تسيطر حالة عدم اليقين على استقرار الاقتصاد المصري ونموه خلال العام المقبل بعد أن شهد تقلبات عديدة هذا العام ظهرت آثارها واضحة في فقدان الجنيه المصري أكثر من 60 في المئة من قيمته، وصولاً إلى حالة شبه الاستقرار في أسعار الصرف منذ توقيع صفقة بيع منطقة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي.
غير أن هذا الاستقرار لم يستمر طويلاً حيث انخفضت قيمة الجنيه مقابل الدولار مجدداً خلال شهر ديسمبر/كانون الأول 2024، ليقفز فوق الـ51 جنيهاً خلال تعاملات البنوك لأول مرة في تاريخه، على الرغم من توصل الحكومة المصرية لاتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي في شهر مارس/آذار 2024.
إذ أن التوترات الجيوستراتيجية بالمنطقة تركت تأثيراتها على معدلات النمو، مع فقدان الجزء الأكبر من العوائد السنوية لقناة السويس جراء الأوضاع المتوترة في منطقة البحر الأحمر.
ومع استمرار التوترات بالمنطقة وآخرها تطورات الأحداث في سوريا والمخاوف من ارتداداتها على مصر، خفضت مؤسسة "فيتش سوليوشنز" توقعاتها لنمو الاقتصاد المصري خلال العام المالي الجاري الذي ينتهي في يونيو/حزيران 2025، من 4.2% إلى 3.7% بسبب الأداء الضعيف في الربع الرابع من السنة المالية 2023/2024 والتراجع المستمر لإيرادات قناة السويس.
وانخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال الربع المالي الأخير من العام الجاري إلى 2.4٪، وهو أقل بكثير من التقديرات الحكومية الأولية التي بلغت 4٪. ومع ذلك، تتوقع أن يبقى تعافي الصادرات غير النفطية والاستثمار النمو أعلى من المعدل المسجل في السنة المالية 2023/2024.
وتجدر الإشارة إلى أن البنك الدولي أعلن تثبيت توقعاته لنمو الاقتصاد المصري خلال الأعوام 2024 و2025 و2026 عند 2.8% و4.2% و4.6% على التوالي.
التوقعات بشأن معدلات نمو الاقتصاد المصري
أرجع التقرير تعافي مصر الاقتصادي خلال العامين المقبلين لعوائد مشروع تنمية منطقة رأس الحكمة الساحلية بالساحل الشمالي، والذي وقعته مصر مع الصندوق السيادي لدولة الإمارات بقيمة استثمار أجنبي مباشر بلغت 35 مليار دولار.
ويشمل الاستثمار الذي وقعته أبوظبي والقاهرة في فبراير/شباط 2024، 11 مليار دولار هي قيمة ودائع إماراتية لدى البنك المركزي المصري والتي يتم التنازل عنها لصالح المشروع، بالإضافة إلى 24 مليار دولار سيولة نقدية تسلمتها مصر بالكامل.
وقال مصدر مسؤول بوزارة المالية المصرية، إن تنبؤات المنظمات الدولية لوضع الاقتصاد المصري خلال العام المقبل إيجابية وإن كانت تسير في اتجاه تراجع معدلات النمو المتوقعة والتي كانت من الممكن أن تصل إلى 4.5%.
لكن الواقع يشير إلى صعوبة تجاوزها الـ3.8% مع استمرار الصراع الدائر حالياً بين الحوثيين والاحتلال الإسرائيلي. وأشار المصدر إلى أن التقارير التي تم جمعها بواسطة المتخصصين بالوزارة تؤكد أن أرقام معدلات النمو تتوقف على الاستقرار السياسي الداخلي خلال العام المقبل.
وأوضح المصدر في حديثه لـ"عربي بوست" أن استمرار التوترات الإقليمية تؤثر سلباً على مؤشرات الاقتصاد وتجعل هناك حالة من عدم اليقين المستمرة بشأن القدرة على الوصول بمعدلات نمو كالتي وصل إليها الاقتصاد المصري قبل انتشار فيروس كورونا والتي سجلت 5.6%.
وأشار المتحدث إلى أن الهدف الرئيسي للحكومة المصرية يتمثل في عدم حدوث انكماش، "وطالما أن المؤشر تصاعدي فالاقتصاد في حالة تماسك تسمح له بالصمود في ظل استمرار الصراعات والحروب على الحدود المصرية المختلفة".
وشدد المصدر ذاته على أن صفقة رأس الحكمة حمت الاقتصاد المصري من العودة إلى وضعية عامي 2022 و2023 التي يمكن وصفها بأنها "أعوام كارثية"، والهدنة في لبنان والأحاديث المستمرة عن إمكانية الوصول إلى هدنة في قطاع غزة، جميعها مؤشرات تنعكس إيجاباً على وضع الاقتصاد.
لكن ذلك، يقول المتحدث، سيكون في حال لم يصل الضرر إلى شبه جزيرة سيناء في ظل المخاوف المستمرة من عملية التهجير القسري وارتداداتها الداخلية، لافتاً إلى تسبب أحداث السابع من أكتوبر في أن يقفز الجنيه المصري بالسوق الموازية من 37 جنيهاً إلى 50 جنيهاً في غضون أسبوعين تقريباً وحدث ذلك مع نهاية العام الماضي.
وأشار مصدر لـ"عربي بوست" إلى أن الحالة المزاجية للمصريين تدفع لتنامي حركة المضاربات في الدولار، وتظل هناك مخاوف بأن تصل انعكاسات ما يحدث على الحدود إلى الداخل، خاصةً أن قناة السويس تأثرت بشدة في ذلك الحين.
وينعكس الوضع ذاته على الحكومة المصرية التي كانت بحاجة إلى توفير الدولار وفقدت بشكل مفاجئ مليارات الدولارات، ولجأت إلى شراء الدولار من السوق السوداء لتوفيره للمستوردين، وبالتالي كان هناك المزيد من التراجع في قيمة الجنيه المصري.
وكشف المصدر عن أن السير على برنامج إصلاح اقتصادي يضعه صندوق النقد يبقى أفضل من أن تتعامل الحكومة من تلقاء نفسها مع أزمات شح العملة وزيادة معدلات التضخم، وأن استمرار البرنامج يمنح مؤشرات إيجابية على أوضاع الاقتصاد خلال العام المقبل.
التعاون بين الحكومة وصندوق النقد
يجري صندوق النقد الدولي في الوقت الحالي مراجعته الرابعة ضمن برنامج تمويل مصر الموسع البالغ حجمه 8 مليارات دولار، وفي حال استكمال هذه الجولة من المراجعات ستتمكن مصر من صرف شريحة بقيمة 1.3 مليار دولار، والتي تُعد الأكبر بين مختلف الشرائح.
وقالت بعثة صندوق النقد الدولي خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي إنها أحرزت "تقدماً كبيراً" في المناقشات مع الحكومة، لكنها حتى الآن لم تعلن عن صرف الشريحة، وهو ما يُعد أحد عوامل القلق التي تثير غموضاً حول وضع الاقتصاد المستقبلي.
وقال مصدر حكومي، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن الضغط على العملة الصعبة سيأخذ بالتراجع عام 2025، وهو ما يجعل المؤشرات إيجابية إلى حد ما، لأن مصر سددت هذا العام 37 مليار دولار ديون طويلة الأجل فيما تصل معدلات السداد في 2025 إلى 22 مليار دولار، وهو ما من شأنه أن يخفف الضغوط على الجنيه والاقتصاد ككل.
وأشار مصدر "عربي بوست" الذي فضل عدم ذكر اسمه، إلى استمرار التعاون بين الحكومة المصرية وصندوق النقد، "وفي حال حدث شيء مغاير، فإن وضعية الاقتصاد ستأخذ في التغير السلبي بشكل كلي لأنه لن تكون هناك ثقة دولية في الاقتصاد ومدى ثباته".
وأضاف المصدر ذاته أنه في حال بقي الجنيه عند حدود بين 51 إلى 53 جنيهاً مقابل الدولار، فإن مسار التضخم سوف يأخذ منحنى هبوطياً مع توقعات إرجاء قرارات رفع الدعم عن الخدمات الرئيسية إلى النصف الثاني من العام المقبل مع مخاوف من الارتدادات السياسية للتطورات الأخيرة في سوريا، ومع تنامي الرفض الشعبي مع أي زيادة جديدة في أسعار الخدمات.
وحسب المتحدث، فإن التوقعات تشير إلى أن التضخم سيظل عند معدل 20% زيادة أو انخفاضاً بقدر قليل، ويُعد ذلك مساراً هبوطياً مع وصوله الآن إلى 25%. وسيكون هذا التراجع مصحوباً بتراجع معدلات التضخم عالمياً مع احتدام حدة الصراع في بؤر مشتعلة حالياً حول العالم.
وذكر المصدر أن قيمة الجنيه تبقى هي الأكثر تأثيراً في وضعية الاقتصاد، لأنه في حال وصل إلى معدلات تتراوح ما بين 55 إلى 60 جنيهاً، وهو ما تتوقعه بعض المؤسسات الدولية، فإن ذلك سيكون لديه تأثير سلبي على معدلات التضخم التي سوف تأخذ في التزايد أيضاً وقد تبقى عند المعدلات الحالية وهي 25% على أساس سنوي.
وفي حال حصل ذلك، يقول المتحدث، فإن البنك المركزي المصري "سيحاول في تلك الحالة امتصاص معدلات التضخم المرتفعة عبر تخفيض سعر الفائدة".
وتوقعت "فيتش سوليوشنز" في وقت سابق أن يخفض البنك المركزي سعر الفائدة بنسبة 12% خلال العام المقبل، ليصل سعر الفائدة إلى 15.25% للإيداع و16.25% للإقراض من 27.25% و28.25% على التوالي حالياً وسط تراجع معدل التضخم المحتمل تأثراً بسنة الأساس.
مخاوف من تراجع مستمر للجنيه المصري
وفقاً لمصدر مسؤول في البنك المركزي المصري، فإن سعر الصرف خلال العام المقبل هو أكثر ما يؤرق الحكومة المصرية، لأن استمرار التوترات الجيوستراتيجية سيكون لها تأثير سلبي على عوائد قناة السويس والسياحة، إلى جانب انعكاسات مماثلة على مستوى تحويلات المصريين في الخارج، بالرغم من زيادتها بنسب وصلت إلى 70% منذ توحيد سعر الصرف.
غير أن اقتصاديات دول الخليج قد تتأثر سلباً في حال حدثت حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران، وبالتالي فإن الضغط سيزيد على الدولار ويقود ذلك إلى موجات تضخمية أخرى تؤثر في النهاية على معدلات النمو للاقتصاد المصري.
وأضاف مصدر "عربي بوست" أن قيمة الجنيه قد تصل إلى 57 جنيهاً بنهاية العام المقبل إذا استمرت التوترات في المنطقة، وتحديداً مع استمرار التوتر بين إسرائيل والحوثيين في البحر الأحمر إلى جانب عدم استقرار الأوضاع في منطقة القرن الإفريقي التي تطل أيضاً على ساحل البحر الأحمر.
ولفت المصدر إلى أن هناك عوامل خارجية قد تؤثر على قيمة الجنيه في مقابل الدولار، في مقدمتها صعود الدولار نفسه أمام جميع العملات، وهو ما يحدث منذ انتهاء الانتخابات الأميركية وفوز الرئيس دونالد ترامب، إلى جانب قرارات الجمارك الأميركية التي قد تخفض من تأثيرات العملة الصينية والروسية لصالح الدولار.
وشدد على أن بداية العام المقبل ستشهد مزيداً من الضغوط على الجنيه المصري تزامناً مع دخول شهر رمضان بسبب استيراد المنتجات الغذائية، وأيضاً في حال تأخرت موارد التمويل الأجنبية التي تتمثل في الشريحة الرابعة من قرض صندوق النقد، والتأخر في صرف التمويلات الأخرى من دول الخليج أو الاتحاد الأوروبي.
وأشار مصدر "عربي بوست" إلى أن الحكومة المصرية سوف تتجه إلى تخفيض قيمة سداد الديون واستبدالها باستثمارات ومشروعات أجنبية، وتحاول إقناع العديد من الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة قطر.
وأكد المتحدث أن استمرار التوترات الخارجية يجعل الأجواء مهيأة في الداخل المصري لعودة المضاربات في الدولار وعودة سوق الصرف الموازية.
وهو ما تحاول الحكومة التعامل معه بالقبضة الأمنية، إلى جانب اتخاذ إجراءات تهدف إلى إحداث سيولة دولارية في البلاد تمنع الوصول إلى خلق سوق سوداء، مثلما حدث مؤخراً حينما أتاحت استخدام تطبيق "إنستا باي" لإجراء التحويلات المالية مباشرة من الخارج.
إلى جانب تطوير البنية التحتية في المطارات لزيادة معدلات استقبال السياح والإعداد لافتتاح المتحف المصري الكبير خلال يناير/كانون الثاني أو فبراير/شباط 2025.
وأظهرت بيانات البنك المركزي المصري أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج حققت قفزات متتالية عقب الإجراءات الإصلاحية في مارس/آذار 2024، حيث ارتفعت خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 بمعدل 68.4% لتصل إلى نحو 2.9 مليار دولار (مقابل نحو 1.7 مليار دولار خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023).
ورجح تقرير أصدره معهد "ماستر كارد" للاقتصاد أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي في مصر نمواً بنسبة 4% خلال العام المقبل، متجاوزاً معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، الذي من المتوقع أن يبلغ 3.2% بزيادة ضئيلة عن مستوى 3.1% خلال عام 2024.