أحدث الميثاق، الذي وقّعت عليه قوى سياسية وحركات مسلحة وقوات الدعم السريع في نيروبي، ضجة في القاهرة، التي تخشى انقساماً جديداً للسودان، وهو ما يشكل خطراً أمنياً واستراتيجياً على الدولة المصرية، التي تعاني من توترات أمنية على حدودها المختلفة.
وتخشى مصر، التي تعيش توتراً على حدودها مع فلسطين، أن تجد نفسها أمام دويلات صغيرة تنفصل عن السودان، على غرار تجربة انفصال جنوب السودان عام 2011، وهو ما انعكس على طبيعة التحركات التي تقوم بها القاهرة حالياً.
وقال وزير الخارجية السوداني إن هذا التحرك مرفوض، ولا يتماشى مع الأوضاع الداخلية في السودان، مشيراً إلى أنه من غير المنطقي أن تتحالف قوى سياسية وطنية مع ميليشيا ترتكب اعتداءات ضد الشعب السوداني.
البحث عن حلول تناسب القاهرة
بالتزامن مع توقيع الميثاق السياسي، عقد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي مشاورات سياسية مع نظيره السوداني علي يوسف الشريف، أكد خلالها "رفض بلاده تشكيل أطر موازية للإطار القائم حالياً في السودان، والتأكيد على أن السلامة الإقليمية للسودان خط أحمر لمصر".
وأعقب ذلك انعقاد آلية التشاور الثنائي، حيث جرى تكثيف الشراكة في جملة من الملفات الأمنية والسياسية، وتطرقت المشاورات إلى إعادة إعمار السودان والتوافق حول الملف المائي، الذي قد يشهد تصعيداً مقابلاً في حال اتخاذ خطوات من شأنها إحداث حالة من الشلل السياسي في السودان، جراء الإقدام على تشكيل حكومة موازية في مناطق قوات الدعم السريع.
وكشف مصدر دبلوماسي مصري لـ"عربي بوست" أن القاهرة تتحرك عبر مسارات مختلفة حالياً، بدءاً بالضغط لإصدار بيان عن الجامعة العربية يدين محاولات تفتيت السودان، دون الإشارة بشكل مباشر إلى الخطوات التي تقودها قوات الدعم السريع بدعم إقليمي عربي.
وأضاف المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن الأيام المقبلة ستشهد تنسيقاً مضاعفاً للتوافق على موقف عربي يتجاوز مصالح دولة بعينها، لصالح التأكيد على أهمية وحدة الدول العربية وعدم تشجيع أي بيئة مواتية للتقسيم الجغرافي.
وقال المصدر ذاته إن الاتجاه الثاني الذي تسير فيه مصر يرتبط باستكمال آلية الحوار والبناء على ما تحقق في مؤتمر القوى السياسية السودانية، الذي استضافته في يونيو/حزيران 2024.
وأشار إلى أن هذا المؤتمر هو الوحيد الذي شاركت فيه جميع القوى السياسية السودانية والحركات المسلحة، وخرج برؤية موحدة نحو وقف الحرب، بدون مشاركة من الجيش أو قوات الدعم السريع.
وقال المصدر نفسه، في تصريح لـ"عربي بوست"، إن الاتصالات بدأت مع مختلف الأحزاب والحركات للتباحث حول المسار السياسي المستقبلي في السودان في أعقاب وقف الحرب.

وأشار إلى أن المرحلة الأولى من الحوار تضمنت التوافق حول محاور أمنية وإنسانية، والآن تتحرك القاهرة لإيجاد توافق سياسي من خلال حوار سوداني-سوداني لا تتدخل فيه أي أطراف خارجية، ومن المتوقع أن تكون الاجتماعات برعاية مصرية-سعودية، لكن لم يتم تحديد موعد انعقادها بعد.
وقال إن هناك مخاوف من رفض القوى المنضوية داخل الميثاق التأسيسي لحكومة الدعم السريع الموازية المشاركة في هذه الاجتماعات، لكن المواقف الإيجابية للقاهرة مع مختلف القوى السياسية تدعم إمكانية إقناعها.
ولفت إلى أن القاهرة تعوّل على رفض السودانيين للنزعة الانفصالية، والتوافق العام حول عدم ارتباط أي طرف سياسي بالجيش السوداني في فترة ما بعد الحرب، وكذلك الوضع بالنسبة إلى الميليشيات المسلحة، وفي مقدمتها الدعم السريع.
وقال إن تأسيس حكومة في مناطق الدعم السريع، التي تواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب، يجعل من الصعب حصولها على اعتراف دولي، باستثناء عدد قليل من الدول الإفريقية والعربية.
وقال المصدر الدبلوماسي، في حديثه مع "عربي بوست"، إن القاهرة تعتبر أن المزيد من التفتيت السياسي والمجتمعي في السودان يهدد الأمن القومي المصري بصورة مباشرة.
وشدد على أن مصر تدعو الأطراف السودانية للتحاور على أساس "الاتجاه نحو دعم أو حل قوات الدعم السريع، وكذلك وضع أسس تضمن عودة الجيش إلى الثكنات"، وهو ما لاقى ترحيباً من وزير الخارجية السوداني.
وأضاف أن مصر تطرح مسألة وضع دستور يتوافق عليه جميع السودانيين، بدلاً من اتجاه الدعم السريع إلى وضع دستور مؤقت، وكذلك اتجاه الجيش نحو تعديل الوثيقة الدستورية، وهو ما يؤدي إلى ترسيخ الانقسام.
جمع السودانيين على طاولة واحدة
وبحسب مصدر دبلوماسي آخر، فإن القاهرة ستركز في تحركاتها على جمع السودانيين على طاولة واحدة، والجمع بين المسار الأمني والعسكري، الذي ظهرت بوادره من خلال إعلان اتفاق جدة بين الجيش وقوات الدعم السريع.
ويتمثل هذا الاتفاق في انسحاب قوات الدعم من القرى والمناطق السكنية، مقابل وقف الحرب من جانب الجيش، وتأسيس مفاوضات سياسية تقوم على بدء مرحلة انتقالية تشارك فيها القوى السياسية لتشكيل حكومة مدنية، ودمج الجيوش السودانية المتعددة داخل جيش قومي واحد.
وأضاف المصدر ذاته، في حديثه مع "عربي بوست"، أن القاهرة تدرك أنه لا يمكن إقامة حكومة موازية معترف بها دولياً، وستظل التحركات الحالية في نيروبي محاولةً للضغط على الجيش للانخراط في المفاوضات السياسية.
وبالتالي، فإن التحرك السياسي هو السبيل الوحيد لدفع الأطراف المجتمعة في العاصمة الكينية لاتخاذ خطوات إلى الخلف، حيث تعمل القاهرة على تخفيف الضغوطات على نيروبي، التي تلقت مساعدات مالية ضخمة من إحدى الدول العربية (رفض ذكر اسمها) لاستضافة الاجتماعات الأخيرة.
وشدد المصدر على أنه لا توجد أي خطوات عسكرية مصرية لمواجهة خطط تقسيم السودان، حيث ستقتصر الجهود على المسار السياسي والدبلوماسي، مع التركيز على إقناع القوى الدولية الفاعلة بعدم الاعتراف بالحكومة المزمع تشكيلها في مناطق الدعم السريع.
وقال المصدر نفسه إن القاهرة تعتمد على ثقلها الدبلوماسي لبناء رأي عام إفريقي ودولي رافض لتوجهات التقسيم، بخاصة أن الأمر أضحى مرفوضاً على مستوى القارة الإفريقية.
وأكد المصدر أن القاهرة قد تدعو إلى اجتماع لدول جوار السودان، إذا طلبت الحكومة السودانية ذلك، وفي حال كان التوجه من مجلس السيادة السوداني نحو وقف الحرب، فإن الدول الإفريقية سيكون لها دور فاعل في الحفاظ على وحدة السودان، وإقرار خارطة طريق تضمن استعادة المسار الديمقراطي، وصولاً إلى إجراء الانتخابات الرئاسية، ثم استكمال بناء هياكل الحكم.
وأعلن رئيس مجلس السيادة السوداني، عبدالفتاح البرهان، عن "خارطة طريق للفترة الانتقالية، تشمل مشاورات تشكيل حكومة جديدة، وحواراً سودانياً يضم جميع القوى السياسية".
كما أعلن "مجلس السيادة" السوداني إجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية الصادرة عام 2019، تمنح سلطات جديدة للبرهان، من بينها "حق تعيين رئيس الوزراء وإعفائه"، إلى جانب "تمديد الفترة الانتقالية لمدة لا تتجاوز 39 شهراً".

الحاجة إلى توافق دولي
من جانبه، يؤكد باحث في الشؤون الإفريقية أن قدرة مصر على التفاعل مع الأمر الواقع حالياً في السودان صعبة للغاية، لأن الأطراف التي ذهبت لتوقيع الميثاق السياسي في نيروبي مضت في مخططها، ومن الصعب وقفه إلا بإقناع القوى الممولة لها بسحب تأييدها، وهو أمر أخفقت فيه القاهرة منذ بدء الحرب.
وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن الجيش السوداني، في المقابل، لديه حساباته مع الأطراف التي يتحالف معها، ولن يكون من السهل إقناعه بوقف الحرب طالما أنه يحقق تقدماً عسكرياً على الأرض، واستطاع تحرير جزء كبير من الأراضي التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع، خاصة في العاصمة الخرطوم وفي ولاية الجزيرة بوسط السودان.
وأضاف المصدر ذاته أن الأزمات التي واجهتها الحكومة المصرية في التعامل مع وجود حكومتين في ليبيا من المتوقع تكرارها في السودان، وفي حال لم تجد نقاط توافق مشتركة مع القوى الإقليمية الداعمة للقوى السياسية في الدول المجاورة لحدودها، فإن قدرتها على التأثير ستبقى محدودة.
واعتبر الخبير في الشؤون الإفريقية، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن المشكلة في السودان تكمن في أن إفرازات التقسيم تبدو أكثر وضوحاً من الحالة الليبية، التي يمكن الوصول فيها إلى اتفاق بين القوى السياسية والأمنية.
وأشار المصدر إلى أن مصر واجهت صعوبات في استكمال مسار الحوار السوداني–السوداني، الذي استضافته العام الماضي، وأن محاولات عديدة جرت لإعادة جمع القوى السياسية مرة أخرى، لكنها أخفقت، تحديداً بعدما انسحبت بعض القوى السياسية المحسوبة على الجيش من التوقيع النهائي على الوثيقة السياسية الصادرة في ذلك الحين.
كما أن فشل المسار السياسي، الذي يرعاه الاتحاد الإفريقي، وشهد انعقاد اجتماعات استضافتها مؤخراً العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ينذر بفشل أي جهود مستقبلية طالما لم يكن هناك توافق دولي حول مسألة وقف الحرب في السودان.
رفض أممي للحكومة الموازية
يواجه تشكيل "حكومة موازية" في نيروبي رفضاً أممياً، حيث حذرت الأمم المتحدة، الأربعاء، على لسان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، من أن تلك الخطوة "تزيد الانقسام وتفاقم الأزمة في السودان".
وجددت مجموعة (إيه 3+) في مجلس الأمن الدولي، الأربعاء، دعوتها إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار في السودان، معربة عن قلقها إزاء ما أعلن عنه قادة قوات الدعم السريع وأطياف سياسية أخرى بشأن إنشاء سلطة موازية في البلاد.
وقالت الخارجية الجزائرية، في بيان، إن عضو البعثة الدائمة للجزائر لدى الأمم المتحدة، توفيق العيد كودري، أكد في كلمة باسم مجموعة (إيه 3+)، التي تضم إلى جانب الجزائر كلاً من الصومال وسيراليون وغويانا، خلال جلسة إحاطة مفتوحة بشأن الوضع في السودان، أن "التطورات السياسية الأخيرة في هذا البلد مدعاة للقلق البالغ"، مجدداً دعوة المجموعة إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، وذلك لوضع اللبنات الأساسية لعملية سلام شاملة حقيقية بملكية وقيادة سودانية تعكس تطلعات السودانيين.
من جانب آخر، أعربت مجموعة (إيه 3+) عن قلقها إزاء ما أعلن عنه قادة قوات الدعم السريع، مع أطياف سياسية أخرى، بشأن إنشاء سلطة موازية في السودان، معتبرةً ذلك "خطوة خطيرة تؤجج مزيداً من التشرذم في السودان، وتحيد الجهود المبذولة حالياً للسلام والحوار عن مسارها".
وتسيطر قوات الدعم السريع على معظم المناطق في إقليم دارفور، غرب السودان، وعلى مساحات واسعة من ولاية كردفان، لكنها فقدت، في الأشهر الماضية، ولاية الجزيرة وسط البلاد ومناطق أخرى في مدن العاصمة الخرطوم، حيث لا تزال الاشتباكات مستمرة بين الطرفين.