تقترب الساعة الصفر لزيارة الموفد الأميركي الخاص إلى لبنان، توماس باراك، والمقرّرة بداية الأسبوع المقبل، في مهمة يُنظر إليها باعتبارها لحظة مفصلية في مسار الصراع الدائر حول مستقبل سلاح حزب الله، والتموضع الإقليمي للبنان بعد سلسلة من التحوّلات الإقليمية الكبرى.
وكان من المفترض أن يتسلّم باراك الجواب اللبناني الرسمي على المقترحات التي حملها في زيارته الأخيرة لبيروت في 19 يونيو/حزيران 2025، والتي منحت لبنان مهلة أسبوعين لتقديم الرد، قابلة للتمديد التقني.
إلا أن الجواب تأخر، بسبب اعتبارات داخلية، بعضها سياسي، وبعضها يرتبط بالرهانات على تطورات الحرب الإسرائيلية – الإيرانية التي كانت دائرة حينذاك، وانتهت على نحو غير حاسم، ما أتاح للبنان أن يعود مجدداً إلى دائرة الضوء الأميركي – الإسرائيلي، مع تنامي الضغوط لتقديم موقف نهائي من الورقة الأميركية، التي لا تقلّ عن كونها خارطة طريق لنزع سلاح حزب الله، وتكريس تسوية شاملة، عنوانها: إنهاء مرحلة "المقاومة"، والدخول في حقبة جديدة من "السلام المفروض".
المرحلة الجديدة.. ما بعد الحروب ومشروع إسقاط منطق المقاومة
كشفت مصادر حكومية لبنانية لـ"عربي بوست" أنه حين حطّ الموفد الأميركي الخاص إلى لبنان في بيروت، كانت أجواء الحرب تسيطر على المنطقة، إلا أنه اختار أن يوجّه رسالة واضحة إلى اللبنانيين: "تصرفوا على أساس أن الحرب ستنتهي قريباً، ولا تسمحوا بأن تُستدرجوا إليها".
وكان المبعوث الأميركي يحمل بين سطوره أكثر من رسالة: أولها أن الحرب الإسرائيلية – الإيرانية لا تعني سقوط النظام الإيراني، وثانيها أن لحظة التسويات تقترب، وأن على لبنان أن يحدّد موقعه فيها.
ووفقاً للمصدر، فإن هذه الرسائل تتقاطع مع رغبة إدارة الرئيس دونالد ترامب في إعادة إحياء مشروع "السلام الإبراهيمي"، ولكن هذه المرة من بوابة فرض التسويات على الأطراف الخارجة عن هذا المسار. وتريد واشنطن أن تفتح صفحة جديدة في المنطقة، عنوانها "الاستقرار مقابل تفكيك سلاح حزب الله"، لا مع احتمال أن يشهد ملف الجولان تطورات متسارعة في المرحلة المقبلة.
ورقة باراك: ثلاثية نزع السلاح، الإصلاحات، والحدود مع سوريا
ووفقاً للمصدر، فإن الورقة التي حملها باراك إلى بيروت تتضمن ثلاثة عناوين مركزية:
أولاً: نزع السلاح خلال ستة أشهر، ويتضمن هذا المحور مطلباً مباشراً بسحب سلاح حزب الله، والفصائل المسلحة اللبنانية والفلسطينية، خلال مهلة أقصاها نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2025، على أن يترافق ذلك مع تقديم لبنان آلية تنفيذية مفصلة.
ويقترح الأميركيون اعتماد مبدأ "الخطوة مقابل خطوة"، أي أن يبدأ السحب التدريجي للسلاح من مناطق شمال الليطاني، مقابل قيام الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل للانسحاب من بعض النقاط الحدودية المحتلة. إلا أن المبعوث الأميركي أبلغ الجانب اللبناني أن الضغط على إسرائيل لن يبدأ إلا بعد رؤية خطوات عملية على الأرض من قبل الجانب اللبناني.
في المقابل، فإن لبنان الذي عمل على تشكيل لجنة ثلاثية تمثل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب، يجري تعديلات على هذا التصور، بحيث يشدّد على مبدأ "التزامن"، لا التسلسل، ويطالب بانسحاب إسرائيلي متدرج ومتزامن مع تسليم النقاط الأمنية من قبل حزب الله للجيش اللبناني، وصولاً إلى سحب السلاح الكامل.
ويتضمن هذا المحور أيضاً ربط نزع السلاح بإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وتوفير تمويل دولي لإعادة الإعمار، خصوصاً في المناطق الجنوبية المتضررة.
ثانياً: الإصلاحات الاقتصادية والمالية، تشدّد الورقة على ضرورة مكافحة اقتصاد الظل، والحد من الاعتماد على النقد (الكاش) في التداول، في إطار سعي أميركي إلى ضرب البنية المالية التي يعتمدها حزب الله. وتطالب بإغلاق كل المنصات المالية التابعة له، وعلى رأسها جمعية القرض الحسن، وتشديد الرقابة على التحويلات المالية، وضبط المعابر، والحدود البرية والبحرية والمرافئ.
كما تُصرّ الإدارة الأميركية على إدخال إصلاحات جمركية وضريبية واسعة، وتعزيز فعالية الجباية العامة، كشرط أساسي للإفراج عن أي دعم مالي أو استثماري.
ثالثاً: العلاقة مع سوريا وترسيم الحدود، يؤكد المصدر لـ"عربي بوست" أن الأميركيين يطلبون من لبنان أن يسلك مساراً موازياً لسوريا في الانفتاح على التسويات الإقليمية، وأن يطوّر العلاقة السياسية مع دمشق في ملفات الأمن الحدودي، وضبط التهريب، والتعاون التجاري، ومكافحة المخدرات.
وتُركّز الورقة بشكل خاص على ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا وقبرص، وحسم الوضع القانوني لمزارع شبعا التي تعتبرها واشنطن وتل أبيب "أراضي سورية"، وتطالب بأن يتخلى لبنان عنها كمبرّر لاستمرار المقاومة.
حزب الله: لا تنازل تحت الضغط… والضمانات قبل النقاش
لا يبدو موقف حزب الله ملتبساً حيال هذه الورقة، فقيادته تعتبر أنها تمثّل محاولة أميركية – إسرائيلية لإخضاع الحزب وشطب دوره من المعادلة اللبنانية والإقليمية.
ووفق مصادر مقرّبة من رئاسة مجلس النواب لـ"عربي بوست"، فإن حزب الله سلّم لرئيس مجلس النواب نبيه بري الورقة الأميركية التي قدمها المبعوث الأميركي توماس باراك. ويتضمن الرد تأكيداً من الحزب على التزامه الكامل بتنفيذ قرار وقف إطلاق النار وفقاً لمندرجاته الحالية، من دون الحاجة إلى أي اتفاق جديد، شرط أن يلتزم الجانب الإسرائيلي بتطبيق هذا القرار بالكامل.
كما أبدى حزب الله، بحسب المصدر، ضمن رده، انفتاحاً مشروطاً على مناقشة ملف سلاحه، إنما فقط ضمن إطار حوار داخلي لبناني، أو عبر استراتيجية دفاعية وطنية وأمن قومي، واستعداده للمشاركة في نقاش حول هذا الملف.
واعتبر الحزب في نقاشاته السياسية مع الأطراف والحكومة أن الطروحات الأميركية تمثّل "خريطة استسلام"، تسعى إلى فرض تفكيك البنية العسكرية والأمنية للحزب، مقابل وعود غير مضمونة، وهو يعتبر أن أي تفكيك أحادي لسلاحه سيقود لاحقاً إلى عزله سياسياً وشيطنته إعلامياً، فضلاً عن استهداف بيئته وحلفائه.
ورغم ذلك، لا يغلق الحزب الباب أمام الحوار، لكنه يضع جملة شروط مسبقة، منها:
انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة، وتحديداً التلال الخمس التي يحتلها الجانب الإسرائيلي في منطقة جنوب نهر الليطاني، وتقديم ضمانات دولية مكتوبة، ووقف كل أشكال الضربات الجوية والاختراق الأمني الإسرائيلي، إضافة إلى التوافق الداخلي اللبناني على استراتيجية دفاعية جديدة، لا تلغي عناصر القوة بل تعيد تنظيمها.
بين حزب الله والدولة: مأزق الخيارات اللبنانية
فيما تبدو الدولة اللبنانية واقعة تحت ضغط متزايد من جهتين:
- الضغوط الدولية التي تطالب بتنفيذ التزامات واضحة بشأن نزع السلاح والإصلاحات،
- والواقع الداخلي الذي تفرضه قوة حزب الله ونفوذه، الذي لا يمكن تجاوزه من دون التسبب بخلل كبير في التوازنات.
يشير المحلل السياسي اللبناني إبراهيم ريحان إلى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري يقود مفاوضات دقيقة مع كل الأطراف، ويحاول تسويق صيغة "الضمانات مقابل حصرية السلاح بيد الدولة"، وعرض على الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان أن تكون المملكة شريكة في ضمان تنفيذ الاتفاق، ومراقبة وقف إطلاق النار، وتأمين حوافز لإعادة الإعمار.
لكن، وحتى اليوم، لم تُحسم صيغة الرد النهائي. فما يجري هو محاولة للمواءمة بين مطالب الورقة الأميركية، وتموضع حزب الله، من دون خلق قطيعة مع أي من الطرفين.
وبحسب ريحان، فإنه كان من المفترض أن تُعتمد خطة واضحة المعالم لسحب سلاح حزب الله خلال مهلة زمنية محددة، تبدأ بإعداد آلية تنفيذية من هنا وحتى نهاية العام الحالي، على أن يُستكمل التنفيذ الكامل خلال عام واحد، بما يضمن نزع السلاح من كافة الأراضي اللبنانية دون استثناء.
وفي المقابل، فإن ما طُرح – وفق ريحان – مقترحات بديلة تقضي باعتماد مسار متدرج "خطوة مقابل خطوة"، يبدأ بتطبيق سحب السلاح من مناطق محددة جغرافياً كمرحلة أولى، وتحديداً من المنطقة الممتدة بين شمال نهر الليطاني ونهر الأولي، إضافة إلى مناطق في البقاع الأوسط والغربي، على أن تستكمل العملية لاحقاً في بيروت وضواحيها ضمن المرحلة الثانية.
لكن على الرغم من بلورة هذه الطروحات ضمن الورقة الأميركية، فإن أي خطوات عملية تبقى معلّقة حتى استكمال زيارة الموفد الأميركي توم باراك إلى بيروت، وصدور الموقف الأميركي النهائي إزاء الرد اللبناني، وخصوصاً موقف حزب الله الذي أبدى رفضاً واضحاً لفكرة التسليم التدريجي أو الكامل للسلاح خارج إطار تفاهم لبناني داخلي.
سيناريوهات متوقعة
بالمقابل، يعتقد الباحث اللبناني ربيع دندشلي أن الرد اللبناني قد يتحول إلى محطة تفجير، في حال اعتبرته الولايات المتحدة أو إسرائيل مراوغة أو مماطلة. وستُطرح سيناريوهات مختلفة، منها:
- التصعيد العسكري المحدود بهدف الضغط على الحزب،
- التفاوض الأميركي مع الحزب بهدف الوصول إلى اتفاق مرضي،
- فرض عزلة على لبنان ووقف المساعدات، وربطها بتنفيذ الخطة الأميركية.
ويشير دندشلي إلى أن هناك وسطاء يعملون على الخط كمصر وقطر لإبقاء الباب مفتوحاً للتسوية، عبر تجميد السلاح مقابل ضمانات، وتمديد المهلة الزمنية، على أمل إنتاج حل لا يُفجّر الداخل اللبناني.
والرد اللبناني يُفترض أن يصدر خلال اجتماع اللجنة الرئاسية في القصر الرئاسي خلال الساعات المقبلة، وخاصة أن النقاش بلغ مراحله النهائية، وسط تفاؤل لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري بإمكان الوصول إلى صيغة مشتركة.