أثار القرار القضائي بتبرئة السياسي السُني البارز ورئيس مجلس النواب العراقي السابق، محمد الحلبوسي، جدلاً واسعاً في العراق، وزادت التكهنات حول إمكانية عودته لرئاسة البرلمان الحالي الذي يترأسه السياسي السُني المخضرم محمود المشهداني بعد عام من فراغ المنصب.
في نهاية عام 2023، قدّم ليث الدليمي النائب السابق عن كتلة تقدم التي يتزعمها محمد الحلبوسي دعوى قضائية ضد الرئيس السابق للبرلمان العراقي، يتهمه فيها بتزوير توقيعه على استقالته من البرلمان العراقي، ما تسبب في أزمة سياسية بالبلاد.
وأصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق حينها قراراً بإقالة محمد الحلبوسي من عضوية البرلمان، وبعدها ظهر رئيس "كتلة تقدم" وهو يقرأ بيان المحكمة الاتحادية العليا خلال ترؤسه إحدى جلسات البرلمان ثم انصرف غاضباً.
"شيعة العراق" وراء عودة محمد الحلبوسي
محمد الحلبوسي، الذي ترأس البرلمان العراقي في عام 2018 كأصغر سياسي سُني يتولى هذا المنصب المخصص للطائفة السُنية ضمن نظام المحاصصة المعمول به في العراق بعد عام 2003، كاد أن يخسر مستقبله السياسي بسبب الإطار التنسيقي الشيعي، لكن هذا الأخير أعاده مرة أخرى إلى الحياة السياسية، وأعطاه فرصة ثانية للاستحواذ على المشهد السياسي السُني العراقي.
في هذا الصدد، يقول قيادي في الإطار التنسيقي الشيعي، وهو مظلة جامعة للأحزاب الشيعية العراقية ومقربة من إيران، لـ"عربي بوست": "عودة الحلبوسي جاءت بقرار من قادة الإطار التنسيقي، فبعد أن كانوا غاضبين منه بشدة بسبب الانتخابات السابقة، رأوا الآن أن إعادته للمشهد السياسي تحمل العديد من الفوائد للأحزاب الشيعية قبل الانتخابات القادمة".
تجدر الإشارة إلى أن الحلبوسي دخل في تحالف مع مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، بعد نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2021، لتشكيل حكومة أغلبية وطنية كما أطلق عليها مقتدى الصدر، وقد اعتبر قادة الإطار التنسيقي الشيعي أن هذا التحالف يهدد إقصاءهم من الحكومة الجديدة.
ولكن ما الفوائد التي رآها قادة الإطار التنسيقي الشيعي في إعادة محمد الحلبوسي إلى المشهد السياسي العراقي؟
إدراك القوة الاجتماعية والسياسية للحلبوسي
كشفت مصادر داخل الإطار الشيعي لـ"عربي بوست" أن القادة الشيعة العراقيين منذ أشهر يعملون على إعادة ترتيب أوراقهم وحساباتهم السياسية، خاصة في خضم ما حدث ويحدث في المنطقة منذ طوفان الأقصى وسقوط بشار الأسد في سوريا.
وبعد أن قررت القوى السياسية الشيعية معاقبة محمد الحلبوسي على تحالفه مع مقتدى الصدر ومسعود بارزاني، أدركت مدى قوة الحلبوسي السياسية والاجتماعية وقررت الاستفادة منها، ما دام السياسي السُني الطموح والمتطلع للقيادة تحت طوع الإطار التنسيقي الشيعي.
ويوضح قيادي سياسي شيعي من الإطار التنسيقي لـ"عربي بوست" قائلاً: "منذ احتجاجات تشرين، والإطار التنسيقي يرى تنامي النفوذ السياسي للحلبوسي وقدرته على التأثير في الأحداث الكبيرة في العراق".
جدير بالذكر أن في أكتوبر/تشرين الأول 2019، اجتاح العراق حركة احتجاجية شبابية هائلة أطلق عليها اسم "حركة تشرين"، خرج الآلاف من الشباب العراقيين وأغلبهم من الشيعة للاحتجاج على فساد النخب السياسية وسوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية في بلادهم.
وقد أيد الحلبوسي حينها حركة الاحتجاج الشابة بطريقة مباشرة وغير مباشرة أحياناً، وحاول جذب الأصوات السياسية المستقلة المنبثقة من الحركة والتي خاضت تجربة الانتخابات البرلمانية في عام 2021.
يضيف مصدر "عربي بوست" قائلاً: "لم يتوقف خطر الحلبوسي على محاولته دعم احتجاجات تشرين، بل بدأ قادة الإطار في النظر إلى طموحات الحلبوسي بعد ذلك بنظرة مختلفة، خاصة بعد النجاحات التي حققها في محافظة الأنبار، ومشاريع إعادة الإعمار، وعلاقاته الواسعة بقوى إقليمية ودولية".
ولكن سياسياً شيعياً ثانٍ أشار إلى عامل آخر مهم ضمن العوامل التي دفعت القوى السياسية الشيعية لإدراك قوة الحلبوسي وحجم نفوذه، فيقول لـ"عربي بوست": "الحلبوسي ليس فقط قصة نجاح سياسية، ولكنه أيضاً نجح في إحراج الأحزاب الشيعية التي لم تقم بتطوير المحافظات الشيعية ولا تحسين الخدمات لأبناء الشيعة، واكتفت فقط بشراء أصواتهم عن طريق التوظيف في الحكومة".

وأضاف المتحدث أن الحلبوسي، وعلى الرغم من شراسته ضد معارضيه في محافظة الأنبار، إلا أنه أعاد إحياء الأنبار من العدم، وقدم العديد لأبناء منطقته، وهذا لا يخفى على أحد، فبدأ الشيعة يقارنون حالهم بحال الأنبار، ويصبون غضبهم على الأحزاب الشيعية.
وبحسب المصدر، بمقارنة أبناء الطائفة الشيعية للخدمات والتطوير، فإن تحركات محمد الحلبوسي لم تنحصر فقط على المحافظات السُنية أو محافظة الأنبار، بل امتدت إلى إقليم كردستان العراق.
من جهته، قال مسؤول حكومي شيعي لـ"عربي بوست": "إن الأنبار أصبحت نموذجاً ناجحاً لإعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية، صحيح ليس بالشكل المثالي الكامل، ولكن على الأقل أصبحت أفضل بكثير من محافظات شيعية عديدة، والناس يقارنون، وقادة الشيعة شعروا بالخطر جراء هذه المقارنات".
ومن العوامل التي ساهمت أيضاً في إعادة تشكيل وجهة نظر قادة الإطار التنسيقي باتجاه الحلبوسي، هو قوته السياسية، فقد حصد حزب تقدم 37 مقعداً في انتخابات عام 2021، وهو أكبر عدد مقاعد يحصل عليه المكون السُني في الانتخابات البرلمانية العراقية.
الاستفادة من الحلبوسي في الانتخابات المقبلة
ترى الأحزاب الشيعية أن إعادة الحلبوسي إلى أحضان الإطار التنسيقي ستكون مفيدة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، لإغلاق المجال أمام الحلبوسي لإقامة أي تحالفات أخرى مع منافسي الإطار التنسيقي، وبالتحديد رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، الذي أعلن خوضه الانتخابات المقبلة.
وفي إقصاء وإعادة محمد الحلبوسي، كان للإطار التنسيقي الشيعي مصلحة أخرى يتطلع إليها باستمرار، وهي السيطرة على الأحزاب السُنية، وتشتيت القادة السياسيين السُنة من خلال الاستثمار في خلافاتهم وانقساماتهم.
في هذا الصدد، يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد، حيدر عبدالله، لـ"عربي بوست": "يضمن الإطار التنسيقي بإعادة الحلبوسي إلى المشهد السياسي استمرار تشتت الساحة السياسية السُنية، وإرسال رسالة مهمة لخصوم الحلبوسي السُنة بأن لا مجال للتحالفات السُنية".
وقال المصدر نفسه إن الخصوم السياسيين السُنة للحلبوسي كُثر، وإبقاء الحلبوسي تحت سيطرة الإطار التنسيقي خوفاً من الإقصاء مرة أخرى، يضمن للشيعة بقاء الأحزاب السُنية الأخرى بلا ثُقل سياسي، لأن حزب تقدم هو الأقوى بين الأحزاب السُنية.
وبحسب المصادر السياسية الشيعية التي تحدثت لـ"عربي بوست"، فإن الإطار التنسيقي لن يدخل في خصومات مع باقي الأحزاب السُنية المنافسة للحلبوسي بطبيعة الحال، ولكنه يريد أن يضمن أنه يسيطر على أكبر الأحزاب السُنية: حزب تقدم، للاستفادة من التحالف بين تقدم والإطار في الانتخابات المقبلة وضمان الحصول على أكبر عدد من المقاعد، ووأد أي تحالفات مستقبلية تكون منافسة للإطار التنسيقي الشيعي.
التغييرات الإقليمية والدولية وتأثيرها على العراق
من ضمن الأسباب التي دفعت الإطار التنسيقي إلى الدفع بإعادة محمد الحلبوسي إلى المشهد السياسي مرة أخرى، كانت التغييرات الكبيرة التي حدثت إقليمياً ودولياً، والضغوط التي يتعرض لها العراق من قبل الولايات المتحدة للتخلص من النفوذ الإيراني.
ويشرح حسين محمودي، الباحث السياسي المقرب من الإطار التنسيقي، وجهة نظر القادة السياسيين الشيعة قائلاً: "بعد الضربة القوية التي تعرض لها محور المقاومة وإيران، وسقوط بشار الأسد، أدرك السياسيون الشيعة أنه لا بد من إعادة النظر في العديد من الأمور السياسية التي تحدث داخل العراق، لتجنب الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها الحكومة العراقية من أجل فك الارتباط بإيران وسيطرة الشيعة على الحكم".
وأضاف محمودي لـ"عربي بوست" قائلاً: "سقوط بشار الأسد بالتحديد كان العامل الأقوى في دفع الإطار التنسيقي لإعادة الحلبوسي، فسوريا الجديدة التي يقودها السُنة ليست بعيدة عن العراق، ويخشى القادة الشيعة من أن يمتد هذا التغيير الكبير إلى بلادهم في لحظات الحماسة التي شهدتها سوريا، فقرروا أنه من الأفضل تصدير العراق على أنه التجربة الديمقراطية الناشئة في المنطقة والتي تحاول النجاح، وهذا بالطبع يتضمن إعادة الحلبوسي السُني إلى المشهد السياسي".
كما أشار محمودي إلى أهمية العلاقات التي تربط الحلبوسي بالدول الخليجية مثل السعودية والإمارات، ودول عربية أخرى مثل مصر والأردن، وأهمية استفادة الإطار التنسيقي من علاقات الحلبوسي هذه في تفكيك الضغوط الحالية على العراق.
ويقول محمودي لـ"عربي بوست": "لا يمكن إنكار نفوذ علاقات الحلبوسي خارج العراق، والإطار التنسيقي يرى أهمية الاستفادة بهذا النفوذ في الوقت الحالي، فتنويع شراكات العراق مع محيطه العربي ينفي عنه تهمة التبعية المطلقة لإيران".
على الجهة المقابلة، علّق مصدر سياسي مقرب من الحلبوسي على قرار محكمة التمييز العليا بإسقاط تهم التزوير عن رئيس مجلس النواب السابق، قائلاً لـ"عربي بوست": "إنه العدالة وليس هناك شيئاً آخر".. مفضلاً عدم الحديث عن أي أسباب أخرى لعودة الحلبوسي إلى المشهد السياسي قبل حوالي 6 أشهر من الانتخابات البرلمانية المقبلة، والمقرر إجراؤها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الجاري.
لكن، يقول حسين محمودي، الباحث السياسي المقرب من الإطار التنسيقي الشيعي، لـ"عربي بوست": "بالتأكيد، الحلبوسي يُدرك تماماً أن عودته ليست بسبب نزاهة القضاء العراقي، ولكنها بسبب اتفاق سياسي بينه وبين الإطار التنسيقي، كما أنه يعلم أن هذه العودة سيكون لها ثمن سياسي عليه أن يدفعه لكي لا يخاطر بإقصائه مرة أخرى".
وبحسب المصادر السياسية الشيعية التي تحدثت لـ"عربي بوست"، في هذا التقرير، فإن بإمكان القادة الشيعة إعادة إقصاء محمد الحلبوسي مرة أخرى إذا قرر أن يخرج عن طوع الإطار التنسيقي الشيعي، كما حدث سابقاً.

هل سيعود الحلبوسي لرئاسة البرلمان الحالي؟
بعد أن تم إسقاط التهم الموجهة ضد الحلبوسي، زاد الجدل عن إمكانية رجوعه لرئاسة البرلمان الحالي، ولكن إلى الآن لم يتم حسم هذا الجدل.
يقول المصدر السياسي المقرب من الحلبوسي لـ"عربي بوست": "بإمكان الحلبوسي العودة إلى منصبه كرئيس للبرلمان، من خلال رفعه دعوى قضائية للطعن في قرار المحكمة الاتحادية العليا السابق، خاصة بعد إسقاط التهم عنه".
وأضاف المصدر: "بعد ذلك، سيطعن الحلبوسي بعدم صحة عضوية النائب البديل الذي شغل منصبه (محمود المشهداني)، وإجراء انتخابات جديدة داخل البرلمان للتصويت على رئاسته للمجلس، ولكنه لم يحسم هذه المسألة إلى الآن، لكن لا يوجد ما يمنع قانونياً، الأمر متوقف فقط على رغبته في هذا الأمر من عدمها".
ويعلق الخبير القانوني، حيدر المحسن، على هذا الأمر، قائلاً لـ"عربي بوست": "الأمر برمّته غير مفهوم، فمن المفترض أن قرار المحكمة الاتحادية العليا السابق ضد الحلبوسي، كان غير قابل للطعن، ومن ثم فوجئنا بإسقاط التهم عنه، ولا أحد يعلم كيفية استعادة الحلبوسي لمنصبه، هل ستكون بانتخابات جديدة داخل البرلمان، أم باتفاق سياسي يتقدم المشهداني على إثره بتقديم استقالته وعودة الحلبوسي، أم الانتظار للانتخابات البرلمانية المقبلة".
ويضيف المتحدث قائلاً: "لكن لا أتوقع أن يعود محمد الحلبوسي إلى منصبه كرئيس للبرلمان في الوقت الحالي، خاصة وأن ما تبقى في عمر المجلس الحالي ليس بالكثير، ومن الممكن أن يكون هناك اتفاق سياسي بين الحلبوسي والإطار على إبقاء الوضع على ما هو عليه لحين الانتهاء من الانتخابات المقبلة، ولكن المسألة غريبة ولم يشهدها العراق من قبل".