أثارت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن استعداده للتدخل لحل أزمة سد النهضة الإثيوبي بعد اكتمال بنائه، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية المصرية.
وزاد من حدة هذا الجدل ترحيب الرئيس عبدالفتاح السيسي بهذه التصريحات، مقروناً بدعوة ضمنية إلى تسوية أزمات إقليمية أخرى، ما فتح باب التأويلات حول وجود حسابات سياسية معقدة خلف هذا الموقف.
في خلفية هذا الترحيب، تبرز مخاوف مصرية من أن تكون تصريحات واشنطن بمثابة فخ دبلوماسي، خصوصاً إذا ترافقت مع ضغوط أميركية موازية تتعارض مع ثوابت السياسة المصرية، وفي مقدمتها رفض القاهرة لأي مخططات تهدف إلى تهجير الفلسطينيين في إطار تسويات إقليمية.
ويتّضح من التسلسل الزمني للأحداث أن هذه المخاوف ليست من فراغ؛ فقد سبقت تصريحات ترامب الأولى دعوة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لمصر والسودان لحضور افتتاح السد في سبتمبر المقبل.
ثم جاءت تصريحات ترامب الثانية عقب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، وفي توقيت تراجع فيه الحضور المصري عن مشهد المفاوضات المتعلقة بوقف إطلاق النار في غزة، وسط غياب الوفد المصري عن المحادثات التي استضافتها واشنطن بين إسرائيل وقطر.
هذا التزامن في التصريحات والتحركات يعكس – بحسب مراقبين – تغيراً في موازين الملفات الإقليمية التي لطالما كانت القاهرة لاعباً مركزياً فيها، ويطرح تساؤلات بشأن موقع مصر في خارطة الترتيبات المقبلة التي تُرسم في واشنطن وتل أبيب.
مغازلة لمصر أم ورقة ضغط؟
وكشف مصدر دبلوماسي مصري لـ"عربي بوست" أن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن سد النهضة تأتي في إطار سعيه لإعادة تصدّر المشهد الدولي، عبر تقديم نفسه كقادر على حل أزمات عالقة، بما فيها أزمة السد، التي تمسّ الأمن القومي المصري. لكنه لفت إلى أن هذا الطرح قد لا يكون منفصلًا عن رغبة أميركية في مقايضة القاهرة على مواقفها في ملفات أخرى، أبرزها القضية الفلسطينية.
وأشار المصدر إلى أن واشنطن قد تستخدم ورقة السد كورقة ضغط لإقناع مصر بتقديم تنازلات، خاصة في ما يتعلق برفض القاهرة لخطط تهجير الفلسطينيين أو محاولات تهميش السلطة الفلسطينية لصالح ترتيبات ميدانية جديدة ترعاها إسرائيل.
وأضاف أن الموقف المصري يبقى راسخًا في رفض أي حلول خارج إطار حل الدولتين، ورفض التهجير القسري أو الطوعي، وكذلك ضم الضفة الغربية أو الإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي لغزة.
وتحدث المصدر عن تجارب سابقة للرئيس ترامب في هذا الملف، قائلاً إن إدارة ترامب الأولى رعت مفاوضات سد النهضة في عام 2020 بمشاركة وزارة الخزانة والبنك الدولي، وتم التوصل حينها إلى مسودة اتفاق قانوني ملزم، قبل أن تنسحب إثيوبيا من التوقيع في اللحظات الأخيرة. ورغم ذلك، يرى المصدر أن تلك المبادرة كانت "إيجابية"، مقارنة بما قدمته إدارة بايدن التي ألغت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على أديس أبابا، ما مهّد الطريق أمام استكمال بناء السد.
كما لفت المصدر إلى أن حديث ترامب عن "تمويل أميركي للسد" يلمّح إلى ما اعتبره دعمًا ضمنيًا من إدارة بايدن، في خطوة تُعد بمثابة اعتراف بخطورة المشروع على الأمن المائي المصري.
وأكد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي تعامل بحذر إيجابي مع تصريحات ترامب، مشيرًا إلى ثقته في قدرته على إعادة إطلاق مفاوضات فعالة، بما يتماشى مع المادة العاشرة من اتفاق المبادئ الثلاثي بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتي تتيح اللجوء إلى وساطة دولية لحل الخلافات.
لكن المصدر حذّر من أن غياب تحرك أميركي حقيقي قد يدفع القاهرة إلى التصعيد دبلوماسيًا واللجوء إلى مجلس الأمن تحت الفصلين السادس والسابع، بحجة تهديد السد للأمن والسلم الدوليين.
وكان ترامب قد صرّح خلال لقائه مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته في البيت الأبيض بأن الولايات المتحدة "ستحل مشكلة سد النهضة بسرعة"، معتبراً أن "السد يمثّل مشكلة كبيرة"، وأنه تسبب في إغلاق تدفق المياه إلى مصر، ما يشكّل تهديداً وجودياً لجارتها الجنوبية.
وأضاف ترامب: "لقد عملنا على ملف مصر مع جارتها المجاورة، وهي دولة كانت جارة جيدة وصديقًا لنا، لكنها قامت ببناء سد أغلق تدفّق المياه إلى ما يُعرف بنهر النيل"، مشيراً إلى أن السد يمثل "مشكلة كبيرة".
القاهرة ترفض المقايضة
وبحسب مصدر دبلوماسي مصري آخر، فإن القاهرة ترفض بشكل قاطع مقايضة مواقفها المبدئية تجاه القضية الفلسطينية، مقابل اتفاق جزئي أو متأخر بشأن سد النهضة، خاصة بعد أن بات المشروع أمراً واقعاً على الأرض.
في المقابل، لا تمانع مصر، وفق المصدر نفسه، في القبول بوساطة أميركية شريطة أن تقود إلى تسويات إقليمية أوسع، تعيد ضبط قواعد التعاون بين القاهرة وأديس أبابا، خصوصاً في ظل الطموحات الإثيوبية للتمدد نحو البحر الأحمر عبر بوابات تجارية وعسكرية.
وأوضح المصدر أن مصر لا تمانع أن تصبح إثيوبيا شريكاً مقبولاً في هذه الملفات الإقليمية، إذا ما التزمت بالقانون الدولي، وأبرمت اتفاقاً قانونياً مُلزماً بشأن تشغيل سد النهضة يراعي المصالح المائية لدولتي المصب، مصر والسودان.
كما أن طموحات أديس أبابا في النفاذ إلى البحر الأحمر تصطدم حالياً بتحالف إقليمي يجمع القاهرة وأسمرة ومقديشو، وهو ما يجعل التفاهمات القانونية والشرعية شرطاً أساسياً لأي تواجد إثيوبي في المنطقة.
ويأتي هذا التوجه في وقت تسعى فيه واشنطن إلى تعزيز حضورها في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، خصوصاً بعد تراجع النفوذ الفرنسي. ويرى المصدر أن الضغط الأميركي على إثيوبيا لتقديم تنازلات حقيقية بشأن ملف السد، قد يشكل مدخلاً لتحقيق مكاسب إقليمية لجميع الأطراف، في إطار توازنات جديدة تراعي مصالح القاهرة وأديس أبابا وواشنطن.
ورغم هذه المؤشرات، يظل التعويل على مفاوضات جديدة محفوفاً بالتشكيك من الجانب المصري، إذ أن استئناف المحادثات دون ضمانات أو محددات واضحة قد يُعيد إنتاج أزمة التفاوض العقيم المستمرة منذ أكثر من 12 عاماً.
وبحسب المصدر، فإن الثقة في العملية التفاوضية ستتوقف على مدى استعداد الولايات المتحدة لإلزام إثيوبيا باتفاق قانوني يحترم مبادئ القانون الدولي ويضمن عدم الإضرار بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل.
وكانت إدارة ترامب قد قررت في 2020 قطع 100 مليون دولار من المساعدات الأميركية لإثيوبيا على خلفية تعثر المفاوضات، قبل أن يعيدها الرئيس جو بايدن لاحقاً.
كما استضافت واشنطن خلال ولاية ترامب الأولى جولات تفاوض برعاية البنك الدولي، انتهت بالفشل بعد انسحاب إثيوبيا واتهامها لواشنطن بالانحياز للموقف المصري.
وفي رد رسمي على تصريحات ترامب الأخيرة، نفت الحكومة الإثيوبية أي تمويل خارجي للسد، مؤكدة أن المشروع تم تنفيذه بالكامل عبر موارد داخلية ومساهمات شعبية.
وقال أريغاوي برهي، رئيس مكتب التنسيق العام للسد، إن "السد بُني بجهود الشعب الإثيوبي وحده، ولا وجود لأي تمويل أميركي على الإطلاق".
ملف السد في حسابات ترامب الإقليمية
وفي سياق متصل، رأى محلل سياسي مصري متخصص في الشأن الأفريقي أن انخراط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ملف سد النهضة لا ينفصل عن أجندته الأوسع في المنطقة، والتي تتضمن جهوداً لحل أزمات معقدة كالحرب الإيرانية الإسرائيلية.
واعتبر في حديثه مع "عربي بوست" أن نجاحه النسبي في تهدئة هذا النزاع يمنحه مصداقية إضافية للتحرك في ملفات أخرى، على رأسها أزمة السد الإثيوبي، وهو ما قد يشجع القاهرة على الانخراط بحذر في مبادرة أميركية جديدة، شريطة أن تفضي إلى اتفاق قانوني مُلزم يحفظ حقوق مصر والسودان ويؤسس لتعاون إقليمي مستدام.
وأضاف أن الرؤية المصرية تنظر إلى سد النهضة باعتباره فرصة – لا تهديدًا فقط – لتعزيز التعاون السياسي بين دول حوض النيل، وأن التحركات التي قادها الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال السنوات الأخيرة تجاه عدد من الدول الأفريقية قد تُمهد لمرحلة جديدة من التفاهم الإقليمي، إذا ما اقترنت بضمانات حقيقية. وأشار إلى أن التصريحات المصرية الرسمية، التي بدت مقتضبة في الرد على ترامب، قد تُستكمل لاحقاً بمواقف أكثر وضوحاً وانخراطاً، في حال لمس الجانب المصري جدية أميركية حقيقية.
لكن المحلل لم يُغفل احتمال أن توظف واشنطن هذا التدخل كورقة ضغط على القاهرة في ملفات إقليمية أخرى، مثل القضية الفلسطينية، والصراع الليبي، والأزمة في السودان. وشدد على ضرورة أن تبقى مصر مستعدة لسيناريوهات معقدة قد تُفرض عليها تحت غطاء التعاون، في حين تكون دوافعها خادمة للمصالح الأميركية لا للمصالح المصرية.
وفي هذا الإطار، حذر من أن أزمة المياه قد لا تُغلق حتى بعد اكتمال بناء السد، في ظل دخول "اتفاقية عنتيبي" حيز التنفيذ العام الماضي، وهي الاتفاقية التي ترفضها مصر والسودان بشدة. إذ تمنح دول المنبع حق إقامة مشروعات مائية دون الرجوع إلى دول المصب، وهو ما ينسف مبدأ التوافق الذي طالما شكل أساس تقاسم مياه النيل.
وكانت الاتفاقية، المبرمة عام 2010، قد وقعتها ست دول هي إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وبوروندي وجنوب السودان، فيما امتنعت مصر والسودان والكونغو وإريتريا وكينيا عن التوقيع، ما يجعل من قضية المياه ملفًا مفتوحًا، يتجاوز سد النهضة نفسه.
إثيوبيا غير جادة في اتخاذ قرار سياسي للعودة للمفاوضات
وفي موقف رسمي متجدد، شدد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، خلال الاجتماع الأسبوعي للحكومة، على أن بلاده لا تعارض حق إثيوبيا في التنمية، ولا ترفض مشروع سد النهضة في حد ذاته، لكنها تتمسك بمطلب رئيسي يتمثل في ضرورة وجود "وثيقة مكتوبة وملزمة" تنظم قواعد تشغيل السد وإدارته. وهو مطلب تعتبره أديس أبابا انتقاصاً من "سيادتها الوطنية"، ورفضته مراراً خلال جولات التفاوض السابقة.
من جهته، أكد وزير الموارد المائية والري المصري، هاني سويلم، أن بلاده ترفض ما وصفه بـ"السياسات الإثيوبية أحادية الجانب"، محذراً من محاولات فرض "هيمنة مائية" تهدد الأمن القومي المصري.
وأضاف أن اكتمال بناء السد دون اتفاق قانوني ملزم يُعد "انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي"، مجدداً التأكيد على أن مصر لن تقبل بسياسة فرض الأمر الواقع في قضية تمسّ شريان حياتها الأساسي.
وفي السياق ذاته، اعتبرت السفيرة منى عمر، مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأفريقية، أن اهتمام ترامب المفاجئ بملف السد قد يرتبط برغبته في تحقيق إنجاز دبلوماسي يُحسب له، وربما بهدف تعزيز فرصه في نيل جائزة نوبل للسلام، خاصة بعد فشل مبادراته السابقة في الملفين الفلسطيني والإسرائيلي، وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية.
بدوره، قلل وزير ري مصري سابق من جدية الطرح الأميركي، معتبراً أن أي مفاوضات محتملة ستكون حول إدارة الأمر الواقع، بعد أن أصبح السد قائماً ويُخزن فعلياً كميات ضخمة من المياه.
وأشار إلى أن نحو 60 مليار متر مكعب من المياه باتت محتجزة خلف السد، وهو ما يُخصم بشكل مباشر من حصة مصر والسودان، ما يفاقم من أثر السد على الأمن المائي للبلدين.
وأضاف أن إثيوبيا لم تُبد أي مؤشرات على استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، كما أنها أفشلت سابقاً أغلب الجولات التي جرت بوساطات متعددة.