مرة أخرى، تقر مؤسسات الدولة الفرنسية الرسمية بفشل سياسات الإدماج داخل المجتمع وتؤكد التمييز الذي يتعرض له العرب والمسلمون في فرنسا، في تناقض صارخ مع قيم الجمهورية التي طالما روجت لها باريس، وفق ما جاء في دراسة أكاديمية نُشرت الإثنين 9 ديسمبر/كانون الأول 2024.
وفقاً لدراسة، تواجه النساء من أصول مغاربية، سواء أكُن محجبات أم لا، تحديات إضافية مقارنة بنظيراتهن الفرنسيات عند التقدم لفرص التدريب المهني، وهو ما يعزز الفكرة بأن التمييز يبدأ من المرحلة التعليمية وينعكس بشكل كبير على سوق العمل.
الدراسة التي أُجريت من قِبل باحثين أكاديميين تابعين للمركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) ومنصة لتحليل البيانات، تحت إشراف المرصد الوطني للتمييز والمساواة في التعليم العالي (Ondes)، ترمي حسب المشاركين فيها إلى تقييم "العقوبات المرتبطة بارتداء الحجاب الإسلامي في سوق العمل الفرنسي".
شملت الدراسة، التي أُجريت بين 21 مارس/آذار و1 أبريل/نيسان 2024، إرسال سيرة ذاتية لمجموعة من النساء الشابات، محجبات وغير محجبات، وُلدن في عام 2005 وكن طالبات في السنة الأولى من شهادة البكالوريا المهنية في مجال "المحاسبة والإدارة".
تم اختيار أسمائهن وألقابهن، سواء كانت فرنسية أو من أصل مغاربي، من قاعدة بيانات السجلات المدنية للمكتب الوطني للإحصاء، وتم إرسال طلباتهن إلى واحدة من 2000 شركة في باريس تم اختيارها عشوائياً من "قوائم الوحدات القانونية للمكتب الوطني للإحصاء".
المحجبات أقل حظاً في الحصول على وظيفة
على سبيل المثال، تم إعداد السير الذاتية لـ "صوفيا شريف، وياسمين سعيدي، وسارة بلخادم، ونادية علي، ثم إما مارتن، وليا برنارد، ومانون دوران، وكلارا ريتشارد"، باستخدام صور لعارضات تم استقدامهن، وصُورت بالحجاب وبدونه.
وفق السير الذاتية المرسلة، تتمتع جميع المتقدمات بنفس "المهارات، المؤهلات، والخبرات"، ولديهن أول تجربة عمل نفسها، وتخرجن من مؤسسات تعليمية تُعتبر "جيدة"، وحصلن جميعاً على شهادة البكالوريا المهنية عام 2023، يتحدثن الفرنسية باعتبارها لغة الأم ويعشن في باريس بأحياء ليست فقيرة ولا غنية.
بعد تقييم النتائج، والتأكيد على أن الحجاب ليس شرطاً في المؤسسات الخاصة، ما لم تمنعه قوانينها الداخلية، اكتشف الباحثون أن ارتداءه "يزيد بنسبة 25% من احتمال تلقي ردود سلبية، ويقلل بأكثر من 30% من احتمال تلقي ردود غير سلبية، ويخفض بأكثر من 80% فرصة الحصول على رد إيجابي".
أيضاً كشفت الدراسة التي أشرفت عليها مؤسسة رسمية أن النساء المحجبات من أصل فرنسي لديهن فرص أقل بنسبة 10.8 نقطة (-81.4%) للحصول على مقابلة، مقارنة بـ 6.7 نقطة (-84.9%) للنساء المحجبات من أصل مغاربي.
من جهة أخرى، وهذه المرة الوحيدة التي سيتحقق فيها مبدأ المساواة في الدراسة، بدت نسب رفض طلبات المتقدمات المحجبات متكافئة سواء كن من أصل فرنسي أو مغاربي.
هذه الخلاصة أظهرت أن "العقوبة المرتبطة بالرمز الديني أقوى معيار وقد تتجاوز الاعتبارات المرتبطة بالأصل ويمكن أن تؤثر بنفس الطريقة على المتقدمين للوظائف، بغض النظر عن أصلهم".
في أوروبا، لا توجد إلا دراسات أكاديمية نادرة تقيس تأثير ارتداء الحجاب على النساء المسلمات في مجالات مختلفة مثل الولوج إلى سوق العمل، وهو "تباين واضح مقارنة بالحضور القوي للحجاب في النقاشات العامة والقانونية"، خاصة وأن المتضررات أبدين منذ فترة طويلة، كما يشير التقرير، قلقهن بشأن نقص دمجهن المهني والاجتماعي في فرنسا.
الأولوية لحاملي الأسماء الفرنسية
الدراسة لم تقتصر على الحجاب فحسب، بل استعرضت أيضاً كيف أن التمييز ضد الأشخاص من أصول مغاربية يعزز الحواجز متعددة الأبعاد التي تعترض فرصهم في الحصول على وظائف، حتى عندما تتوفر لديهم مؤهلات عالية.
ويشمل ذلك التمييز الذي يمكن أن يبدأ في المراحل التعليمية المبكرة ويستمر في أماكن العمل، ما يعزز فجوة الفرص بين الأقليات والأغلبية.
في هذا السياق، ذكر الباحثون أن الرجال من أصول مغاربية يواجهون صعوبات كبيرة في الولوج إلى سوق العمل، حيث تنخفض فرصهم بشكل ملحوظ في تلقي رد مقارنة بغيرهم من المتقدمين إلى الوظائف.
وكشفت الدراسة أن هناك فرقاً بنسبة 50% لصالح المرشحين الذين يحملون أسماء ذات خلفية فرنسية.
آثار نفسية وحلول مؤجلة
ناهيك عن الصعوبات المالية التي قد يخلقها هذا التمييز الممنهج، غالباً ما يصاب المتضررون بالإحباط واليأس، ويولد رفض إدماجهم المزمن في سوق العمل أثراً نفسياً عميقاً، كما يوضح المشرفون على الدراسة، الذين أكدوا أن هؤلاء الأفراد قد يطورون مشاعر العزلة، ما يؤثر على جودة حياتهم الاجتماعية والوظيفية.
وأضافت الدراسة أن هذا التمييز قد يؤدي إلى انخفاض الثقة بالنفس ويزيد من التوتر النفسي، ما يحد من قدرتهم على التقدم في حياتهم المهنية.
وفي مواجهة غياب سياسات واضحة للحد من الظاهرة وانعدام الإرادة لدى صناع القرار لمكافحة انتشارها، يشدد كثير من الفرنسيين من أصول مغاربية على أهمية التركيز على التفوق في التعليم العالي، وريادة الأعمال، والاستثمار في الوطن الأم للحد من هذه الحواجز، داعين في المقابل إلى حلول استراتيجية مبتكرة لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية.
في هذا الصدد، تناولت الدراسة دور المؤسسات في مكافحة التمييز، مشيرة إلى أن الشركات والجامعات التي تتبنى سياسات شاملة ضد التمييز تكون أكثر قدرة على جذب مواهب متنوعة وتعزيز بيئة عمل أكثر شمولية.
كما ركزت على أهمية تغيير البيئة الاجتماعية من خلال حملات توعية تهدف إلى تصحيح التصورات المغلوطة عن الأقليات المسلمة والمغاربية.
الباحثون اقترحوا مجموعة من الحلول لمعالجة هذه التحديات، مثل تطوير سياسات حكومية ومؤسسية تضمن تكافؤ الفرص لجميع الأفراد بغض النظر عن هويتهم الدينية أو العرقية، ودعم المجموعات الاجتماعية المهمشة في مجال التعليم وريادة الأعمال لتوفير مسارات مهنية بديلة تسهم في تقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية.
نزيف الكفاءات بسبب التمييز
أمام ندرة الفرص وانسداد آفاق العمل أمامهم، يختار الفرنسيون المسلمون مغادرة وطنهم بحثاً عن بيئة أكثر تسامحاً.
كثير من هؤلاء نساء محجبات، ولدن في فرنسا وحصلن على شهادات أكاديمية من جامعات مرموقة، لم تشفع لهن الخبرة والتجربة في الحصول على وظيفة بسبب ارتدائهن الحجاب، فقررن العودة إلى بلدهن الأصلي، أو البحث عن مستقر في دولة أوروبية أكثر تسامحاً وتقديراً للكفاءات بغض النظر عن المعتقد.
في نهاية أبريل/نيسان 2024، أصدر ثلاثة باحثين فرنسيين دراسة بعنوان "فرنسا، تحبها لكنك تغادرها". البحث ركز على أفراد الجالية الفرنسية المسلمة الحاملين لشهادات عليا، ممن اختاروا كندا أو المملكة المتحدة أو دبي أو الدار البيضاء للهروب من التمييز الذي تعرضوا له في فرنسا.
استناداً إلى عينة تضم أكثر من 1000 شخص و140 مقابلة معمقة، كشفت هذه الدراسة غير المسبوقة عن خطورة ظاهرة تتفشى في صمت وسط المجتمع الفرنسي.
من خلال استجواب هذه النخبة الأقلية، تفصل الدراسة في مسار تكوينهم، وكيف يشعرون ويُنظر إليهم باعتبارهم مسلمين، وأيضاً تتناول أسباب مغادرتهم، ودوافع اختيار الوجهات، وتجربة الاستقرار والحياة في الخارج، ثم نظرتهم إلى فرنسا وتوقعاتهم بشأن العودة.
الكتاب لم يوثق مجرد هجرة الأدمغة فقط، بل يكشف أيضاً عن آثار الإسلاموفوبيا التي، بالنظر إليها من الخارج، تبدو أنها تشكل استثناءً فرنسياً.