تستغلها السلطات الفرنسية لملاحقة المتضامنين مع فلسطين: تفاصيل مقترح قانون لإلغاء “جريمة الإشادة بالإرهاب”

عربي بوست
تم النشر: 2024/11/28 الساعة 09:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/11/28 الساعة 09:59 بتوقيت غرينتش
مظاهرة في فرنسا تضامناً مع غزة (أرشيفية)/الأناضول

"انتصاراً لحرية التعبير وسعياً لكبح الملاحقات القضائية ضد المتضامنين مع القضية الفلسطينية"، قدم حزب "فرنسا الأبية" (La France Insoumise) اليساري مؤخراً مقترح قانون في الجمعية الوطنية الفرنسية لإلغاء "جريمة الإشادة بالإرهاب" من قانون العقوبات الفرنسي.

وفقاً للنائب الذي صاغ النص، أوغو برناليسيس، فإن الغاية من هذه الخطوة هي تعزيز حرية التعبير، إذ يرى أن القانون الجنائي الحالي يُستخدم بشكل غير سليم من خلال استغلال "مكافحة الإرهاب"جريمة الإشادة بالإرهاب" لتقييد حرية التعبير، خصوصاً فيما يتعلق بالآراء السياسية المثيرة للجدل أو حول قضايا دولية مثل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

يجرّم القانون الحالي كل التصريحات التي قد يُنظر إليها على أنها "تمجيد للإرهاب"، ما جعل عدداً من الشخصيات والمواطنين عرضة للملاحقة القضائية، بمن فيهم منتقدو إسرائيل، ومن بينهم رئيسة الكتلة النيابية لحزب "فرنسا الأبية" في الجمعية الوطنية، ماتيلد بانو.

منظمة العفو الدولية "أمنيستي"، وكثير من الخبراء القانونيين، يرون أن تعريف الجريمة فضفاض للغاية، ما يهدد حرية التعبير وقد يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان.

أمنيستي انتقدت في تقاريرها عدة حالات لأشخاص تمت محاكمتهم في فرنسا بسبب تصريحات أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي اعتُبرت "إشادة بالإرهاب"، رغم أنها لم تحرض على العنف بشكل مباشر. ودعت إلى تعديل هذه القوانين لضمان احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

مضامين المقترح لإلغاء "جريمة الإشادة بالإرهاب"

تعرض المقترح لانتقادات شديدة من المعسكرات السياسية الأخرى، بما في ذلك اليمين والائتلاف الحكومي، حيث اعتبر البعض أن إلغاء هذا القانون قد يُضعف أدوات مكافحة الإرهاب في فرنسا.

هذا الجدل يثير، وفق مراقبين، عدة تساؤلات حول ضرورة تحقيق التوازن بين الحفاظ على الأمن القومي وضمان الحريات الأساسية.

ويتضمن مقترح القانون ثلاث مواد، تتمحور أساساً حول الإلغاء الكامل للمادة القانونية 421-2-5 التي تنص على تجريم الإشادة بالإرهاب، وإعادة النظر في القوانين المرتبطة بمكافحة الإرهاب بشكل عام.

وتهدف هذه التعديلات، حسب واضعيها، إلى ضمان عدم استغلالها لأغراض سياسية أو لقمع الآراء المعارضة، وتعزيز الضمانات الدستورية لحرية التعبير، خصوصاً في القضايا ذات الطابع السياسي أو الدولي التي قد يُساء تفسيرها على أنها "إشادة بالإرهاب".

وتنص المادة الثانية من المقترح على تقديم الحكومة تقريراً إلى البرلمان، في غضون ستة أشهر من تاريخ صدور هذا القانون، حول استخدام المادة 421-2-5 من قانون العقوبات من قبل المؤسسات القضائية منذ إدراجها في قانون العقوبات.

كما تنص المادة الأخيرة على تقديم الحكومة إلى البرلمان تقريراً مماثلاً في غضون المدة نفسها حول استخدام المادة المذكورة، فيما يتعلق بالهجمات التي تعرضت لها إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023.

جان لوك ميلينشون زعيم حزب المعارضة الفرنسي اليساري فرنسا الأبية / رويترز
جان لوك ميلينشون زعيم حزب المعارضة الفرنسي اليساري فرنسا الأبية / رويترز

قانون الإرهاب لقمع منتقدي إسرائيل

يشير المقترح أيضاً إلى أن استخدام "جريمة الإشادة بالإرهاب" لقمع النشطاء السياسيين، والنقابيين، والصحفيين، أو حتى المدافعين عن القضايا الاجتماعية يتنافى مع قيم الديمقراطية التي تزعم فرنسا تبنيها. ويذكّر بأنه تحت ذريعة "الإشادة بالإرهاب"، تم التحقيق مع مسؤولين نقابيين وملاحقتهم قضائياً، بل وحُكم على بعضهم بعقوبات وصلت إلى السجن.

في هذا السياق، أشار الحزب إلى أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان طالما أكدت أن حرية التعبير تشمل الأفكار والمعلومات التي قد تصدم أو تزعج الدولة أو جزءاً من المجتمع.

وأضاف أن وسائل مكافحة الإرهاب استُخدمت بانتظام في فرنسا خارج أهدافها من قبل الحكومات المتعاقبة لتقييد حرية التعبير، كما حدث في السنوات الأخيرة ضد الصحفية الاستقصائية أريان لافريو، أو حتى ضد متظاهرين خلال احتجاجات "الأواني".

ضحايا "الإشادة بالإرهاب"

في الآونة الأخيرة، شهدت فرنسا متابعة عدد من السياسيين بتهمة "الإشادة بالإرهاب"، التي توسّع تعريفها القانوني عقب هجمات نوفمبر 2015 في باريس.

من أبرز ضحايا هذا القانون، النائبة عن حزب "فرنسا الأبية" ورئيسة كتلته البرلمانية، ماتيلد بانو، التي أُخضعت للتحقيق إثر بيان صدر عن حزبها في أكتوبر 2023 بعد عملية "طوفان الأقصى". وصف البيان العملية بأنها "عمل مسلح" ووجّه انتقادات لإسرائيل، ما أثار جدلاً واسعاً واتهامات بالإشادة بالإرهاب. أثارت هذه القضية مخاوف بشأن استغلال التهمة لتقييد حرية التعبير في النقاشات السياسية.

كما أُدينت شخصيات أخرى، من بينهم جان بول ديليسكو، وهو مسؤول نقابي، نتيجة تصريحات أدلى بها دعمًا للقضية الفلسطينية. وشملت الاتهامات ناشطين وأكاديميين تبنّوا مواقف اعتُبرت مثيرة للجدل بشأن قضايا مشابهة.

ريما حسن، الفرنسية الفلسطينية التي فازت بمقعد في البرلمان الأوروبي عن حزب "فرنسا الأبية" خلال الانتخابات الأخيرة، واجهت بدورها اتهامات بـ"الإشادة بالإرهاب" على خلفية تصريحاتها حول القضية الفلسطينية والهجمات في إسرائيل. جاءت الاتهامات بناءً على بلاغ قدّمته جمعية الشباب اليهودي الفرنسي في يناير 2024 إلى النيابة الوطنية لمكافحة الإرهاب.

هذه الاتهامات أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والحقوقية. المحامي هنري لوكلير، الرئيس الشرفي لرابطة حقوق الإنسان، وصف هذه الإجراءات بأنها "اعتداء على حرية التعبير". وصرح في مقابلة إذاعية: "الإشادة بالإرهاب لا ينبغي أن تُستغل كذريعة للحد من النقاش السياسي والتعبير الحر".

"استغلال سياسي للقانون"؟

بعد إنشاء "جريمة الإشادة بالإرهاب" والتحريض على الإرهاب بموجب قانون 13 نوفمبر 2014 لمكافحة الإرهاب، تفاقم استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لتضييق حرية التعبير. أصبحت التصريحات التي كانت تُعالَج سابقاً وفق قانون 29 يوليو 1881 تُدرَج الآن تحت المادة 421-2-5 من القانون الجنائي، مما يسمح بتطبيق قواعد الإجراءات الجنائية العامة بدلاً من تلك المحددة لحماية حرية التعبير.

في تقرير نُشر في مارس 2019، حذرت المقررة الخاصة المعنية بتعزيز وحماية حقوق الإنسان أثناء مكافحة الإرهاب، فيونوالا ني أولين، من أن "تجريم جريمة الإشادة بالإرهاب له عواقب وخيمة على حرية التعبير". ووصفت القانون بأنه "صيغ بعبارات غامضة"، ما يؤدي إلى انعدام الأمان القانوني وخطر إساءة استخدام السلطة.

يرى منتقدو قانون "جريمة الإشادة بالإرهاب" أن البعض يستخدمه لتسوية حسابات سياسية، مما يؤدي إلى منع المظاهرات والمؤتمرات والتعبيرات العامة تحت ذريعة "الإشادة بالإرهاب".

توغل اللوبي الصهيوني في فرنسا/ رويترز
توغل اللوبي الصهيوني في فرنسا/ رويترز

تصاعد الإجراءات بعد "طوفان الأقصى"

بعد عملية "طوفان الأقصى"، عززت الحكومة الفرنسية استغلال هذا المفهوم عبر تعميم أصدره وزير العدل السابق إيريك دوبوند موريتي في 10 أكتوبر 2024. أدى ذلك إلى زيادة ملحوظة في الإجراءات القضائية بتهمة "الإشادة بالإرهاب"، التي بلغت 626 قضية بحلول 30 يناير 2024.

بحسب نواب حزب "فرنسا الأبية"، فإن الهدف من مقترحهم إلغاء هذا القانون هو حماية حرية التعبير، لا سيما في النقاش السياسي، بعيداً عن تدخل السلطات.

تُواجه الملاحقات القضائية بتهمة "الإشادة بالإرهاب" انتقادات حادة داخل فرنسا، إذ يعتبر كثيرون أنها تُستخدم كذريعة لتصفية حسابات سياسية أو قمع الأصوات المعارضة.

ومع استمرار الحرب على غزة وتداعياتها في أوروبا، تتصاعد حدة الخطاب اليميني المتطرف الداعم لإسرائيل. تستخدم السلطة لهذا الغرض نصوصاً قانونية فضفاضة تشمل عقوبات مشددة على المدافعين عن القضية الفلسطينية أو المنتقدين للإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين.

جدل حول إلغاء القانون

لم تقتصر الانتقادات لمقترح حزب "فرنسا الأبية" لإلغاء "جريمة الإشادة بالإرهاب" على الخصوم السياسيين، إذ عبّر وزير العدل، المحسوب على اليسار، عن رفضه الشديد للمقترح. وفي تصريح أدلى به الاثنين 25 نوفمبر/تشرين الثاني، قال الوزير إنه "مصدوم للغاية" و"معارض تماماً" لهذا المشروع.

وفي مقابلة مع قناة "فرانس 2″، قال الوزير ميغو: "لا أفهم كيف يمكننا التراجع أمام تهديد الإرهاب الذي ما زال حاضراً بقوة اليوم". وأضاف: "هذا أمر مشين ويجب محاربته بأشد قوة (…) حرية التعبير لم تكن يوماً بلا حدود، هناك قيود على هذه الحرية". وأوضح أن "الإشادة التي تتيح تبرير أو إيجاد أعذار مخففة لعمل إرهابي هي أمر غير مقبول"، مؤكداً ضرورة "محاربتها بأقصى قوة".

من جانبه، أدان وزير الداخلية برونو ريتايو يوم الأحد 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 مقترح القانون، داعياً الأحزاب اليسارية الأخرى إلى "الانفصال نهائياً" عن حزب "فرنسا الأبية". وفي تصريحاته للصحافة، قال ريتايو: "أدعو بشدة أولئك الذين ينتمون إلى اليسار، الذين لا يزال لديهم وعي سياسي، والذين يهتمون بالجمهورية، إلى الانفصال نهائياً عن حركة فرنسا الأبية". جاءت هذه التصريحات عقب خطاب ألقاه الوزير في المؤتمر السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF).

وفيما يخص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرغم عدم تعليقه بشكل مباشر على المقترح حتى الآن، فقد أعرب في مناسبات سابقة عن موقفه الحازم بشأن قضايا الإرهاب والدفاع عن القيم الفرنسية. وشدّد ماكرون مراراً على أن "الإشادة بالإرهاب" تشكل خطراً على المجتمع، مشيراً إلى أنه يجب التصدي لها بقوة قانونية وأخلاقية.

وأكد الرئيس الفرنسي أن بلاده ملتزمة بالحفاظ على وحدتها وقيمها الديمقراطية، ودعا إلى التصدي للخطاب المثير للكراهية والتفرقة، سواء داخل فرنسا أو في سياق الأزمات الدولية مثل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. كما شدّد على أهمية تطبيق القوانين بصرامة لحماية الأمن القومي.

انتقادات لاستغلال القانون سياسياً

على الجانب الآخر، يرى مراقبون أن اليمين المتطرف يوظف قضية "الإشادة بالإرهاب" لتعزيز أطروحاته المناهضة لحرية التعبير، مع التركيز على استهداف السياسيين اليساريين أو المنظمات المدافعة عن الحقوق المدنية. ويستشهد المعارضون للقانون بحوادث اتهام أعضاء حزب "فرنسا الأبية" بدعم الإرهاب كدليل على استغلال القانون لتصفية الحسابات السياسية.

كما تنتقد زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، باستمرار القوانين التي تتيح مساحة تعبير أوسع للمنظمات والسياسيين اليساريين، وتطالب بتعديلات قانونية لتشديد الإجراءات العقابية ضد أي خطاب يُفهم منه "تساهل" مع الإرهاب.

يؤكد محللون أن الخطاب اليميني المتطرف يسعى إلى ترسيخ فكرة أن حرية التعبير يجب أن تكون مقيدة عند ارتباطها بقضايا دينية أو أمنية. ويُتهم هذا التيار أيضاً بتوظيف الأحداث لتأجيج العداء تجاه الأقليات، ما يثير مخاوف حول استغلال مثل هذه القوانين لتقييد الحريات المدنية في فرنسا.

تحميل المزيد