دفعت تطورات الحرب في السودان خلال الأيام القليلة الماضية، إثر سيطرة قوات الدعم السريع على منطقة المثلث الحدودي، مصرَ إلى التحرك دبلوماسياً بشكل عاجل من أجل حماية حدودها وأمنها القومي، ومواجهة مخططات دولية تهدف إلى وضع هندسة جديدة لمنطقتي البحر الأحمر والقرن الإفريقي الاستراتيجيتين.
إذ شهدت الحدود الجنوبية المصرية تحولات سريعة في أعقاب سيطرة الدعم السريع بالتعاون مع قوات الجنرال الليبي خليفة حفتر على منطقة المثلث الحدودي، وهو ما قاد إلى مزيد من الانخراط المصري في الأزمة السودانية سياسياً، مع انضمامها إلى اللجنة الرباعية التي تضم إلى جانب مصر كلاً من السعودية والإمارات والولايات المتحدة.
وكانت أولى التحركات الدبلوماسية المصرية الاجتماعات التي عقدها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع قادة الجيوش في السودان وليبيا، وما تمخض عنها من تشكيل لجان فنية عقدت أولى اجتماعاتها في القاهرة الأربعاء 9 يوليو/تموز 2025. فكيف تستغل مصر تواجدها في اللجنة الرباعية لحماية مصالحها في المنطقة؟
خطط لرسم هندسة جديدة للبحر الأحمر والقرن الإفريقي
قال مصدر دبلوماسي مصري مطلع إن الانضمام إلى اللجنة الرباعية يُعد "مكسباً للدولة المصرية"، بعد أن جرى تغييبها عن قصد من جانب الولايات المتحدة، التي منحت أدواراً أكبر لدول الخليج في السودان، في حين أن تلك المنطقة تُعد بؤرة جغرافية لحضور تاريخي للدولة المصرية.
وأضاف مصدر "عربي بوست" أن انخراط القاهرة في اللجنة يهدف إلى تحقيق أكثر من هدف، في مقدمتها إقناع الجيش السوداني بالانخراط في مفاوضات تسعى إليها الولايات المتحدة لوقف الحرب، لكن على أسس تخدم مصالحها ومصالح إسرائيل في البحر الأحمر، وهو ما تعترض عليه مصر، لكنها في الوقت ذاته لديها رغبة في إنهاء القتال.
وأضاف المصدر ذاته أن مصر تسعى إلى الوقوف حائط صد أمام مشاريع تقسيم السودان، التي تبدو أقرب إلى الواقع في ظل تعقيدات الصراع الحالي والاقتراب من نقطة اللاعودة بالنسبة للدولة الموحدة، خاصةً وأن قوات الدعم السريع وضعت ركائز حكومتها في كردفان ودارفور غرباً.
وهو سيناريو "تدعمه قوى معادية، في مقدمتها إسرائيل التي لديها تمدد في دول شمال القارة الإفريقية، ولديها رغبة في إيجاد موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر يمكن أن يكون أكثر سهولة في حال أضحى السودان مقسّماً"، يقول المصدر.
وحسب المصدر الدبلوماسي الذي تحدث لـ"عربي بوست" شريطة عدم ذكر اسمه، فإن ذلك يأتي ضمن خطط إعادة هندسة منطقة القرن الإفريقي، والتي تتزامن مع انخراط أميركي أكبر في القارة السمراء عبر مشروعات استثمارية وتجارية.

وشدد المصدر ذاته على أن أدوار مصر في اللجنة الرباعية سوف تركز على إمكانية جمع كافة القوى السياسية السودانية على طاولة واحدة لبحث جهود وقف الحرب، والتماهي مع رغبة إماراتية في إبعاد الإسلاميين عن السلطة في السودان.
ويمكن أن يشكل ذلك هدفاً مصرياً مشتركاً تتوافق عليه أيضاً السعودية، للتوصل إلى صيغة يبقى فيها هؤلاء في موقع المعارضة دون إبعاد كامل، مع ضرورة توحيد القوى التي تساعد على أن يعود السودان إلى مسار التحول الديمقراطي، وتبديد أطماع حكم البلاد بواسطة ميليشيات مسلحة تشكل نموذجاً يمكن الاقتداء به في أي من دول جوار السودان كوسيلة للوصول إلى السلطة.
إذ قال مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب للشؤون الإفريقية، إن وزير الخارجية ماركو روبيو يعتزم عقد اجتماع قريب في واشنطن بشأن الحرب في السودان، على مستوى وزراء خارجية دول اللجنة الرباعية التي تضم السعودية والإمارات ومصر والولايات المتحدة، مشيراً إلى أن الجهود لإيجاد حل لهذه الحرب المستمرة منذ أبريل 2023، بدأت منذ أسابيع.
وفي مطلع الشهر الماضي، دعت الولايات المتحدة والإمارات والسعودية ومصر أطراف الصراع في السودان إلى وقف الأعمال العدائية والتوصل إلى حل تفاوضي، وبحسب بيان صادر عن الخارجية الأميركية في ذلك الحين، فإن "الولايات المتحدة لا تعتقد أن الصراع قابل للحل العسكري، ولذلك ينبغي على الرباعية السعي لإقناع الأطراف المتحاربة بوقف الأعمال العدائية والتوصل إلى حل تفاوضي".
مصر تتجنب التصعيد عسكرياً وتبحث عن حل سياسي
قال خبير عسكري مصري إن مصر تولي السودان أهمية كبيرة، وهو الاهتمام الذي سيتزايد مستقبلاً في ظل تعقيدات المشهد، دون أن يكون هناك تغيير في الثوابت المرتبطة بدعم مؤسسات الدولة والجيش والحفاظ على أمن واستقرار السودان، مشيراً إلى أن ما حدث مؤخراً في منطقة المثلث الحدودي يُعوق الوصول إلى أي استقرار منشود.
وحسب الخبير العسكري، فإن التحالف بين الدعم السريع والمشير خليفة حفتر جعل مصر في حيرة من أمرها، لأنها تعتمد على الأخير في التنسيق نحو تأمين الحدود الغربية، ولا تعترف بقوات حميدتي وترفض التعامل معها، كما أن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان يُعد صديقاً استراتيجياً لمصر، فيما الإمارات قريبة من الدعم السريع.
وأشار المتحدث، شريطة عدم ذكر اسمه، إلى أن التصريحات الرسمية المصرية بشأن المثلث الحدودي كانت شحيحة للغاية، وهناك قناعة بأن مجاراة التصعيد بتصعيد عسكري سوف يؤدي إلى التهاب منطقة حدودية كان يُتعامل معها على أنها آمنة قبل وصول قوات الدعم السريع إليها.
وفي المقابل، يضيف الخبير العسكري، جرى تكثيف الجهود الدبلوماسية على مستويات رئاسية لضمان التنسيق الأمني في المنطقة بما لا يقود إلى تحوّل المنطقة إلى مهدد أمني لمصر.
وكشف المتحدث عن أن القاهرة لعبت دوراً في تقريب وجهات النظر بين الجيش السوداني وقوات حفتر، وكذلك بعثت برسائل للدعم السريع وحلفائه بأنها "لا يمكن أن تسمح بتهديد حدودها في تلك المنطقة، وأن تشكيل موازين قوى عسكرية يتشارك فيها الجيش السوداني والمصري، إلى جانب مساعي تحييد قوات حفتر، لن يكون في صالح الدعم السريع ومموليه".
وبيّن الخبير العسكري أن القاهرة لديها مخاوف من أن يكون المثلث الحدودي مركز عبور لتجارة السلاح والجريمة غير المنظمة، ورغم أنها في السابق كانت تُوظف لتلك الأهداف، إلا أن الوضع أضحى مغايراً الآن، لأن التنسيق مع الجانب السوداني لم يعد قائماً في ظل سيطرة الدعم السريع، وأضحت تُشكل خطراً داهماً على الأمن القومي المصري.
كما أن سيطرة حميدتي وحفتر على المنطقة، يوضح المصدر ذاته، تمنح الطرفين نفوذاً أمنياً وسياسياً واقتصادياً نتيجة جني أرباح هائلة من عمليات تهريب الذهب والسلاح، وهو ما يُشكل رئة تتقوّى منها قوات الدعم السريع، التي تهدد باجتياح الولاية الشمالية على حدود مصر.
لكن المصدر ذاته شدد على أن مصر لن تتورط عسكرياً في صراع السودان ولا في التطورات الحاصلة في منطقة المثلث الحدودي، لكنها تهدف إلى إحداث توازن قوى عسكرية بين الأطراف المتصارعة هناك، كما أنها تنظر إلى الصراع في السودان على أنه جزء من استراتيجية الصراع الدولي بين الولايات المتحدة والصين.
وحسب المتحدث، فإن هناك قناعة بأن واشنطن تستطيع وقفه غداً، لكنها تراقب الموقف من بعيد وتعمل على ضبط الصراع لخلق توازن وأمر واقع يدعم اتجاه التقسيم، أو أن يكون كل طرف لديه جزء يسيطر عليه، مثلما هو الوضع في الحالة الليبية، كما أن الدعم الإقليمي لحفتر أو حميدتي يتم بضوء أخضر أميركي.
واستضافت العاصمة المصرية القاهرة، الأربعاء 9 يوليو/تموز 2025، اجتماعاً أمنياً رفيع المستوى ضمّ مسؤولين كباراً من مصر وليبيا والسودان، لتبادل الرؤى حول التحديات والتطورات الأمنية في المنطقة، وتعزيز التنسيق والتعاون المشترك للحفاظ على الأمن القومي للدول الثلاث.
وبحسب ما أعلنته وسائل إعلام مصرية، أكد الاجتماع الثلاثي على أهمية التنسيق والتعاون المشترك بين الدول الثلاث للحفاظ على الأمن القومي، مع التأكيد على الحرص على إعلاء المصالح العليا لشعوب الدول الثلاث.
وتُعد منطقة المثلث الحدودي نقطة التقاء محورية واستراتيجية بين السودان ومصر وليبيا عند جبل العوينات، وتمثل أهمية أمنية واقتصادية عالية للدول الثلاث. وقد شهدت المنطقة في السنوات الأخيرة تحديات أمنية متعددة تشمل تهريب الأسلحة، والهجرة غير الشرعية، والأنشطة الإجرامية العابرة للحدود.
بينما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خلال استقباله رؤساء خمس دول إفريقية في البيت الأبيض (غينيا بيساو، وموريتانيا، والغابون، والسنغال، وليبيريا)، أن إدارته تعمل على دفع جهود التسوية السلمية في كل من السودان وليبيا، في إطار استراتيجية جديدة تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي عبر الحوار السياسي والتعاون الاقتصادي.

التوصل إلى اتفاق سياسي على أسس أمنية جديدة
بحسب مصدر دبلوماسي مصري على صلة بالشؤون الإفريقية، فإن الانخراط المصري ضمن الأطراف المؤثرة في المشهد السوداني برعاية أميركية، يأتي ضمن خطوات القاهرة للتعامل مع الاختراق الناعم الذي يهدد الأمن القومي المصري من جانب إسرائيل وأذرعها ضمن المشروع الصهيوني التوسعي.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن القاهرة، بعد أن وقفت حائط صد أمام مخطط تهجير الفلسطينيين على حدودها الشمالية الشرقية، ترى بأنه قد يجري استنزافها على الحدود الجنوبية الغربية، وتهدف إلى الوصول إلى نقاط التقاء مشتركة يمكن معها الحفاظ على أمنها القومي عبر المباحثات السياسية، وليس الانخراط العسكري.
وأوضح المصدر ذاته أن القاهرة تراقب التحركات الأميركية التي تدعم وقف الحرب بعد أن وصل حميدتي وقواته إلى حدودها الجنوبية، في إشارة إلى أن الهدف الآن هو التوصل إلى اتفاق سياسي على أسس أمنية جديدة.
وتقوم أسس الاتفاق على أن يُصبح حميدتي جزءاً من معادلة الحل السوداني المستقبلي، دون أن تندمج قواته في الجيش السوداني كما كان مقرراً عند التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي سبق اندلاع الحرب، وهو أيضاً كان برعاية أممية، أميركية، ودولية.
ولفت المصدر إلى أن وصول حميدتي إلى الحدود الجنوبية المصرية يعني أن هناك تواجداً إسرائيلياً غير مباشر في هذه المنطقة، بعد أن عززت إسرائيل علاقاتها مع دول حوض النيل، وخنقت القاهرة عبر سد النهضة الإثيوبي، إلى جانب التحالفات مع أوغندا وجنوب السودان.
ولعل ذلك، يوضح مصدر "عربي بوست"، ما يبرر التصعيد الحالي من جانب الدبلوماسية المصرية بشأن التعامل مع سد النهضة، وكذلك محاولة تحييد دولة جنوب السودان عن التطورات الراهنة، عبر لقاءات دبلوماسية أجراها وزير الخارجية بدر عبد العاطي.
وذكر المصدر ذاته أن استضافة السيسي لحفتر والبرهان يأتي ضمن تحركات مصر لحماية أمنها القومي، ولعل تزامن الدعوة الأميركية إلى اللجنة الرباعية للاجتماع في واشنطن، يمكن أن يشهد نقاشات عديدة واختلافات كثيرة بشأن مخاوف القاهرة من تواجد الدعم السريع في تلك المنطقة، وفي المقابل، محاولات واشنطن طمأنة مصر.