عربي بوست
تم النشر: 2024/11/07 الساعة 20:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/11/07 الساعة 20:26 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/رويترز

لم تكتف السلطات المصرية بإعلان وزير الثقافة، أحمد حنفي، وقف عمليات الهدم في منطقة مقابر الإمام الشافعي (بالقاهرة التاريخية في وسط العاصمة) مؤقتًا لحين التنسيق مع الجهات المعنية ودراسة موقف الأضرحة والمقابر المطلوب إزالتها.

بل دفعت رئيس الوزراء مصطفى مدبولي للتأكيد على أن ما حدث من تجاوزات "لن يتكرر مرة أخرى"، وهو ما بدا ظاهريًا أنه انحناء لموجات الغضب التي طالت قطاعات مختلفة جراء الاستمرار في الاعتداء على المناطق التاريخية بشكل مستمر خلال السنوات الماضية.

وقال مدبولي، خلال المؤتمر الصحافي الأسبوعي مع وسائل الإعلام المختلفة، الأربعاء: "إن الدولة لن تسمح بالمساس بأي مبنى أثري أو تراثي، وسواء كان الأثر مسجلًا أو غير مسجل لن يتم الاقتراب منه بأي حال من الأحوال".

وأضاف رئيس الوزراء المصري أن هذه الخطوة جاءت "تجاوبًا مع الشكاوى المقدمة ونتعامل معها، وبالتالي هذه الأحداث لن تتكرر مرة أخرى، وأنه جاء تكليف فوري بإيقاف هدم مقابر الإمام الشافعي".

وقبل أيام أثار هدم قبة "مدفن مستولد محمد علي باشا" الشهير في مدفن حليم باشا بجبَّانة الإمام الشافعي في القاهرة التاريخية موجة واسعة من الغضب بعد نشر ناشطين ومهتمين بالتراث والآثار صوراً توثق عملية هدم القبة.

وكانت تتميز بطراز معماري فريد ونقوش مميزة، وذلك بعد أيام من هدم مدفن إبراهيم النبراوي، مع مدافن أخرى، وجميعها تتواجد في المقابر التاريخية بوسط القاهرة.

في هذا التقرير، وبالاعتماد على مصادر "عربي بوست"، سنتعرف على أسباب تراجع الحكومة المصرية عن هدم مواقع تاريخية وسط القاهرة.

تراجع قوة الدولة دفع إلى تأجيل الهدم

كشف مصدر حكومي مطلع، أن ليس الاعتراضات التي طالت عملية الهدم من جانب قطاعات كبيرة من المثقفين والنقابات المهنية والقوى السياسية فقط هي ما جعل الحكومة تنحني للعاصفة، لكن هناك أسباب أخرى منها أن مخصصات بناء الطرق الجديدة لم تتوفر بالكامل بعد، وبالتالي وجدوا أنه ليس هناك حاجة للاستعجال في الوقت الحالي.

وأضاف المتحدث أن هدم هذه المقابر كان من المفترض أن يتم العام الماضي وتأخر بسبب اعتراضات مماثلة، وأن تصوير الحكومة كونها تُعادي الماضي الذي ينظر إليه المصريون على أنه ركيزة تاريخية مهمة ورمز لقوة الدولة التي أخذت في التراجع بعد ذلك دفع لاتخاذ قرارات بتجميد العمل على مسارات التطوير الحالية.

وأوضح المصدر ذاته، أن العمل لن يعود في القريب العاجل للمناطق الأثرية والتاريخية بوسط القاهرة، وأن التوجيهات التي جاءت من رئاسة الوزراء تضمنت تجميد العمل بشكل كلي دون أن تحدد موعداً للعودة، وفي حال جرى التفكير في استكمال مخططات تطوير تلك المنطقة فإنه لن يتم قبل إجراء انتخابات منظمة اليونسكو التي يترشح على رئاستها وزير السياحة والآثار الأسبق خالد العناني، العام المقبل.

مشيراً إلى أن عملية توثيق المقابر التاريخية في تلك المنطقة يشغل اهتمام الباحثين الأثريين، بما يساهم في التأثير على مواقف الحكومة ودفعها لتطوير المنطقة كمزار سياحي وليس لإقامة طرق وجسور وفنادق كما هو مخطط لها.

عواصم عربية طالبت القاهرة بالتوقف عن إجراءات الهدم

وشدد المصدر ذاته على أن مصر تخشى صدور بيانات انتقاد من جانب منظمات دولية مهتمة بالتراث، وأن وزارة الخارجية التي تحاول توفير الدعم اللازم لحملة ترشيح العناني وتتيح له التواجد في بلدان مختلفة لعرض خطته لإدارة المنظمة الدولية اعترضت بشكل كبير على اختيار توقيت العمل بالمقابر التاريخية.

وحسب المتحدث أن هذا العامل قاد إلى تسريع خطوة اتخاذ قرار وقف الهدم، وأن بعض العواصم العربية طالبت القاهرة بالتوقف عن إجراءاتها بشأن التراث الإسلامي والإنساني لكي تستطيع الترويج للعناني في المحافل الدولية.

وأضاف المصدر أن قرار الحكومة يرتبط أيضًا باستضافة القاهرة الدورة الثانية عشرة من قمة المنتدى الحضري العالمي، وهو ثاني أهم حدث عالمي على أجندة الأمم المتحدة بعد قمة المناخ.

 ويمثل استضافة مصر للمنتدى فرصة لتقديم رؤيتها للتنمية الحضرية، والحكومة لم تكن ترغب في التعرض لإحراج بالغ أثناء استضافتها القمة خاصة وأنها تسعى للترويج لخططها في مواجهة العشوائيات وتخطيط المدن الجديدة والتطورات السريعة في العاصمة الإدارية الجديدة وإنشاء عدد كبير من المدن الذكية.

تستضيف القاهرة فعاليات الدورة الـ12 للمنتدى الحضري العالمي الذي ينظمه برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل) بالتعاون مع الحكومة المصرية، ويعد المنتدى ثاني أكبر حدث على أجندة الأمم المتحدة، بعد مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي.

وقال خبير أثري مهتم بالآثار الإسلامية، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن تصريحات رئيس الحكومة المصرية ومن قبلها وزير الثقافة لا تكفي للتأكد من أنها تراجعت عن خططها بشكل كامل نحو الاعتداء على المناطق التاريخية في القاهرة القديمة.

وأضاف أنه لم يحدث تعديل حتى الآن على مسارات عمل التطوير المحددة سابقًا في تلك المنطقة وهو ما يجعل الكثير من المهتمين يرون بأنها قد تكون خطوة لامتصاص الغضب وكسب مزيد من الوقت قبل أحداث وفعاليات عالمية تتواجد فيها مصر بصورة كبيرة.

وأوضح أن التحذيرات التي وجهها العديد من الأكاديميين والأثريين في مصر خلال السنوات الماضية لم يتم الاستجابة لها، ومع انطلاق مخططات التطوير يبقى هناك توجس من إمكانية التراجع بشكل نهائي عنها، بخاصة وأن العديد من مشروعات التطوير تقع ضمن مساحة القاهرة التاريخية.

وقال إن مساحة القرافة الأثرية الموجودة منذ عهد عمرو بن العاص مع بدء دخول الإسلام إلى مصر يشكل ضعف هذه المساحة، كما أن اليونسكو حينما أدرجت القرافة المصرية التاريخية لم تسمِّ أماكن بعينها ولكنها أدرجتها بالكامل ضمن التراث المعماري وهو ما يتطلب تراجع الحكومة عن كل مسارات التطوير حال قررت الالتزام بالحفاظ على المواقع التراثية مثلما تؤكد حاليًا.

إهمال الحكومة لتراثها التاريخي

وشدد المصدر على أن عمليات الهدم التي استمرت على فترات متقطعة خلال السنوات الماضية كشفت عن وجود كنوز أثرية مهمة أسفلها، وحدث ذلك حينما أقدمت على هدم حوش عُتَقاء الأمير إبراهيم حلمي ووجدت شاهد أثري عمره أكثر من 1100 عام، وتم إلقاؤه وسط الركام قبل أن يتم التعرف عليه بواسطة خبراء الآثار، وهو ما تطلب إغلاقًا كاملاً للمنطقة وعمل حفريات على أسس علمية قبل التدخل للتعامل مع أي مناطق تراثية.

مشيراً إلى أن الحكومة لجأت في السابق إلى تغيير مسارات خطط الهدم أكثر من مرة حينما كانت تصطدم بمعارضة شعبية لكن ذلك لم يوقف عملية الاعتداء على مناطق تراثية أخرى أكثر أهمية.

وشدد على أن الإقدام على خطوة تغيير مسار الهدم في نفس القرافة لن يحل المشكلة ورغم أن كثيرًا من المناطق التاريخية تبدو عشوائية ولا يعرف كثير من المصريين عنها شيئًا غير أن ذلك يُسهّل التعامل معه.

وقال إن المشكلة في إهمال الحكومة لتراثها التاريخي ولا يجب أن يتم التعامل معه بالهدم، كما أن الهدم هو الإجراء الوحيد الذي لا يمكن إصلاحه وبعد أن تحول "مدفن مستولدة محمد علي باشا" إلى ركام من المستحيل إعادته مرة أخرى.

الجهات الحكومية تتحايل لتنفيذ الهدم

وأشار وزير الثقافة المصري أحمد هنو، في تصريحات صحافية، إلى بحث وزارة الثقافة بالتعاون مع الجهات المعنية إمكانية الإبقاء على الأضرحة في مكانها، أو إمكانية نقلها إلى مكان آخر، مؤكداً أن "وقف الهدم سيتم لحين دراسة موقف الأضرحة والمقابر الموجودة في اتجاه المحور المروري الجديد".

وذكر أن "وزارة الثقافة تحرّكت بشكل سريع لوقف عملية هدم المقابر الجارية بشكل مؤقت، وإتاحة الفرصة لبحث الأمر"، وأنه جرى عقد اجتماعات مُطوّلة مع كل الجهات المعنية، وطُلب منهم التنسيق ووقف الهدم، وأن وزارته أعدّت طرحًا جديدًا يتضمن تفادي مسار الطريق الجاري إنشاؤه لعدد من الأضرحة التي يتم إزالتها، وبعضها الآخر سيتم نقله ويُحافظ عليه بمعرفة وزارة السياحة والآثار لأنها هي الوزارة المعنية بذلك.

ومنذ عام 1979، سجّلت منظمة اليونسكو منطقة القاهرة التاريخية كموقع تراثٍ عالميّ. ورغم أن هذا التصنيف شمل منطقة مقابر الإمام الشافعي، إلا أنه لم يحمها من التعرض للتلف بسبب المياه الجوفية التي تشكل تهديدًا على أساسات الكثير منها، كما باتت المنطقة منعزلة وملاذًا لممارسات غير قانونية.

وفي عام 1983، أصدرت مصر القانون رقم 117 لحماية الآثار ونصّت على اعتبار كل عقار "نتاج للحضارة المصرية أو الحضارات المتعاقبة" مرّ على بنائه 100 عام "أثرًا لا يُمكن هدمه"، لكن أيضًا لا يتم الالتزام به.

وكشف مصدر بوزارة السياحة والآثار تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، عن أن عدم إدراج كثير من الجبانات والأماكن الأثرية التاريخية لدى اليونسكو يعود لتقصير من جانب الجهات الحكومية التي من المفترض أن تطلب إدراجها.

وقال إن ما يحدث حاليًا هو العكس تمامًا، إذ أن الوزارة تعمل على إصدار قرارات من لجنة التراث التابعة لهيئة التنسيق الحضاري باعتبار كثير من المقابر والجبانات مناطق غير أثرية وذلك لتسهيل مهمة هدمها، غير أن إدراج كثير من الجبانات والمواقع الإسلامية فيها جاء بمجهود فردي من جانب المهتمين بالآثار الإسلامية.

وأوضح أن الحكومة ترتكن إلى أن 90% من هذه المواقع الأثرية ليس لديها ورثة، وفي حال كانوا على قيد الحياة فإن أغلبهم لا يتواجدون في مصر، وبالتالي تنشر قرارات خروج تلك الجبانات من لجنة التراث عبر قرارات تنشرها بالجريدة الرسمية دون أن يعترض أحد.

مشيرًا إلى أن قرار رئيس الوزراء يمكن أن يساهم في إعادة النظر بشأن تطوير هذه المناطق وأن الحكومة قد تتجه لصيانة وترميم بعض الآثار التي يمكن أن تستفيد منها سياحيًا.

"منطقة بكر" لم يتم اكتشافها

يشدد المصدر على أن منطقة القراقة يمكن إطلاق عليها مصطلح "منطقة بكر" بمعنى أن كثيرًا من المقابر والجبانات التاريخية فيها لم يتم اكتشافها بعد وأن الأمر يقوم على الاجتهادات الشخصية من الباحثين دون أن يكون هناك خطة واضحة من وزارة السياحة والآثار.

وقال إن الأشهر الماضية كانت شاهدة على سرقة العديد من شواهد القبور وبيعها أنتيكات في الأسواق والمحال التجارية بل في بعض الأحيان على أرصفة الشوارع رغم أهميتها التاريخية.

ليس لدى المصدر ذاته تقدير لحجم الجبانات التي جرى هدمها ضمن خطط التطوير، لكنه أشار إلى أن المشكلة في فقدان مدافن ذات طراز معماري فريد، إلى جانب خسارة مدافن العديد من الشخصيات البارزة مثل مدفن رئيس وزراء مصر الأسبق محمود سامي البارودي، ورفيق باشا العزمي رئيس الوزراء السوري الأسبق.

بالإضافة إلى إسماعيل باشا سليم قائد البحرية المصرية في عهد إسماعيل باشا، واستراحة علي باشا فهمي أحد أبرز قيادات الثورة العرابية، لافتًا إلى أن ما جرى هدمه لا يمثل نسبة كبيرة من إجمالي المدافن لكن الخسارة تبقى في التراث الجمالي والتاريخي.

وتنصّلت وزارة السياحة والآثار المصرية في أكثر من مناسبة من "مسؤوليتها عن أعمال هدم مدافن في قرافة الإمام الشافعي والسيدة عائشة، وقالت إنه لم يتم هدم أي مدفن مسجل بقوائم الآثار.

وفي عام 2019، بدأ الحديث عن إزالة أجزاء من مقابر الإمام الشافعي لأول مرة بمبرر تنفيذ أعمال توسعة أحد الطرق في هذه المنطقة. وحتى الآن، لم يتم الإعلان عن التفاصيل الكاملة لهذا المشروع في ظل تغيرها أكثر من مرة، وعدم توفر خرائط رسمية تكشف مسارات الطرق والجسور المزمع إنشاؤها في المناطق التي ستُزال المقابر منها.

وأطلقت صفحة إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية على فيسبوك، حملة توقيعات لوقف هدم جبانات مصر التاريخية، وقالت الصفحة في بيان إن جبانات مصر التاريخية تتعرّض، منذ أربع سنوات، لموجات من التدمير الممنهج يتم على دفعات، تتوقف مؤقتًا مع تصاعد الرفض المجتمعي الذي تروعه مشاهد الجرافات وهي تزيل حجارة الألف عام، وتدكّ عظام الموتى بشراسة وعنف لا مثيل لهما، دون أي اعتبار للتاريخ والأعراف الإنسانية والديانات السماوية.

وكانت محافظة القاهرة قد أصدرت قرارًا بتعليق عمليات دفن الموتى في اثنتين من أشهر مقابرها التاريخية، تقعان في نطاق محور صلاح سالم المروري الجديد، وهما مقبرة الإمام الشافعي ومقبرة السيدة نفيسة، تمهيدًا لإزالتهما، ونقل رفات المتوفين فيهما إلى مدافن التعويضات البديلة في مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية.

ودفعت احتجاجات شعبية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تأليف لجنة خبراء، في يونيو/حزيران 2023، الهدف منها التوصل إلى رؤية متكاملة لتطوير المنطقة، ودراسة نقل المدافن الأثرية من السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وتجميع رفات الرموز المصرية، في ما يعرف باسم "حديقة الخالدين" بالعاصمة الإدارية الجديدة، وإنشاء متحف ملحق بها يضم القطع الفنية والأثرية الموجودة في تلك المدافن للحفاظ عليها.

وتأتي عمليات الإزالة التي طالت مقابر تاريخية في وسط القاهرة، ضمن مخطط القاهرة 2050 الذي أطلقه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، حين كان رئيسًا لهيئة تطوير المجتمعات العمرانية عام 2009.

تحميل المزيد