لا يكاد التوتر يهدأ بين فرنسا والجزائر حتى تطفو إلى السطح قضايا جديدة تؤجج حدة الخلاف بين البلدين، وتؤجل مصالحة طال انتظارها. آخر مظاهر ذلك قضية الكاتب بوعلام صنصال المعتقل في الجزائر منذ أكثر من أسبوعين بسبب تصريحات اعتبرتها الجزائر مسيئة.
الكاتب الفرنسي-الجزائري بوعلام صنصال أُوقف في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 عند وصوله إلى مطار الجزائر العاصمة، ووُضع رهن الحبس الاحتياطي، وهو يخضع للتحقيق منذ أيام، بينما رفضت السلطات طلب الإفراج الذي قدمه محاموه.
هذا الاعتقال، الذي يأتي في سياق توترات متزايدة بينه وبين السلطات الجزائرية بسبب آرائه النقدية ضد النظام السياسي في البلاد، أثار انتقادات حادة في باريس وكذلك داخل البرلمان الأوروبي، حيث ارتفعت أصوات مطالبة بالإفراج الفوري عن صنصال وإسقاط متابعته.
وفيما لم تقدم السلطات الجزائرية أسباباً واضحة لاعتقال الكاتب، يُرجح أن التهم الموجهة إليه ترتبط بتصريحات أدلى بها في أكتوبر/تشرين الأول 2024 لموقع إعلامي يميني متطرف، حيث تطرق إلى مسألة الحدود بين الجزائر والمغرب.
من جانبها، ذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية نقلاً عن مصدر قضائي جزائري أن الكاتب يواجه تهمة "تقويض سلامة التراب الجزائري"، التي قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، أو الإبقاء عليه سجيناً مدى الحياة على الأقل.
وأوردت المصادر نفسها أن المتهم كان ينقل أخباراً ومعلومات للسفير الفرنسي بالجزائر، دون أي تأكيد رسمي إلى اليوم. القضية أثارت جدلاً واسعاً وانقساماً في الآراء، حيث اتهم البعض السلطات الجزائرية باستخدام القضاء لملاحقة منتقديها، بينما رأى آخرون أن صنصال ضحية للخطاب اليميني المتطرف المعادي للجزائر، الذي تم استغلاله لتحريف تاريخها والإساءة إليه.
"قلق عميق" في فرنسا
عقب انتشار خبر اعتقاله، طالبت دور نشر فرنسية مثل "غاليمار" بالإفراج الفوري عنه، كما انضم كتّاب بارزون مثل سلمان رشدي، وأورهان باموك، وجان ماري لو كليزيو إلى المطالبين بالإفراج عنه، معربين عن دعمهم لصنصال باعتباره رمزاً لحرية التعبير.
في فرنسا، طرح عضو أكاديمية الفرنسية جان كريستوف روفين اقتراحاً لإجراء تصويت عاجل لضم بوعلام صنصال إلى الأكاديمية الفرنسية في خطوة رمزية.
سياسياً، لم يتأخر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الإعراب عن "قلقه العميق" بشأن مصير صنصال، مؤكداً التزامه بحرية المثقفين. وكذلك دعا سياسيون فرنسيون، من مختلف الأطياف، الحكومة إلى التحرك بحزم، مثل ديفيد ليسنار، من حزب الجمهوريين، الذي أكد أن القضية تتجاوز السياسة وتتعلق بالدفاع عن الحرية.
من جانبها، قالت وزيرة الرعايا الفرنسيين بالخارج صوفي بريماس، خلال تدخل لها في الجمعية الوطنية، إن الدولة تعمل "بصمت" لضمان حقوق صنصال، وهو ما اعتبره البعض موقفاً متسماً بالحذر.
اليمين المتطرف وقضية بوعلام صنصال
في المقابل، بدا جلياً أن الأصوات الأشد دفاعاً عن بوعلام صنصال أتت من محسوبين على التيار اليميني المتطرف في فرنسا، أبرزهم رئيس حزب "الاسترداد" إريك زمور، الذي كان من أوائل المعترضين على اعتقاله، واصفاً إياه بـ"الصديق".
من بين ما يفسر ذلك، تقارب وجهات النظر بين الطرفين حول تاريخ الجزائر والماضي الاستعماري الذي عاشته، إضافة إلى الموقف المعادي لما يسمونه "الإسلام السياسي".
في السياق ذاته، يُرجح كثيرون أن أسباب الاعتقال تعود إلى تصريحات أدلى بها بوعلام صنصال في أكتوبر لمجلة "Frontières"، التابعة لليمين المتطرف، حول الحدود الجزائرية-المغربية.
خلافاً لزملائها، نددت مالكة سوريل، النائبة البرلمانية عن حزب التجمع الوطني (RN)، باستخدام القضية للتعبير عن الكراهية تجاه الجزائر، ووصفت ذلك بأنه يضر بقضية صنصال.
في الجانب الآخر، نادت ماتيلد بانو، القيادية في حزب "فرنسا الأبية"، بالإفراج الفوري عن صنصال، لكنها أشارت بالمقابل إلى وجود سجناء سياسيين في فرنسا، مما يبرز ازدواجية المعايير وفق رأيها.
من جانبها، طالبت زعيمة حزب "التجمع الوطني"، مارين لوبان، الحكومة الفرنسية بـ"التحرك من أجل الإفراج الفوري" عن بوعلام صنصال، ووجهت التحية لـ"المناضل من أجل الحرية والمعارض الشجاع للإسلاميين".
أما المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا "كريف" فقد عبر في تدوينة عن "دعمه لبوعلام صنصال، المعتقل في الجزائر". ووصفه بـ"كاتب النور المدافع عن القيم العالمية، الذي يواجه الظلامية". وطالب بـ"الإفراج الفوري عنه".
التفاعل مع قضية اعتقال صنصال بلغ صداه في البرلمان الأوروبي، حيث أعرب رافائيل غلوكسمان، رئيس نواب الاشتراكيين الفرنسيين، عن دعمه الواضح للكاتب، مؤكداً على أهمية حرية التعبير. ماري توسنت، ممثلة الخضر، صرحت من جانبها بأن دعم صنصال "يتعدى شخصه ليشمل دعوة لتحرير الشعب الجزائري من القمع المستمر".
نواب اليمين واليمين المتطرف ذهبوا أبعد من ذلك، إذ دعا فرانسوا كزافييه بيلاّمي، عن حزب الشعب الأوروبي، إلى استخدام "أدوات ضغط" لإجبار الجزائر على إطلاق سراح صنصال، بما في ذلك تعليق المساعدات التنموية وتهديد اتفاقية الهجرة لعام 1968.
أما النائبة المعروفة بمواقفها اليمينية المتطرفة، ماريون مارشال، فهاجمت النظام الجزائري بقوة، ووصفته بـ"دولة مارقة"، واقترحت بسخرية مبادلة صنصال بـ3,500 سجين جزائري في فرنسا.
حسب أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الجزائر، رضوان بوهيدل، فإن اليمين المتطرف لا يبغي بدفاعه عن صنصال الانتصار لحرية التعبير، ولكن "هناك غايات أخرى تتمثل في تشويه صورة الجزائر والضرب في نزاهة قضائها وعدالتها".
وأضاف بوهيدل، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "تحرك اليمين المتطرف له هدف مزدوج يتمثل من جهة في الضغط على الحكومة الفرنسية كي تتدخل، واستفزاز الجزائر من جهة أخرى كي ترد، لكن هذا أمر سيادي في رأيي لا يحق لجهة خارجية التدخل فيه".
المتحدث شدد على أن فرنسا "لو أرادت الدفاع عن حرية التعبير، فالأولى أن تهتم بما يحدث في غزة ولبنان وسوريا وغيرهما من المناطق، حيث ينكل الكيان الصهيوني بالأطفال والنساء والشيوخ"، مؤكداً أن "الجزائر ترفض سياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير".
"توظيف سياسي" لقضية الكاتب الجزائري
وفق مراقبين، فإن الجدل حول القضية يعكس انقساماً سياسياً وأخلاقياً، حيث يجري استخدام ملف بوعلام صنصال لتصفية حسابات أيديولوجية ودبلوماسية بين الأطراف المختلفة.
بعض المثقفين الفرنسيين من أصول جزائرية عبروا عن استيائهم من الدفاع الشرس لليمين المتطرف عن صنصال، وشككوا في صدقية دعمهم لحرية التعبير، متهمين سياسيين باستغلال القضية لمهاجمة الجزائر.
كريم زريبي، السياسي الفرنسي وعضو البرلمان الأوروبي السابق عن حزب الخضر، هاجم بوعلام صنصال، واصفاً إياه بـ"كاتب زائف معادٍ للإسلام وينشر الكراهية".
ونشر كريم زريبي، عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو من مقابلة له مع إذاعة "Beur FM" انتقد فيه بشدة الدعم المقدم للكاتب بوعلام صنصال، خاصة من قبل اليمين المتطرف.
وقال زريبي: "مارين لوبان وجوردان بارديلا يدعمانه لأنهما يحبان الجزائريين فقط عندما يهينون الجزائر أو ينشرون الكراهية ضد الإسلام والمسلمين". وأكد أن "دفاعهما عن صنصال ليس بسبب أدبه أو دعوته للحرية، بل نتيجة استغلال سياسي يخدم مصالح اليمين المتطرف".
زريبي اقترح إجراءات جذرية ضد الكاتب بوعلام صنصال، داعياً السلطات الجزائرية إلى "منعه من دخول البلاد أو حتى سحب جنسيته الجزائرية". ورغم تأكيده أنه "لا يتمنى أن يقضي صنصال 15 أو 20 عاماً في السجن"، إلا أنه شدد على "ضرورة الوقوف في وجهه لأنه يخدم أجندة اليمين المتطرف وبعض المثقفين الرجعيين".
عضو حزب فرنسا الأبية، زياد همدر، يرى أن اليمين المتطرف وفرقاء آخرين، إضافة إلى الإعلام التقليدي، يستغلون قضية صنصال للتشهير بالجزائر، لما يحمل التاريخ بين البلدين من آلام خسارة المستعمر القديم لامتيازاته الاستعمارية ونيته الانتقام من الوطن المتحرر.
ويضيف المتحدث لـ"عربي بوست" أن هذا الدفاع المقنع يدخل في إطار السياسة الداخلية الفرنسية والصراع بين الفكر الاستعماري من جهة، الذي يطال معظم القوى السياسية ولو على درجات مختلفة، ومن جهة أخرى فهو مرتبط بفكر معادٍ للعنصرية يتنامى ويتجلى عند فرقاء سياسيين عدة، وأبرزهم حزب فرنسا الأبية، الذي لا يتهرب من هذا الأمر، كما تجلى ذلك في القضية الفلسطينية وقضية كاليدونيا/كاناكيا.
من جهة أخرى، يرجح همدر أنه بعد الخيار الاستراتيجي الذي انتهجه ماكرون بالتحيز إلى المغرب ودعم مقترحه للحكم الذاتي في الصحراء الغربية، قد تزيد قضية صنصال الطين بلة وتسهم في توسيع هوة الخلاف، موضحاً أن "السلطات الجزائرية لن تبذل أي جهد لتقديم تنازلات، بل ستزيد من ضغطها كي تنتزع مواقف فرنسية لصالحها في القضايا الأكثر أهمية".
إضافة إلى ذلك، فإن النظام الجزائري، وفق المتحدث، "يستخدم مثل هذه القضايا لتعويم النقاش وصرف النظر عن المشاكل الداخلية". ويخلص إلى أن "العلاقات التاريخية بين البلدين تحتاج حلاً صادقاً وجذرياً، وهذا لن يتأتى إلا بتغيير الحكومة الفرنسية واستبدالها بأخرى أكثر استعداداً لطي هذا الملف".
صمت جزائري رسمي
حتى اليوم، لم تتفاعل الحكومة الجزائرية رسمياً مع الحملة ضد اعتقال بوعلام صنصال، لكن وسائل الإعلام الجزائرية ومثقفين شددوا على ضرورة الدفاع عن سيادة البلاد وأكدوا موقفها الرافض لأي تدخل خارجي.
وفقاً لمحللين سياسيين، تُعتبر هذه القضية جزءاً من استراتيجية الجزائر للتعامل مع الأوضاع الداخلية ومحاولة الحد من الضغوط الدولية، خاصة من الجانب الفرنسي. إذ تشير بعض التحليلات إلى أن السلطات الجزائرية قد تستغل الحملة لتقوية خطابها المناهض للاستعمار الفرنسي، مع تأكيد استقلال قرارها السياسي والقضائي.
لكن، في الوقت نفسه، يثير اعتقال بوعلام صنصال النقاش حول الحريات الثقافية والفكرية في الجزائر، حيث يرى البعض أن السلطات تحاول استباق أي تحديات داخلية قد تتصاعد نتيجة انتقادات من شخصيات بارزة مثل صنصال.
حسب الأستاذ بوهديل، فإن "الضغط اليوم على ماكرون أكثر منه على الجزائر، التي لن ترضخ لأي ضغط وترفض التدخل في شؤونها الداخلية، فملف الشخص المعني معروض أمام العدالة، ولا يمكن الإفراج عنه إلا بأمر قضائي مستقل، وليس بسبب ضغط فرنسا".
وأوضح المتحدث: "لعل ماكرون يعي هذا الأمر، لذلك فهو يتحاشى الحديث بشكل مباشر عن أي شيء يزعج الجزائر ويترك الأحزاب والسياسيين يعبرون عن موقفه بشكل غير مباشر. والسبب أنه متخوف من تصعيد التوتر مع الجزائر، خاصة بعد سحب سفيرها مؤخراً".