاز "مستقبل مصر" التابع للقوات الجوية في الجيش المصري، بشكل حصري، بحسب خطاب من وزير التموين شريف فاروق إلى وزارة الزراعة الروسية، أكبر مورد قمح إلى مصر، وذلك في ديسمبر 2024.
وجاء في نص الخطاب أن "مستقبل مصر" سيكون الجهاز الحكومي الأوحد الذي يتمتع بالصلاحيات الاستثنائية لتنظيم المناقصات الدولية والتعاقد بالأمر المباشر لشراء القمح والمنتجات الغذائية الأخرى لتلبية احتياجات جمهورية مصر العربية، وينفذ كل الصلاحيات التي نفذتها الهيئة العامة للسلع سابقًا، بما فيها عمليات الشراء بالأمر المباشر.
الاستيراد من أوكرانيا
حسب بيانات وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) ووكالة بلومبرج الاقتصادية، فقد شهدت واردات مصر من القمح في عام 2024 زيادة ملحوظة من أوكرانيا، حيث بلغت كمية القمح المستورد من هذا البلد حوالي 1.9 مليون طن، ما يمثل نحو 13% من إجمالي واردات القمح المصرية لعام 2024.
وتشير بيانات وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) ووكالة بلومبرج الاقتصادية إلى أن هذه الكمية تمثل زيادة قدرها 600 ألف طن مقارنة بواردات عام 2023، مما يعكس توجهًا متزايدًا لمصر نحو تنويع مصادر استيراد القمح، لا سيما بعد استحواذ روسيا على حصة الأسد التي وصلت إلى نحو 74% من إجمالي واردات القمح المصري.
ويأتي هذا التطور في سياق تحول جهاز "مستقبل مصر" الحكومي، التابع للقوات الجوية المصرية، لتولي مسؤولية استيراد القمح بدلاً من الهيئة العامة للسلع التموينية، وذلك بعد أكثر من خمسين عامًا من احتكار الأخيرة لهذا الملف.
وأكد المصدر أن كييف وجّهت اتهامات صريحة للوكالة المصرية بشراء شحنات قمح تم حصادها في مناطق خاضعة للسيطرة الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما تعتبره الحكومة الأوكرانية انتهاكًا لسيادتها وموقفًا منحازًا لموسكو.
وأضاف المصدر أن القضية لم تبقَ في نطاق المراسلات الرسمية، بل وصلت إلى السفير الأوكراني في القاهرة، الذي أبلغ الحكومة المصرية عبر قنوات دبلوماسية، وعبر اتصالات مع البرلمان، أن بلاده تنظر بجدية إلى إدراج وكالة "مستقبل مصر" على "القائمة السوداء" للشركات أو الكيانات التي تستورد القمح من روسيا عبر أراضٍ محتلة، ما يعني منعها تمامًا من شراء أي شحنات قادمة من أوكرانيا مستقبلاً.
وبالإشارة إلى حجم الاستيراد المصري من أوكرانيا، والذي بلغ في عام 2024 ما يقارب الاثنين مليون طن، وهي نسبة لا يُستهان بها من الاحتياج المصري من القمح، فإن توقف أوكرانيا عن بيع القمح لمصر سوف يتسبب في أزمة غذائية لمصر، خاصة في ظل مخاوف من أن مصر ربما تواجه أزمة في إيجاد بديل لذلك.
تحرك برلماني ومحاولات احتواء
في محاولة لاحتواء الأزمة، كشفت مصادر برلمانية أن لجنة الزراعة في مجلس النواب المصري دخلت على خط الأزمة، إذ أجرى وفد من اللجنة زيارة إلى السفير الأوكراني بالقاهرة لبحث الأزمة و"شرح الملابسات"، بحسب تعبير مصدر نيابي شارك في الاجتماع.
وقال المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، إن الوفد البرلماني أوضح للسفير أن وكالة "مستقبل مصر" لم تكن تقصد دعم الاحتلال الروسي، بل تعاملت مع الموردين على أساس وثائق وشهادات منشأ، دون الدخول في الاعتبارات الجغرافية المعقدة المرتبطة بالحرب الجارية.
ورغم ذلك، أبلغ السفير الأوكراني الوفد البرلماني – وفقًا للمصدر ذاته – أن موقف كييف "حازم ولا يحتمل التأويل"، مشددًا على أن الحكومة الأوكرانية لن تسمح بأي تعاون مع جهات تشتري قمحًا من أراضٍ تعتبرها مغتصبة من قِبل روسيا. وأضاف السفير أن بلاده تعمل على إعداد قائمة من الكيانات العالمية – تشمل الوكالة المصرية – لمنعها من الاستيراد الأوكراني في حال ثبت تعاملها مع القمح الروسي من الأراضي المحتلة.
الشركات الخاصة في مرمى الأزمة
الأزمة لا تقف عند وكالة "مستقبل مصر" وحدها، إذ كشف المصدر في مجلس الوزراء المصري أن هناك شركات مصرية خاصة تورطت هي الأخرى في استيراد شحنات من القمح القادم من مناطق أوكرانية خاضعة للسيطرة الروسية. وأشار إلى أسماء بعينها، منها شركة "مناسك" وشركة "البستان"، وهما من كبار مستوردي القمح لمصر، وشاركتا في صفقات مشابهة.
وقال المصدر إن هذه المرة الأولى التي قامت بها هذه الشركات المصرية باستيراد القمح من الأراضي التي تقع تحت السيطرة الروسية، وهي أراضٍ كانت تتبع أوكرانيا قبل اندلاع الحرب مع روسيا قبل ثلاثة أعوام.
وأوضح المصدر أن هذه الشركات تعاملت – مثل وكالة "مستقبل مصر" – مع وسطاء دوليين عرضوا القمح بأسعار تفضيلية، دون الإفصاح الكامل عن مناطق الإنتاج. وأضاف أن الشركات المصرية، رغم كونها خاصة، كانت تعمل "بتكليف ضمني" من الجيش المصري لتأمين الاحتياجات الاستراتيجية من القمح، في ظل اضطرابات الأسواق العالمية.
التداعيات المحتملة على الأمن الغذائي المصري
يقول المصدر إن تصعيد الأزمة قد يُهدد جانبًا مهمًا من واردات القمح إلى مصر، الدولة التي تُعد أكبر مستورد للقمح في العالم، والتي تعتمد على أوكرانيا وروسيا في تغطية نسبة كبيرة من احتياجاتها السنوية.
وفي حال فرضت كييف قيودًا على التعامل مع الوكالة أو الشركات المصرية، فإن القاهرة قد تواجه تحديات إضافية في تأمين الخبز المدعوم لملايين المواطنين، لا سيما في ظل اضطرابات إمدادات البحر الأسود، وارتفاع أسعار الشحن والتأمين بعد أزمة البحر الأحمر.
وبخصوص تحديد نسبة العجز المتوقع لو فرضت أوكرانيا قيودًا على التعامل مع وكالة "مستقبل مصر" أو الشركات المصرية، فالموضوع معقد، ويجب الإشارة إلى المعطيات التالية:
* نسبة واردات مصر من القمح الأوكراني: حوالي 13% من إجمالي واردات مصر عام 2024 (حوالي 1.9 مليون طن) وفق البيانات الرسمية الأمريكية والمصرية.
* الاحتياطي الاستراتيجي: مصر عادة تحافظ على مخزون استراتيجي من القمح يكفي لـ 3-4 أشهر.
* الخيارات البديلة: روسيا تمثل 74% من واردات مصر (حوالي 10.5 مليون طن)، مع وجود موردين آخرين مثل رومانيا.
وبناءً على ذلك:
في حال توقفت واردات القمح من أوكرانيا (13%) فجأة، فإن العجز المباشر سيكون حوالي 13% من الكميات التي تعتمد عليها مصر.
وبسبب ارتفاع أسعار الشحن وتأمين النقل البديل (مثلًا من دول أبعد مثل الأرجنتين أو أمريكا الشمالية)، قد يتضاعف تأثير هذا النقص من ناحية التكلفة.
بالتالي، في أسوأ السيناريوهات، قد يصل العجز الفعلي في توفير القمح للخبز المدعوم إلى 10-15% على الأقل خلال فترة قصيرة، مع احتمالية ارتفاع هذه النسبة إذا استمرت الأزمة أو توسعت.
حركات للبحث عن بدائل
أكد المصدر في مجلس الوزراء أن الحكومة المصرية بدأت بالفعل تحركات "هادئة" للبحث عن بدائل محتملة، تشمل موردين من رومانيا وبلغاريا وفرنسا، إضافة إلى تكثيف الشحنات القادمة من روسيا، رغم تعقيدات الوضع السياسي.
كما تبحث الجهات السيادية، بحسب المصدر، في خيارات إعادة هيكلة ملف استيراد القمح بالكامل، بما في ذلك تقليص الاعتماد على الوسطاء غير المعروفين، وتعزيز آليات التحقق من منشأ الحبوب، لتفادي الدخول في صراعات قانونية أو سياسية مع الدول المصدرة.
جهود مصر لحل الأزمة الخاصة بالقمح
في سياق متصل، قال صقر عبد الفتاح، وكيل لجنة الزراعة في مجلس النواب المصري، في تصريحات خاصة، إن الدولة تحاول تطوير مسار زراعة القمح في البلاد عبر محاور كثيرة.
يؤكد صقر أن هذه الجهود تعتمد على عدة محاور مترابطة، في مقدمتها توسيع الرقعة الزراعية المخصصة لزراعة القمح. ويوضح أن الحكومة تستهدف زراعة أكثر من 3.1 مليون فدان من القمح خلال الموسم الحالي.
ويتابع صقر قائلًا إن المحور الثاني يتمثل في زيادة حجم الإنتاج المحلي، مشيرًا إلى أن الدولة تسعى هذا العام إلى جمع نحو 4 ملايين طن من القمح من الفلاحين.
كما يشير إلى أن الدولة تستهدف الوصول إلى تحقيق اكتفاء ذاتي جزئي بنسبة 60% خلال السنوات القادمة، ويضيف: "تحقيق هذا الهدف يتوقف على قدرتنا على تحسين إنتاجية الفدان من خلال دعم المزارعين تقنيًا ولوجستيًا، وتوفير مدخلات الإنتاج في الوقت المناسب، وضمان تسويق المحصول بسعر عادل".
لاستيراد بدلًا من الزراعة
في سياق موازٍ، كشف مصدر رفيع في وزارة التموين المصرية، في تصريحات خاصة لموقع "عربي بوست"، أن وكالة "مستقبل مصر" أصبحت هي الجهة الرئيسية المسؤولة عن ملف استيراد القمح من الخارج، وذلك بعد أن كان هذا الملف من اختصاص وزارة التموين لسنوات طويلة.
وأوضح المصدر أن هذا التغيير جاء بتكليف مباشر من الرئاسة المصرية قبل أكثر من عام، في إطار إعادة هيكلة آليات إدارة ملف الأمن الغذائي وضمان توفير احتياجات البلاد من القمح.
وأضاف المصدر أن الوكالة، منذ توليها المهمة، تحركت سريعًا لبناء شراكات استراتيجية مع الجانب الروسي، مستفيدة من العلاقات السياسية القوية بين القاهرة وموسكو، والتي تعززت في السنوات الأخيرة على خلفية التعاون في مجالات الطاقة والسلاح والزراعة.
وبحسب المعلومات التي أوردها المصدر، نجحت وكالة "مستقبل مصر" في استيراد كميات كبيرة من القمح الروسي، وهو ما ساعد في تعزيز المخزون الاستراتيجي المصري، في ظل تقلبات أسواق الحبوب العالمية بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
لكن هذه التحركات لم تخلُ من التعقيدات، إذ أوضح المصدر أن الوكالة لجأت، في إطار عملياتها، إلى استيراد كميات من القمح من أراضٍ أوكرانية وقعت تحت السيطرة الروسية.
ورغم أن هذه الخطوة بدت، من وجهة نظر الوكالة، جزءًا من الشراكة مع موسكو وضمان تدفق الإمدادات، فإنها أثارت أزمة سياسية حادة مع أوكرانيا، التي اعتبرت أن شراء القمح من تلك الأراضي يمثل خرقًا لسيادتها ودعمًا ضمنيًا لاحتلال أراضيها.
وأشار المصدر إلى أن الوكالة ربما لم تُولِ اهتمامًا كافيًا لهذه الحساسية السياسية، معتمدة على متانة العلاقات المصرية-الروسية.
في الوقت نفسه، أكد المصدر أن الحكومة المصرية، من خلال وزارة الزراعة، تعمل على مسارات موازية لزيادة الإنتاج المحلي من القمح، وتشمل هذه الجهود تحسين جودة الأصناف المزروعة وتطوير تقنيات الزراعة، إلى جانب استصلاح أراضٍ جديدة بهدف التوسع في زراعة القمح.
لكن هذه الطموحات تواجه عقبات كبيرة، أبرزها أزمة المياه التي تشهدها البلاد بسبب مشروع سد النهضة الإثيوبي، والذي أثّر بشكل ملحوظ على حصة مصر التاريخية من مياه نهر النيل.
ويرى المصدر أن الوضع المائي الحالي يجعل من الاعتماد على الاستيراد خيارًا لا مفر منه في المدى القريب، خاصة في ظل صعوبة تخصيص كميات كبيرة من المياه لزراعة محصول القمح، الذي يحتاج إلى كميات وفيرة من الري.
وأشار إلى أن مصر، رغم استمرارها في تطوير قدراتها الإنتاجية، ما زالت تصطدم بواقع مناخي ومائي لا يمنحها المرونة الكافية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذا المحصول الاستراتيجي.
منظومة الخبز المدعوم
وفقًا لتقرير *"التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري للفترة الرئاسية الجديدة (2024–2030)"* الصادر عن مجلس الوزراء، تحتاج مصر في العام الجاري 2024 إلى 7.7 مليون طن من القمح لتوفير 93.5 مليار رغيف خبز مدعوم، أي ما يعادل نحو 256 مليون رغيف يوميًا.
بينما يُقدَّر إجمالي استهلاك القمح في البلاد بنحو 20.5 مليون طن متري، حسب تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية للعام المالي 2023-2024، ما يعكس اتساع الفجوة بين الطلب المحلي والإنتاج.
هذا الرقم يتزايد تدريجيًا عامًا بعد عام بسبب النمو السكاني المستمر وارتفاع أعداد اللاجئين المقيمين داخل الأراضي المصرية. وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يبلغ نصيب الفرد من القمح في مصر حوالي 150 كجم سنويًا، وهو من أعلى المعدلات في العالم، مما يُشكّل عبئًا مستمرًا على موازنة الدولة.
كما يبلغ إنتاج مصر من القمح لعام 2024 نحو 9.8 إلى 10 ملايين طن متري، وفقًا لتقديرات وزارة الزراعة الأمريكية وبيانات مجلس الوزراء المصري، وهي نفس المستويات المسجَّلة تقريبًا منذ عام 2022. وقد تراوحت معدلات الإنتاج المحلي خلال السنوات العشر الماضية بين 8.4 و10 ملايين طن، وذلك وفق بيانات مجلس الوزراء المصري كما هو موضح:
* 2022: 10 ملايين طن
* 2021: 9.84 ملايين طن
* 2020: 9.79 ملايين طن
* 2019: 8.49 ملايين طن
* 2018-2017: 8.48 ملايين طن
* 2016: 9.58 ملايين طن
* 2015: 9.47 ملايين طن
* 2014: 9.26 ملايين طن
المساحة المزروعة بالقمح تُقدَّر بنحو 3.1 إلى 3.2 مليون فدان، كما صرَّح وزير الزراعة علاء فاروق، وسط مساعٍ حكومية لزيادة هذه المساحة بمليون فدان إضافي، وهو ما قد يُحسِّن معدلات الاكتفاء الذاتي إلى حدود 60% بدلًا من 48.2%، النسبة التي سُجِّلت في عام 2022 وفقًا لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
الاعتماد على الاستيراد: مصر في صدارة مستوردي القمح عالميًا
يقول مصدر في البرلمان المصري في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست" إنه ونظرًا للفجوة الكبيرة بين الاستهلاك والإنتاج، تحتل مصر المرتبة الأولى أو الثانية عالميًا في استيراد القمح، متناوبة مع الصين على صدارة الترتيب.
وأشار إلى أنه في عام 2023 بلغت واردات مصر من القمح نحو 10.8 ملايين طن، إلا أنها شهدت قفزة غير مسبوقة في 2024، حيث وصلت إلى 14.2 مليون طن.
وأوضح أن أزمة الاستيراد من أوكرانيا سوف تؤثر بطبيعة الحال على احتياجات مصر من القمح، ما يدفعها إلى البحث عن بدائل وبشكل سريع، مشيرًا إلى أن مخزون مصر من القمح سوف يتراجع بطبيعة الحال في حال عدم حل الأزمة بين وكالة "مستقبل مصر" وأوكرانيا.
الشركات محل الأزمة مع أوكرانيا
أولًا: جهاز "مستقبل مصر" — الذراع الاستراتيجي لاستيراد القمح
تأسس جهاز *"مستقبل مصر للتنمية المستدامة"* في عام 2022 بقرار رئاسي، ليكون الذراع اللوجستية التابعة للقوات الجوية المصرية، ويتولى إدارة ملف استيراد القمح بشكل منفصل عن الهيئة العامة للسلع التموينية ووزارة التموين.
يأتي إنشاء الجهاز في سياق إعادة هيكلة استراتيجية تهدف إلى تنويع مصادر الاستيراد والتخفيف من اعتماد مصر على قنوات التوريد التقليدية، لكنه أثار قلقًا دوليًا بسبب تعاملاته المباشرة مع السوق الروسية، خصوصًا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.
تشير المصادر الحكومية إلى أن جهاز "مستقبل مصر" أبرم صفقات ضخمة مع شركات روسية، أبرزها صفقة في ديسمبر 2024 لتوريد نحو 1.267 مليون طن من القمح، مع تغطية معظم احتياجات الدولة حتى منتصف 2025. وتثير هذه الصفقات قلق أوكرانيا، التي تعتبر مناطق دونيتسك وزابوريجيا وخيرسون الواقعة تحت الاحتلال الروسي مناطق محرَّمة للتجارة.
ويعمل الجهاز خارج الإطار الإداري التقليدي لوزارة التموين، ولا يظهر في سجلات الشركاء التجاريين المعتادة، مما يزيد من حالة الغموض حول مصادر تمويله وآليات عمله، ويطرح تساؤلات حول الرقابة المؤسسية على صفقات الاستيراد.
رغم ذلك، يسعى الجهاز أيضًا لتوسيع شبكة مورديه، فقد أبرم في أبريل 2025 صفقة نادرة لشراء 180 ألف طن من القمح الفرنسي، وتُجرى مفاوضات مع دول أوروبية مثل رومانيا وبلغاريا، في محاولة لتقليل الاعتماد المطلق على روسيا.
"شركة "مناسك" — اللاعب الأقل ظهورًا في سوق الحبوب
تُعد شركة "مناسك" من الكيانات الخاصة ذات النشاط الغذائي في مصر، لكنها الأقل شهرة بين الشركات المعنية بملف استيراد القمح من الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا.
تعمل "مناسك" ضمن قطاع الاستيراد والتوزيع الغذائي، ولا تتوفر عنها معلومات واضحة على المواقع الرسمية أو قواعد البيانات التجارية، مما يصعِّب تقييم حجم أعمالها ومصادر تمويلها.
ذكرت مصادر تجارية أن "مناسك" تورَّطت، على الأرجح عبر وسطاء، في استيراد كميات من القمح من مناطق خاضعة للسيطرة الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، ما يجعلها ضمن قائمة الكيانات التي قد تواجه حظرًا تجاريًا أو إدراجًا في "القائمة السوداء" الأوكرانية.
شركة "مطحنة البستان"
تختلف شركة "مطحنة البستان" عن غيرها في كونها مؤسسة مصرية مرخَّصة رسميًا، تعمل في قطاع طحن الحبوب وتصنيع الدقيق، وتقع في المنطقة الصناعية بمدينة برج العرب الجديدة بمحافظة الإسكندرية.
تتمتع الشركة بسجل صناعي موثَّق وترخيص من اتحاد الصناعات المصرية، وتعمل ضمن الإطار القانوني المصري، مما يجعلها لاعبًا واضحًا في السوق المحلية.
مع ذلك، تشير تقارير إلى أن "مطحنة البستان" قد قامت — وعبر وسطاء أو شركاء — باستيراد شحنات قمح من مناطق سيطرة روسيا في أوكرانيا، وهو ما يضعها تحت مجهر الرقابة الأوكرانية.