عناصر الأمن الفلسطيني بين التنسيق الأمني والمقاومة.. تصاعد العمليات الفردية يربك إسرائيل ويحرج السلطة

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/13 الساعة 22:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/13 الساعة 22:29 بتوقيت غرينتش
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس - عربي بوست

من جديد، نفّذ قبل أيام محمود عابد ومالك سالم، العنصران في أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، عملية فدائية تضمنت إطلاق نار وطعن ضد جنود الاحتلال في الضفة الغربية، وأسفرت عن مقتل أحدهم في مستوطنة "غوش عتصيون"، ما أثار غضب الاحتلال.

وطالبت سلطات الاحتلال السلطة الفلسطينية بفتح تحقيق لمعرفة حيثيات الهجوم، وما إذا كان المنفذان قد تصرفا بشكل فردي أم أنهما مرتبطان بفصائل المقاومة. يُشار إلى أنها ليست المرة الأولى التي ينفّذ فيها منتسبون لأجهزة أمن السلطة عمليات مقاومة، فالقائمة طويلة، منذ سنوات، رغم التزام السلطة بتنسيق أمني صارم مع الاحتلال لملاحقة عناصر المقاومة وكبح هجماتها ومنع تنفيذها.

شرطة في النهار.. فدائيون في الليل

استغل الاحتلال هذه العملية لشن حملة تحريض ضد السلطة الفلسطينية، متّهماً إياها بتشجيع مثل هذه العمليات رغم استمرار التنسيق الأمني. وأفادت حركة "ريغافيم" الاستيطانية بأن 78 عنصراً على الأقل من أجهزة أمن السلطة شاركوا في هجمات فدائية منذ عام 2020، مشيرة إلى أن هؤلاء ليسوا مجرد متعاطفين مع فصائل المقاومة، بل يعملون بدوام كامل في الأجهزة الأمنية، ما يعني أن عنصراً أمنياً واحداً على الأقل ينفّذ، في المتوسط، عملية فدائية كل أسبوعين، تسفر عن مقتل جنود أو مستوطنين في الضفة، ووصفتهم الحركة بـ"الشرطة في النهار، الفدائيين في الليل".

ويمكن ربط تصاعد هذه العمليات بحالة التأييد الواسعة التي حظي بها هجوم "طوفان الأقصى" الذي نفذته حماس في 7 أكتوبر 2023 على مستوطنات غلاف غزة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن 82% من فلسطينيي الضفة الغربية، ومن بينهم أفراد من الأجهزة الأمنية، يرون أن قرار تنفيذ الهجوم كان صائباً.

مأزق السلطة.. وواقع الضفة

سياسياً، تُلحق هذه الهجمات ضرراً بالسلطة الفلسطينية وقادتها، عند التأكد من أن منفّذيها هم أعضاء في أجهزتها الأمنية، في ظل ما تعكسه من حجم التأييد الشعبي الكبير لحماس في الضفة، وما تبثّه الحركة من دعوات تحريضية علنية لتنفيذ عمليات فدائية، وتوزيعها لملصقات ومنشورات تتضمن تعليمات مفصلة لكيفية تنفيذ هجمات.

وتصل هذه الدعوات إلى أفراد الأجهزة الأمنية أنفسهم، رغم إرادة قيادتهم السياسية والأمنية التي تسعى إلى منعهم من الانخراط فيها.

ومن الحوادث الأخيرة التي تُظهر موقف السلطة الرافض لانخراط عناصرها في العمل المسلح، محاولة أجهزتها الأمنية في طولكرم قبل أيام اعتقال ناشط بارز في حركة الجهاد الإسلامي، لكنه تمكن من الفرار. كما منعت قوات الأمن الفلسطينية مجموعة من المسلحين من دخول "قبر يوسف" في نابلس، الذي يعتبره المستوطنون مكاناً مقدساً، وتقوم الأجهزة الأمنية بحراسته. في حادثة أخرى، تبادل أفراد من أجهزة الأمن إطلاق النار مع مسلحين خلال جنازة مقاوم من جنين قتلته إسرائيل.

ردود فعل إسرائيلية غاضبة

ما تزال التقييمات الإسرائيلية للعمليات التي ينفذها عناصر الأمن الفلسطيني تُصنّفها على أنها هجمات فردية تقع ضمن إطار ما يُعرف بـ"الذئاب المنفردة"، وليست ظاهرة منظمة واسعة النطاق، رغم تصاعد المخاوف من توسعها، واستفادة فصائل المقاومة من هذه العناصر لتجنيدها في صفوفها، نظرًا لسهولة وصولهم إلى الأسلحة والوسائل القتالية، الأمر الذي يثير قلق الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية من تكرار هذه الهجمات وفق مبدأ "المحاكاة"، ما قد يقود إلى تصعيد خطير في طبيعة العمليات المقبلة.

وقد أدى تنامي انخراط أفراد من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في عمليات المقاومة إلى صدور ردود فعل غاضبة في الأوساط الإسرائيلية، يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

  • آفي ديختر، عضو الكنيست عن حزب الليكود ووزير الأمن الداخلي ورئيس جهاز الشاباك الأسبق، زعم أن "إسرائيل لا يمكن أن تستمر في التغاضي عن عجز السلطة الفلسطينية في مواجهة العمليات الفدائية، لأنها تستغل حقيقة أن بقاءها يخدم مصلحة الاحتلال، ولذلك تتقاعس عن التحرك المنفرد ضد المنظمات المسلحة". وطالب بموقف أكثر حزمًا تجاهها.
  • يارون روزنثال، رئيس مجلس مستوطنة "غوش عتصيون"، هاجم قوات الأمن الفلسطينية، قائلاً: "في اليوم الذي يستطيعون فيه، سيقتلوننا. اليوم لديهم مصلحة بذلك". وحذّر من الثقة بالفلسطينيين، معتبراً أن تعاون أجهزتهم الأمنية مع إسرائيل نابع من كراهيتهم لحماس، وليس حباً بالصهيونية.
  • مائير دويتش، المدير التنفيذي لحركة "ريغافيم"، اعتبر أن "هذه المعطيات تكشف زيف الادعاء بأن السلطة الفلسطينية عنصر استقرار"، وهاجم المسؤولين الإسرائيليين الذين يرون فيها جهة معتدلة. وأضاف أن من يعتقد ذلك "شارك في وهم مشابه سبق هجوم 7 أكتوبر"، حين باغتت حماس إسرائيل بـ"طوفان الأقصى".

نماذج مشرّفة وسجل بطولي حافل

رغم التنسيق الأمني الذي تلتزم به السلطة الفلسطينية مع الاحتلال، شهدت السنوات الأخيرة سلسلة من العمليات الفدائية نفذها عناصر من الأجهزة الأمنية، في تحدٍّ مباشر لتعليمات قيادتهم، وتعبيرًا عن انتمائهم الوطني وتأييدهم للمقاومة، وسط ترحيب شعبي واسع واعتبارهم نماذج مشرّفة، ما يؤكد فشل مشروع "الفلسطيني الجديد" الذي سعت الولايات المتحدة إلى هندسته عبر السلطة.

فيما يلي رصد لأبرز تلك العمليات:

منذ انتفاضة الأقصى (2001-2004):

  • شرطي فلسطيني يفتح النار على حافلة قرب مستوطنة "كرمي تسور".
  • ضابط في الاستخبارات العسكرية يهاجم حاجز الجلمة، ويقتل نائب قائد دورية "الناحال".

عام 2011:

  • سعود التيتي يهاجم موقعًا عسكريًا، ويستشهد.
  • أشرف الشيخ إبراهيم، ضابط في المخابرات، يُستشهد في اشتباك بجنين.
  • سلسلة هجمات نفذها ضباط من الأمن الوطني والدفاع المدني، بينها تفجير سيارة مفخخة قرب "غوش عتصيون".

2012–2016:

  • إطلاق نار، ودهس، وطعن ضد جنود ومستوطنين، أبرزها عملية زراعة عبوة ناسفة في "بات يام" عام 2013، وهجوم على "مايان دوليف" عام 2015، واشتباك عند مستوطنة "بيت إيل" في 2016.

منذ عام 2019 وحتى 2025:

  • اشتباك داود الزبيدي، ضابط الأمن الوقائي، مع الجيش.
  • دعم زياد الرزاينة، شرطي الجمارك، لمقاومين نفذوا هجوم حوارة.
  • عملية استشهاد الضابطين علوي وعيسى عام 2021.
  • ضياء حمارشة، ضابط الأمن الوقائي، يقتل 5 مستوطنين في بني براك.
  • نجل الضابط فتحي حازم ينفذ عملية تل أبيب عام 2022.
  • تصاعد واضح في 2023–2025، مع تنفيذ عدة عمليات بإطلاق النار ضد جنود ومستوطنين، وارتقاء منفذيها، بينهم ضباط من الأمن الوطني والحرس الرئاسي والمخابرات.

الانخراط في كتائب المقاومة

رصدت أجهزة الأمن الإسرائيلية ظاهرة متزايدة لانضمام عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى فصائل المقاومة، مثل كتيبة جنين وعرين الأسود، فضلًا عن كتائب شهداء الأقصى، الجناح المسلح لحركة فتح، التي يفترض أنها حُلّت بقرار من الرئيس محمود عباس، وتم دمج أعضائها في أجهزة الأمن.

تثير هذه الظاهرة تساؤلات إسرائيلية متكررة حول جدوى تسليح السلطة الفلسطينية، إذ تمر جميع الأسلحة عبر موافقة الاحتلال، الذي يعرف أرقامها وسجلات مستخدميها، لكن هذه الأسلحة قد تقع في أيدي المقاومة أو تُستخدم من قِبل عناصر تنقلب قناعاتهم فجأة.

ورغم ذلك، تواصل بعض الأوساط الأمنية الإسرائيلية الدفاع عن تسليح أجهزة السلطة، بزعم أنها تستخدمها في اعتقال المقاومين وحماية أمن المستوطنين، رغم الإدراك الكامل لإمكانية تحول هؤلاء العناصر إلى مقاومين.

تأثير حرب غزة وتنامي شعبية حماس

تُظهر التحقيقات أن بعض الهجمات التي ينفذها عناصر من الأمن الفلسطيني تأتي كردود فعل شخصية، مثل استشهاد قريب أو تأثر بالعدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، خاصة بعد مجازر حرب "طوفان الأقصى"، وانتشار صور الشهداء والدمار على وسائل التواصل.

رغم ذلك، تُلزم الاتفاقيات السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، بما يشمل تسليم مطلوبين وإنقاذ مستوطنين ضلّوا طريقهم، بل وتُنذر الجيش مسبقًا قبل اقتحام المدن، ما يعرّضها لحرج شعبي بالغ.

تحاول فصائل المقاومة تقويض هذا التعاون، وتسعى لإعادة سيناريو "إطلاق النار العكسي"، كما حدث في انتفاضة النفق 1996، وانتفاضة الأقصى، حين تحول سلاح الأجهزة إلى صدور الجنود الإسرائيليين.

ورغم أن عناصر المقاومة المنحدرين من الأجهزة الأمنية ما زالوا يشكلون نسبة صغيرة من إجمالي 30–40 ألف عنصر أمني، إلا أن تأثيرهم المعنوي والرمزي كبير، لا سيما مع تزايد الاعتقالات التي تنفذها السلطة ضد نشطاء المقاومة، وملاحقتها للمظاهرات المؤيدة لغزة، ومنعها لرايات حماس.

الخطاب الرسمي المرتبك

في كل مرة ينفذ عنصر أمني عملية ضد الاحتلال، تسارع السلطة إلى إبلاغ إسرائيل بأنه تصرف فردي لا علاقة له بالتنظيمات، وتتعامل معه بخطاب باهت أو تنكري، دون تبنٍّ رسمي أو حتى نعي واضح. وغالبًا ما تصف المنفذين بعبارات فضفاضة، بل وتشير أحيانًا إلى شكوك حول دوافعهم أو انتماءاتهم.

هذا التناقض يكشف ارتباكًا سياسيًا حادًا لدى السلطة، ويعرّي انفصامًا واضحًا بين قيادتها وقاعدتها الأمنية، إذ يبدو أن عناصر الأجهزة أنفسهم لم يعودوا يؤمنون بخطاب قيادتهم، ولا يثقون بجدوى التنسيق الأمني، وهو ما يشكل تهديدًا استراتيجيًا مستقبليًا لكل من السلطة والاحتلال على حدٍّ سواء.

تحميل المزيد