تزايدت المخاوف لدى المهتمين بالتراث المصري بشأن الاعتداء على القيمة التاريخية لمنطقة القاهرة الخديوية، التي تتركز تحديداً في منطقة "وسط البلد" الشهيرة في قلب العاصمة المصرية.
وبدأت هذه المخاوف بعد تصريح رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار عن تطوير المنطقة وتحويلها إلى ما يشبه "الداون تاون" في إمارة دبي، وسط توقعات بأن تتجه الحكومة لمنح شركة العبار العقارية تولي المشروع بنظام الاستفادة المشتركة لتحقيق عوائد مالية دولارية، على غرار منطقة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي.
وتحدث العبار الأسبوع الماضي عن اهتمامه بالاستثمار في مصر وإعادة هيكلة المباني الحكومية الشاغرة في المنطقة، وقال إن شركته تسعى إلى المساهمة في تطوير منطقة وسط البلد، في قلب العاصمة المصرية القاهرة، بالشراكة مع الحكومة المصرية.
وكشف رجل الأعمال الإماراتي عن وجود مفاوضات جارية بالفعل مع الحكومة المصرية، لكن الحكومة لم تتسلم بعد المباني من الوزارات التي أخلتها، وقال: "عند حدوث ذلك سيتم طرح عطاءات للشركات العقارية المحلية والعالمية، وسنكون من أوائل المتقدمين".
من جهته، أكد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ما جاء على لسان رجل الأعمال الإماراتي، مشيراً إلى أن الأنباء عن تقدم مستثمرين أجانب بعرض لتطوير منطقة وسط البلد وإنشاء محلات ومولات في المنطقة كانت "جزءاً من الموضوعات التي تمت مناقشتها مع اللجنة الخاصة بتصدير العقار".
وأضاف رئيس الوزراء المصري أنه هناك بالفعل "تكليف" لمكتب استشاري (دون أن يعلن اسمه أو سابقة أعماله!) ليضع الرؤية الكاملة لتطوير منطقة وسط البلد.
نرفض نقل ملكية "وسط البلد" للعبــّــــــار !
— Nagat Ahmed Ali (@nonia1111) February 18, 2025
يا اهل مصر .. انقذوا القاهره الخديويه
إمنعوا البيع .. و شيلوا أهم أصول الدوله من ايدي من باعوها للغير . و معلوم من هم .. ليسوا إلا سماسرة تعمل لصالح العدو الصهيوني ! pic.twitter.com/q0ge8U6Nbw
فرصة للمستثمرين الإماراتيين
كشف مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" أن شركة إعمار الإماراتية تقدمت بعرض لصندوق مصر السيادي، الذي يمتلك المباني والعقارات الحكومية في منطقة وسط القاهرة، بهدف إعادة تطويرها.
وقال المصدر نفسه إن العرض تضمن تدشين شراكة مع الصندوق لتحويل المباني إلى فنادق، على أن تحصل الحكومة المصرية على نسبة يتم التفاوض حولها من العوائد السياحية.
وأشار المصدر نفسه إلى أن المشكلة تكمن في أن العرض يتضمن تحويل بعض القصور التاريخية في هذه المنطقة إلى فنادق، وهو ما تخشى الحكومة من ردة فعل علماء الآثار بشأنه، باعتبار أن هذه القصور من المفترض أن تتحول إلى متاحف مفتوحة للزائرين ولا يمكن التصرف بها.
وأضاف المصدر ذاته أن تطوير منطقة وسط البلد يدخل ضمن اهتمامات الحكومة المصرية منذ انتقال وزارات حكومية، شغلت حيزاً واسعاً من مساحتها وكثافتها البشرية والسكانية، إلى العاصمة الإدارية الجديدة قبل عام ونصف تقريباً.
وخلال هذه الفترة، يقول المصدر نفسه، كان الجدل يدور حول إسناد تطوير المنطقة إلى شركات مصرية لم تكن عند مستوى التطلعات سابقاً، أو الانفتاح على مستثمرين أجانب، وتحديداً الإماراتيين، الذين يهدفون إلى تحويل المنطقة إلى ما يشبه "الداون تاون" في دبي، ولديهم خطة واضحة في هذا الشأن.
وأشار إلى أن الإخفاق في تطوير المنطقة، سواء من جهاز التنسيق الحضاري أو محافظة القاهرة أو شركة الإسماعيلية، خلق فرصة للمستثمرين الإماراتيين، الذين لديهم خطط لربط المنطقة، التي يطل جزء منها على النيل، بمناطق أخرى تستحوذ عليها شركات إماراتية بالقرب منها، ومن بينها جزيرة الوراق.
فيما يتخوف مهتمون بالتراث المصري من مسألة نزع السيادة تحت مسمى التطوير، لأن سيطرة الحكومة على هذه المناطق في المستقبل لن تكون كما هي الحال إذا قامت هي بذاتها بتطوير المنطقة.
وشدد المصدر ذاته على أن المفاوضات الجارية مع رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار وعدد آخر من شركائه المستثمرين تأتي ضمن توجهات الحكومة لإبرام صفقات استثمارية، أسوة بمنطقة رأس الحكمة.
وأضاف أن زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أخيراً إلى دولة الكويت شهدت التطرق إلى إمكانية منح مناطق جديدة على ساحلي البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من محافظة مرسى مطروح، وكذلك بعض المناطق على ساحل البحر الأحمر لشركات استثمارية كويتية.
وقال إن الهدف هو الحصول على عوائد مليارية دولارية تخفف من أي أزمات متوقعة بسبب تعقيدات المشهد الحالي في قطاع غزة وإمكانية انعكاس ذلك سلباً على الاقتصاد المصري.
الإمارات تستحوذ على قطاعات اقتصادية مصرية
وسبق أن أبدى العبار اهتمامه بمنطقة وسط القاهرة، وقال في تصريحات إعلامية في 21 أغسطس/آب 2023 إن "شركتي (إعمار) و(إيجل هيلز) تقدمتا بطلب رسمي للحكومة المصرية لإعادة هيكلة المباني الحكومية وسط القاهرة، سواء من خلال الترميم أو إعادة البناء".
ومثَّل استحواذ الإمارات على منطقة رأس الحكمة، شمال غرب مصر، في صفقة قُدِّمت باعتبارها الأكبر في تاريخ الاقتصاد المصري، إحدى أبرز الخطوات التي اتخذتها الإمارات للاستحواذ على قطاعات اقتصادية مصرية، تنوعت بين القطاع الطبي والسياحي والصناعي والموانئ.
ويستقطب المشروع استثمارات تزيد قيمتها على 150 مليار دولار خلال مدة تطويره، تتضمن 35 مليار دولار استثماراً أجنبياً مباشراً للدولة المصرية خلال شهرين من تاريخ التوقيع على الصفقة.
وجاءت صفقة رأس الحكمة بعد استحواذ مجموعتين إماراتيتين، هما "إيه دي كيو" القابضة و"أدنيك"، على نسبة كبيرة من الفنادق التاريخية في مصر، كما اشترت المجموعتان 40.5% من شركة "آيكون" التابعة لرجل الأعمال المصري طلعت مصطفى.
ومن جانبه، أكد مصدر مطلع بجهاز التنسيق الحضاري في القاهرة أن منطقة وسط البلد، التي تقع في إطار القاهرة الخديوية، أثبتت أنها مصدر جذب قوي للاستثمار والسياحة، واستطاعت أن تلفت أنظار رجال الأعمال المصريين إليها قبل أن تجذب الشركات الخليجية.
وأضاف المتحدث أن هناك مشروعاً لتطوير المنطقة بدأ عام 2014، وانعكس ذلك على تطوير البنايات التاريخية والشوارع والميادين الرئيسية مع الحفاظ على الصبغة التاريخية للمنطقة.
وحقق رجال الأعمال الذين قاموا بشراء عدد من البنايات، مع إرضاء السكان لتركها وتحويلها إلى مشروعات جذب سياحي وشقق فندقية، استفادة مثلى من هذه المشروعات.
"شركة الإسماعيلية تستحوذ على 25 مبنى بوسط القاهرة الخديوية" ..
— EslAm OthmAn🦅🇪🇬 (@Esll7970Gladii) June 8, 2024
– تطمح شركة الإسماعيلية لإعادة وسط القاهرة إلى وجهة مميزة لكل المهتمين بالفنون بجميع أنواعها
وقد أعلن السيد كريم الشافعي رئيس مجلس إدارة شركة الاسماعيلية للعقارات عن استحواذ الشركة على مبنى راديو التاريخي بمنطقة وسط… pic.twitter.com/BWToj4ypiM
مباني ذات قيمة مميزة دون استغلال
وأوضح المصدر ذاته أن الجهات الرسمية الحكومية، متمثلة في جهاز إدارة الأصول العقارية، توقفت عن عملية بيع البنايات التابعة لها، ولجأت إلى عملية الترميم خلال السنوات الثلاث الماضية، انتظاراً لإمكانية بيعها بأسعار مرتفعة في حال نجاح الحكومة المصرية في جذب مستثمرين خليجيين، أو الاستفادة من الجذب المتوقع لملايين السياح إلى هذه المنطقة.
وأشار إلى أن الحكومة المصرية تعاملت مع خطوات تطوير القاهرة الخديوية خلال السنوات الماضية لقياس قدرة المنطقة على الجذب السياحي في المستقبل، ومع افتتاح المرحلة الأولى من التطوير التي طالت شارعي الألفي والشواربي، بدا أنها وجدت أن المنطقة يمكن الاستفادة منها على نحو أكبر، تحديداً بعد انتقال الجهات الحكومية إلى العاصمة الإدارية، وبقاء مبانٍ ذات قيمة متميزة دون استغلال.
ولفت إلى أن الحكومة شجعت شركة الإسماعيلية، وهي إحدى شركات القطاع الخاص، على امتلاك وترميم العديد من المباني وفقاً لاشتراطات الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وانعكس ذلك على شكل البنايات واستعادة الوجه الحضاري للقاهرة الخديوية، وتسعى إلى تقديمها للمستثمرين الأجانب بما يتماشى مع أهدافها من أي عملية بيع أو شراكة استثمارية مستقبلية.
وبحسب المصدر، فإن رؤية الحكومة للقاهرة تتضمن تحويل المباني الحكومية إلى فنادق سياحية، نظراً لكونها ذات طراز معماري يرتبط بتوزيع الغرف الإدارية على مساحات متقاربة بشكل متساوٍ، وعلى أدوار منخفضة.
لكن المشكلة، حسب المتحدث، تتمثل في كيفية تهيئة المناطق المحيطة بهذه الفنادق، حيث إن أحد أسباب عرقلة مشروع تحويل مبنى الحزب الوطني إلى فندق، وكذلك مجمع التحرير الشهير بميدان التحرير، هو عدم القدرة على تخصيص جراجات للسيارات، وهناك اقتراحات باستقطاع أجزاء من جراج التحرير ليتبع الفندق.
ووافق المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، سنة 2023، على طلب الصندوق السيادي تغيير الاستخدام الكامل لمبنى مجمع التحرير ليصبح فندقاً، ضمن خطة شاملة تهدف إلى إعادة استخدام مباني الوزارات والإدارات الحكومية وسط العاصمة، وتخطيط المناطق المحيطة بها والمتصلة بها.
ويهدف الصندوق إلى عرض أصول مملوكة للدولة للبيع للمستثمرين المصريين والأجانب، منها مبنى مجمع التحرير ووزارة الداخلية، وخمسة أصول أخرى بعد نقل ملكيتها بالكامل إلى الصندوق.
وقد ألغى قرار رئاسي صدر عام 2020 حالة المنفعة العامة عن المباني المطروحة للبيع والإدارة للقطاع الخاص، في إطار خصخصة أنشطة محددة، ونقل الملكية لصالح الصندوق السيادي، الذي أنشأته الحكومة عام 2018.
يذكر أن الصندوق السيادي أسند تطوير "مجمع التحرير" إلى شركة "غلوبال فينتشرز" ومجموعة "أوكسفورد"، ومقرها الولايات المتحدة، سنة 2021، لتحويله إلى فندق يحمل علامة "كايرو هاوس"، يضم غرفاً وأجنحة فندقية وشققاً فاخرة، بالمشاركة مع شركة "العتيبة للاستثمارات" الإماراتية.
واشترط المستثمرون اقتطاع جزء من ميدان التحرير لتحويله إلى حديقة أمامية للفندق، وتخصيص موقف للسيارات أمام المجمع لحساب النزلاء، وهو ما عرقل انتهاء الأعمال الخارجية للمشروع حتى الآن.
هواجس المصريين
من جهته، قال خبير في مجال العمارة التاريخية إن خطورة العرض الإماراتي تتمثل في عدم الحفاظ على مبادئ تاريخ القاهرة الخديوية، وإمكانية التلاعب في الأسس الفنية التي جرى على أساسها ترميم البنايات خلال السنوات الماضية.
وأضاف المتحدث، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن هناك شوارع صغيرة لا تسمح بدخول الآلات والمعدات، ومن المتوقع أن يتم هدم بيوتها وتغيير الطابع الجغرافي للمنطقة، وهو ما يشكل ردة كبيرة لا يمكن السماح بها.
وأوضح أن الحديث عن تطوير المنطقة يثير هواجس المصريين، لأنه في حال كان التطوير بهدف الجذب السياحي، فإنه على الأغلب سيكون بصورة سريعة، ويستهدف تحقيق عوائد مادية دون الحفاظ على المناطق التراثية، التي لديها قواعد دولية في التعامل معها.
ولفت إلى أن مليارات الدولارات لا توازي تاريخ مصر الثقافي والحضاري، الذي قد يتم التعدي عليه بين ليلة وضحاها، كما أن الخطة الإماراتية تتضمن إقامة بنايات شاهقة تصل إلى 30 دوراً، وهو أمر لا يتماشى مع طبيعة القاهرة الخديوية، التي تتراوح بناياتها بين خمسة إلى سبعة أدوار.
وقال الخبير في مجال العمارة التاريخية لـ"عربي بوست" إنه ليس من المعروف ما إذا كان المستثمر الإماراتي سوف يلتزم باشتراطات جهاز التنسيق الحضاري من عدمه.
وشدد على أن الحكومة المصرية قادرة على تطوير منطقة وسط البلد دون الاستعانة بشركات إماراتية، ويمكن أن تحقق أرباحاً طائلة من جذب السياحة إليها، بعد أن تراجعت المنطقة كعامل جذب سياحي، تحديداً من السياحة العربية، التي بات لديها اهتمامات وأماكن تواجد مختلفة في المدن الجديدة ومنطقة الساحل الشمالي، بعيداً عن قلب القاهرة. كما أن هناك إمكانية لتحسين الفراغ العام، وتنظيف المباني، والاستفادة من العمل السابق الذي امتد لسنوات في الحفاظ على تراث المدينة.