تتجه الأوضاع في بلدة توري باتشيكو التابعة لإقليم مورسيا جنوب شرق إسبانيا إلى التهدئة بعد أيام من الانفلات الذي شهدته البلدة التي يقطنها نحو 40 ألف نسمة، إثر المواجهات التي اندلعت بين مواطنين إسبان ومقيمين من جنسية مغربية، على خلفية انتشار مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يوثّق اعتداء شبّان أجانب على مُسنّ إسباني.
حادث الاعتداء النادر الحدوث، والذي نسبته تقارير إعلامية لمهاجرين مغاربة، لم يكن سوى الشرارة التي أشعلت غضب أنصار اليمين المتطرف في إقليم مورسيا وفي إسبانيا عموماً، حيث شهدت بلدة توري باتشيكو توافد أنصار اليمين المتطرف من مختلف أقاليم إسبانيا، بينما انتشرت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لـ"قنص المغاربة".
من خلال هذا التقرير، سنكشف كيف أن تحركات اليمين المتطرف بدأت منذ مدة في أقاليم إسبانية، من بينها إقليم مورسيا الذي يقيم فيه نحو 90 ألف مغربي من المُجنسين أو الحاصلين على إقامة قانونية، وأن حادث الاعتداء على المُسنّ لم يكن سوى شرارة أشعلت الدعوات السرية والعلنية من أجل "إيقاف الغزو المغربي" للمدن والأحياء الإسبانية، وفق ما يروّج له اليمين المتطرف.
ما الذي حدث في بلدة توري باتشيكو؟
يشكل المغاربة 90% من بين مجموع الأجانب في بلدة توري باتشيكو البالغ عددهم نحو 12 ألف أجنبي يقيمون بطريقة قانونية، وحتى يوم الثلاثاء 8 يوليو/تموز 2025، كانت الأوضاع هادئة في البلدة التي تبعد نحو 380 كيلومتراً عن العاصمة الإسبانية مدريد، لكن هذا الوضع الهادئ تحوّل إلى "أسبوع أسود" على البلدة.
يوم الأربعاء 9 يوليو/تموز 2025، تعرّض رجل إسباني يقطن في البلدة ويبلغ من العمر 68 عاماً لاعتداء من طرف ثلاثة شبّان يُعتقد بأنهم من أصول شمال أفريقية، قبل أن تزعم وسائل إعلام محلية ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أنهم مغاربة، وتم تصوير الحادث ونشره بسرعة على وسائل التواصل، ما أثار غضباً واسعاً بين السكان.
بعد الانتشار السريع للفيديو، ظهرت دعوات عبر منصة "Telegram" ومنصات أخرى تحت مسمّى "الدفاع عن الحي" و"ملاحقة المهاجرين المغاربة"، وجذبت هذه الدعوات مجموعات يمينية متطرفة من خارج البلدة، وبعضها وصل إلى بلدة توري باتشيكو من مدن مجاورة مثل أليكانتي، وفق ما ذكرته تقارير إعلامية إسبانية.
ليلة السبت 12 يوليو/تموز 2025، بدأت المواجهات العنيفة بين أنصار اليمين المتطرف وبعض المهاجرين، وكشفت تقارير للشرطة الإسبانية أن مجموعات يمينية استخدمت الهراوات والزجاجات خلال اعتداءات طالت المهاجرين وعناصر الشرطة أيضاً، وأُضرمت نيران في حاويات النفايات.
وكانت تقارير قد كشفت عن إصابة 5 أشخاص بجروح متفاوتة الخطورة عقب الاعتداءات، بينما قالت الشرطة الإسبانية إنها أوقفت بعض المتورطين في الاعتداءات، وتم تعزيز وجود الشرطة الوطنية، الحرس المدني، ووحدات مكافحة الشغب، بما يزيد على 120 عنصراً.
بعد ذلك، قالت الشرطة الإسبانية إنه تم اعتقال ما لا يقل عن 8 أشخاص، من بينهم اثنان مرتبطان بالاعتداء الأصلي، في إشارة إلى الاعتداء على المُسنّ الإسباني، واعتقالات أخرى همّت أنصار اليمين المتطرف الإسبانيين بتهمة التحريض على الكراهية والعنف ضد المهاجرين.
وفيما أطلقت وزارة الداخلية والمدعي العام في إسبانيا المعني بجرائم الكراهية تحقيقاً رسمياً في الحادثة، وأيضاً التحقيق في التحريض العنيف على مواقع التواصل، أدان رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، العنف بوضوح، فيما دعا السفير المغربي في إسبانيا إلى ضبط النفس والوحدة.
اليمين المتطرف بدأ تحركاته قبل حادث المُسنّ الإسباني
حاولت وسائل إعلام إسبانية، خاصة المقربة من اليمين المتطرف الإسباني الذي يمثله حزب "Vox"، مثل صحيفة "OKdiario"، تحميل المهاجرين مسؤولية الأحداث العنيفة التي عاشتها بلدة توري باتشيكو، وحاولت تبرير ما أقدم عليه اليمين المتطرف من اعتداءات على المهاجرين والشرطة.
لكن "عربي بوست" توصّل إلى أن ما عاشته البلدة الإسبانية من أحداث عنف كانت مؤشرات كثيرة تؤكد على قرب حدوثه، في ظل الصعود "المخيف" لليمين المتطرف في إقليم مورسيا، وتنامي شعبية حزب "فوكس" اليميني في المنطقة خلال السنوات الماضية.
آخر المؤشرات التي سبقت اندلاع أحداث توري باتشيكو تعود إلى يوم 5 يونيو/حزيران 2025، عندما اتفق الحزب الشعبي الإسباني مع "فوكس" لدعم ميزانية المنطقة، التي تتمتع بالحكم الذاتي، لعام 2025، وهو أمر اعتُبر تحالفاً عملياً مع التيار اليميني المتطرف.
وجاء الاتفاق بين الحزب الشعبي الإسباني وحزب "فوكس" ضمن مطالب تتضمّن رفض استقبال مهاجرين جدد، وخفض الضرائب، وإغلاق مركز احتجاز القاصرين، ما يعكس مدى نفوذ حزب "فوكس" اليميني المتطرف في سياسة إقليم مورسيا.
قبل ذلك، وبالضبط في مايو/أيار 2025، أشار تقرير الأمن الوطني الإسباني إلى تزايد "التطرف اليميني" بالمنطقة، محذّراً من احتمال تحوّله إلى أعمال عنف أو تهديدات إرهابية، مدعوماً بنفوذ تيارات يمينية متطرفة مثل حزب "فوكس" على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي مارس/آذار 2025، نظّمت "شباب بوديموس" مظاهرة فنية رمزية في قادس ومورسيا، للتنديد بارتفاع النشاط اليميني المتطرف، وعرضوا دمى تمثّل بينغ، ماسك، وأباسكال لتعزيز توجههم المناهض لفكر اليمين المتطرف.

صعود اليمين المتطرف في إقليم مورسيا بدأ منذ سنوات، إذ إنه في مايو/أيار 2023، تمكّن "فوكس" من تحقيق قفزة تاريخية بحصوله على 9 مقاعد في برلمان مورسيا بعد أن كان يملك فقط 4 مقاعد، بعدما جمعوا 17.7% من الأصوات، وهو ما اعتُبر مؤشراً على تغلغل الفكر اليميني المتطرف في الإقليم.
وخلال الأحداث الأخيرة التي شهدتها بلدة توري باتشيكو، برز اسم خوسيه أنخيل أنتيلو، زعيم حزب "فوكس" في إقليم مورسيا، حيث يحقق المدعي العام في الإقليم في تصريحاته التي ربط فيها بين الهجرة وتنامي الإجرام في الخطب، والظهور الإعلامي، والمنشورات على منصة "إكس".
هؤلاء متهمون بتفجير الوضع في توري باتشيكو
تزامناً مع الأحداث التي شهدتها البلدة الإسبانية، انتشرت دعوات على منصة "تلغرام"، وبالضبط في قناة تحمل اسم "Deport Them Now UE"، لملاحقة وطرد المهاجرين من أصول مغاربية في توري باتشيكو، وهي القناة التي تم إيقاف أحد قادتها الإثنين 14 يوليو/تموز 2025، الذي كان يعمل حارساً خاصاً.
صحيفة "El Pais" الإسبانية الواسعة الانتشار قالت إن هذا المنصب الذي يشغله المتهم، البالغ 29 عاماً، كان يمكّنه من التقدّم للحصول على ترخيص أسلحة من النوع C، الذي يسمح بحيازة مسدّس، واجتاز عام 2021 اختبارات العمل كحارس أمن، رغم أنه لا يُسجّل ضمن قائمة موظفي أي شركة في القطاع.
وفي عام 2023، حاول المتّهم، الذي تُنسب إليه حالياً جريمة كراهية من قِبل الحرس المدني، التوظيف ضمن الهيئة العاملة بالسجن "ماس دينريك" في منطقة تاراغونا، المُنظَّم من طرف حكومة كاتالونيا، لكنه لم يتجاوز المقابلة الشخصية.
التحقيقات التي باشرتها الشرطة الإسبانية كشفت أن منصة "Deport Them Now UE" على تلغرام هي حركة حديثة نسبياً ظهرت علناً في مارس/آذار 2025، عندما أعربت عن دعمها للتجمع "ضد الإسلام" الذي نُظّم بتيراسا في إقليم برشلونة من قبل حزب "فوكس".
وبعد عدة أيام، نُظّمت بمشاركة الحزب نفسه مظاهرة للمطالبة بإغلاق مركز الاستقبال الأولي للمهاجرين بحي "سان جيرفاسي" في برشلونة.
الصحيفة الإسبانية أوضحت في تقرير نشرته الأربعاء 16 يوليو/تموز أن المنصة ذات "هيكلة هرمية فضفاضة" وبدون بنية معروفة، وقد ركزت نشاطها حتى الآن على شبكات التواصل ومجموعات تطبيق "تلغرام"، بعضها وصل عدد متابعيه إلى 15,000، وهي منصة تظهر وتختفي بشكل متكرر.
وعبر هذه القنوات، أصدرت المنصة يوم الأحد 13 يوليو/تموز بياناً تحدّثت فيه عن تنظيم "دوريات لملاحقة المغاربيين المجرمين" في بلدة مورثية أيام 15 و16 و17 يوليو/تموز 2025، وهو أمر لم يحدث سابقاً في إسبانيا.
وبفضل رسائلها ذات الطابع العرقي المتطرّف، نجحت المنصة في استقطاب الاحتجاجات الأخيرة وجذب أعضاء من منظمات متطرفة أخرى معروفة أكثر، مثل "Núcleo Nacional"، تلك المجموعة ذات النزعة المعادية للأجانب.
فقد نشرت مجموعة "Núcleo Nacional" ربيع عام 2025 فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي تدعو فيه إلى "دفاع فعّال" في الشوارع و"نضال مشترك" ضد ما وصفته بـ"غزو" الأجانب، ما أثار حينها مخاوف وزارة الداخلية، وأدى إلى فتح تحقيق لا يزال جارياً.

وعبر رسائلها الأخيرة، نجحت مجموعة "Deport Them Now UE" أيضاً في جذب أعضاء من جماعات متطرفة مرتبطة بكرة القدم، وتوافد بعضهم إلى بلدية مورسيا تنفيذاً لتعليمات المنصة.
وأكدت وزارة الداخلية الإسبانية أن شرطة ماتارو، بالقرب من برشلونة، اعتقلت زعيماً لم تُفصح عن هويته ينتمي إلى حركة "رحلوهم الآن – أوروبا" العنصرية، للاشتباه في تحريضه على الكراهية، وصادرت جهازَي كمبيوتر كانا بحوزته.
هل تنجح دعوات التهدئة في إيقاف الفوضى؟
بعد أربعة أيام من المواجهات العنيفة بين أنصار اليمين المتطرف ومهاجرين من بلدان شمال إفريقيا في توري باتشيكو، حثّ زعماء الجالية المغربية في البلدة الإسبانية على التزام التهدئة، لوضع حد لأكثر الاضطرابات حدة عرفتها إسبانيا خلال الفترة الأخيرة.
في المقابل، أفاد متحدث باسم الحكومة الإقليمية التابعة لمورسيا بأن مجموعات يمينية متطرفة دعت إلى مظاهرات مناهضة للمهاجرين الثلاثاء 15 يوليو/تموز، ما دفع السلطات إلى نشر أكثر من 120 عنصراً من الحرس المدني بهدف حفظ النظام العام.
وبعدما انتشرت دعوات معادية للأجانب عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحضّ على "مطاردة" ذوي الأصول شمال الإفريقية، وجّه قادة الجالية المغربية نداء للهدوء، مطالبين الشباب بالبقاء في منازلهم، خاصة بعد أن شهد مطلع الأسبوع ويوم الإثنين خروج العشرات إلى الشوارع ووقوع اشتباكات مع اليمين المتطرف والشرطة.
وأوضح أحد ممثلي الجالية المغربية، الذي يقيم في البلدة منذ ربع قرن، للصحافيين: "نرغب في السلام… لا نقبل بالمجرمين. لا نريد عنفاً أو غرباء يسعون لإثارة المشاكل هنا"، وفق ما ذكرته وكالة رويترز للأنباء الأربعاء 16 يوليو/تموز 2025.
بينما أعلن المدعي العام الأعلى لجرائم الكراهية في إسبانيا، ميغيل أنخيل أجيلار، خلال حديثه لإذاعة "إس.إي.آر" الثلاثاء 15 يوليو/تموز، أن مكتبه فتح تحقيقاً في أحداث توري باتشيكو، إلى جانب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تحرّض ضد المهاجرين.
وأشار كذلك إلى أن الادعاء العام في المنطقة يدرس التصريحات الصادرة عن خوسيه أنخيل أنتيلو، زعيم حزب "فوكس" اليميني المتطرف في مورسيا، والمتهم من الحزب الاشتراكي الحاكم بربط الهجرة بالإجرام في خطاباته وظهوره الإعلامي ومنشوراته على منصة "إكس".