أثارت خطط إسرائيل لإنشاء ما تُسمى بـ"المدينة الإنسانية" في قطاع غزة، والتي تقوم على أنقاض مدينة رفح الفلسطينية، جدلاً واسعاً داخل الأوساط المصرية.
ففي حين تُقدَّم الخطة بوصفها ملاذاً آمناً للفلسطينيين، ينظر إليها كثيرون باعتبارها محاولة لفرض واقع جديد على الحدود، يهدف إلى دفع السكان نحو الإقامة المؤقتة أو الدائمة في مناطق مدمرة، وهو ما يُنذر بعملية تهجير ممنهجة.
وتترك هذه التطورات تساؤلات ملحّة بشأن موقف القاهرة من هذه الخطوة، خاصة في ظل ما يُثار عن تهميش دورها في مفاوضات الهدنة الجارية، والتي لا تزال متعثرة رغم الوساطات المتعددة. ويخشى مراقبون أن يؤدي تغييب مصر عن مسار التسوية إلى إضعاف نفوذها، مقابل بروز أطراف إقليمية بديلة.
وتشير التقديرات إلى أن إقامة "مدينة الخيام" قرب الحدود المصرية، دون تنسيق مباشر مع القاهرة، قد يُفاقم من المخاطر الأمنية في شبه جزيرة سيناء، ويعيد إلى الواجهة مخاوف مرتبطة بتغيير ديمغرافي محتمل على المدى الطويل.
ضغط مصري وتعثر إسرائيلي
قال مسؤول مصري مطّلع على العلاقات بين القاهرة وتل أبيب لـ"عربي بوست" إن مصر تعوّل في الوقت الراهن على الاعتراضات الداخلية في إسرائيل لإجهاض مشروع "المدينة الإنسانية" المقرر إنشاؤها على أنقاض مدينة رفح الفلسطينية.
وأوضح أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وفي مقدمتها رئيس الأركان إيال زامير، ترى أن إقامة هذه المنطقة يُضعف من قدرات الجيش العملياتية في قطاع غزة، وهو ما يعزز من احتمال دفن الفكرة داخلياً.
وأضاف المصدر أن المشروع لا يحظى بدعم كامل من جميع أقطاب الحكومة اليمينية، خاصة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، كما أنه يفتقر إلى حماسة من جانب الاتحاد الأوروبي، الذي يتعاون مع إسرائيل حالياً في إيصال المساعدات الإنسانية، ويخشى من تقويض شراكته الاستراتيجية معها في حال مضت في تنفيذ المخطط.
وفي السياق ذاته، أشار المسؤول إلى أن الولايات المتحدة لم تعلن رسمياً تأييدها للمشروع، في وقت قدمت فيه إسرائيل خرائط جديدة تتضمن انسحاباً من محور موراج بعمق كيلومترين، يفصل بين منطقة رفح التي يُفترض إقامة المدينة عليها وبقية قطاع غزة، وهو ما اعتُبر بمثابة تراجع غير معلن عن الخطة الأصلية. ولفت إلى أن مصر عبّرت عن رفضها للمشروع بشكل علني وسري، وأنه لا توجد حالياً قوة دفع حقيقية لتنفيذه.
مع ذلك، شدد المصدر على أن القيادة المصرية لا تزال تنظر إلى مشروع التهجير كخطر قائم، إذ إن حشد أكثر من نصف مليون فلسطيني قرب الحدود المصرية يحمل في طياته نوايا للضغط على القاهرة.
وأوضح أن أي احتكاك قد يقع بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال قرب السياج الحدودي قد ينعكس مباشرة على وضع مصر الأمني، ويضعها أمام خيارات حرجة يصعب التعامل معها ميدانياً ودبلوماسياً.
من جانبهم، أكد مسؤولون إسرائيليون أن تكلفة إنشاء "المدينة الإنسانية" قد تتراوح بين 10 و15 مليار شيكل، على أمل أن تُعوض لاحقاً من قبل دول عربية عند انخراطها في مشاريع إعادة إعمار غزة.
لكن تقريراً لصحيفة يديعوت أحرونوت نقل عن مصادر رسمية قولها إن المشروع ما زال في طور "الخيمة الضخمة"، ولا توجد قناعة حقيقية بإمكانية تنفيذه فعلاً، معتبرين أن فرص تجسيده على الأرض "ضئيلة جداً".
هدنة غزة مشروطة
قال مصدر مصري مطلع على مجريات التفاوض، إن فرص نجاح مفاوضات الهدنة بين إسرائيل وحماس باتت مرتبطة بشكل وثيق بالتراجع عن مشروع "مدينة الخيام" في رفح، مشيراً إلى أن المؤشرات تميل حالياً في هذا الاتجاه.
وأوضح أن النقطة الأكثر سخونة في المحادثات خلال الأيام المقبلة ستكون تموضع القوات الإسرائيلية داخل القطاع، وسط ضغوط مصرية واضحة للانسحاب من محور فيلادلفيا، تقابلها رغبة إسرائيلية في البقاء.
وشكك المصدر في صحة الأنباء التي تحدثت عن موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الانسحاب من هذا المحور الحدودي، لافتاً إلى أن القاهرة تعتبر استمرار الاحتلال في تلك المنطقة خرقاً لاتفاق رفح الأمني الموقع منذ عشرين عاماً، وانتهاكاً للبروتوكولات الأمنية بين مصر وإسرائيل.
ووفقاً للمصدر ذاته، فإن التفاهمات الجارية بين نتنياهو والإدارة الأميركية – رغم أنها تبدو في ظاهرها متعلقة بقطاع غزة – إلا أنها جزء من صفقة إقليمية أوسع تتضمن الحرب مع إيران، والملفين اللبناني والسوري، وترتيبات إعادة رسم المشهد في الشرق الأوسط.
وتوقع المصدر أن يلجأ نتنياهو إلى تصعيد متعمد بعد حصول الكنيست على إجازته الصيفية، بهدف تمرير قرارات داخلية قبل العودة المحتملة إلى التصعيد العسكري في القطاع بعد نحو شهرين.
وأشار إلى أن الاجتماعات التي استضافتها القاهرة مؤخراً، بحضور وفود إسرائيلية وقطرية، ركزت على آليات إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وخروج المرضى وعودة العالقين، وذلك في ظل تنسيق مع الاتحاد الأوروبي، مع حرص مصر على أن تكون الجهة المشرفة على هذه العملية من الجانب الحدودي.
غير أن المسؤول المصري عبّر عن قلق القاهرة من محاولات تهميش دورها في المفاوضات التي جرت في واشنطن والدوحة، خاصة مع استمرار ما وصفه بـ"التحركات المريبة" لدفع الفلسطينيين باتجاه الحدود المصرية، الأمر الذي ترى فيه القاهرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي ومحاولة لإحداث تهجير طوعي يتحول إلى قسري نحو شبه جزيرة سيناء.
وفي سياق متصل، كشفت صحيفة جيروزاليم بوست عن تقديم إسرائيل خريطة جديدة ثالثة لانتشار قواتها خلال فترة الهدنة المقترحة لمدة 60 يوماً. وتُظهر الخريطة استعداداً إسرائيلياً لتقليص الوجود العسكري إلى منطقة عازلة بعرض كيلومترين قرب رفح، بين ممري موراغ وفيلادلفيا، مع احتمال سحب عدد إضافي من القوات بشكل مؤقت خلال فترة وقف إطلاق النار.
"مدينة الخيام" تهديد مباشر لسيناء
قال مصدر عسكري مصري إن مشروع "مدينة الخيام" المقترح في رفح الجنوبية هو نتاج تفاهم غير معلن بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يهدف إلى كسب الوقت ومحاولة تحقيق مكاسب ميدانية لم تتحقق بعد في قطاع غزة.
وحذّر المصدر من أن هذا المشروع يشكّل خطراً داهماً على الأمن القومي المصري، داعياً إلى التعامل معه بجدية لمنع ارتداداته المستقبلية على الحدود الشرقية للبلاد.
وأوضح المصدر أن إسرائيل، في ظل إخفاقاتها العسكرية المتكررة داخل القطاع، تحاول خلق واقع سياسي جديد يعوّض فشلها الميداني، عبر فرض مناطق عزل على الفلسطينيين، ودفعهم تدريجياً نحو مناطق مغلقة.
وأضاف أن القوات الإسرائيلية تتعرض يومياً لهجمات من المقاومة، رغم تراجع قدراتها العسكرية، وهو ما يُبقي إسرائيل في موقف دفاعي ميداني يُحرج القيادة السياسية.
وأشار إلى أن حصر مئات الآلاف من الفلسطينيين في منطقة خيام معزولة قد يخدم أجندة نتنياهو في استهداف قيادات المقاومة، والتفرد بمناطق أخرى من القطاع لاحقاً، أو الضغط نحو التهجير.
لكنه شدد على أن هذه الأهداف بعيدة المنال في ظل الصمود الفلسطيني، والموقف المصري الرافض لأي مساس بالحدود أو تحميل مصر أعباء إنسانية أو أمنية إضافية.
وأكد أن وقفاً نهائياً لإطلاق النار لا يبدو وارداً في المدى المنظور، وأن إسرائيل ستواصل العمليات العسكرية من أجل إبقاء الصراع مفتوحاً، بانتظار لحظة مواتية لفرض تهجير فعلي.
ولفت إلى أن مصر لن تسمح لإسرائيل ببدء تنفيذ أي بنية تحتية لهذا المشروع، ولو حتى عبر وضع أنبوب مياه، لأنها ترفض الدخول في صدام مباشر مع الشعب الفلسطيني.
واختتم المصدر بالتأكيد على أن القاهرة تمتلك أوراق ضغط متعددة لإيقاف هذا المخطط، في مقدمتها ملف اتفاق السلام، والقدرة على التأثير في أمن إسرائيل الاستراتيجي، وهو ما يضع تل أبيب وواشنطن أمام معادلة معقدة في حال الإصرار على تنفيذ مشروع المدينة.
مصر تنتظر تدخلا دوليا
قال الإعلامي المصري المقرب من دوائر السلطة، أحمد موسى، إن مخطط تهجير سكان قطاع غزة لم يتوقف، مشيراً إلى أن الهدف الحقيقي منه هو تصفية القضية الفلسطينية عبر إفراغ القطاع من سكانه.
ولفت إلى أن إسرائيل تخطط لتقسيم غزة إلى خمسة قطاعات أمنية عبر محاور: موراج، نتساريم، كيسوفيم، مفلاسيم، وفيلادلفيا، في سياق عملية طويلة الأمد لإعادة ترسيم خريطة القطاع.
وأكد موسى أن إسرائيل تسعى في المرحلة الأولى إلى نقل نحو 700 ألف فلسطيني إلى "مدينة خيام" تُقام على مساحة 55 كيلومتراً مربعاً بمحاذاة الحدود المصرية، تمهيداً لمرحلة ثانية قد تشمل ما تبقى من سكان القطاع.
وأضاف خلال تصريحاته: "الـ 100 مليون مصري كلهم مستعدين يروحوا يقعدوا في سيناء، ويدافعوا عن بلدهم، ولن يسمح أي مواطن مصري بتهجير أي فلسطيني إلى أراضينا".
وفي السياق ذاته، قال محلل سياسي مصري على صلة بمؤسسات الحكم، إن صمت القاهرة على الخطط المتداولة بشأن "مدينة الخيام" يعكس موقفاً مدروساً يهدف إلى عدم التورط في تفاصيل لم تتبلور بعد، خصوصاً في ظل تغييبها عن المفاوضات الأخيرة التي جرت في واشنطن بمشاركة مفاوضين قطريين وإسرائيليين.
وأوضح المحلل أن مصر تنتظر تدخلاً دولياً واضحاً يوقف ما تسعى إسرائيل إلى تنفيذه، خاصة مع تزايد معارضة دولية للمشروع، من منظمات أممية ودول أوروبية، هدّدت بعضها بتجميد اتفاقيات شراكة مع تل أبيب في حال مضت في تنفيذ مخطط التهجير.
ولفت إلى أن القاهرة تتحرّك بحذر لتجنّب الدخول في مواجهة دبلوماسية مباشرة مع الإدارة الأميركية الحالية، وتسعى في المقابل إلى كبح جماح المخطط الإسرائيلي دون دفع كلفة سياسية عالية.