صفقة يوروفايتر.. إحياء الشراكة الدفاعية بين تركيا وأوروبا

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/30 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/30 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش
طائرة يوروفايتر تايفون المقاتلة تابعة للقوات الجوية الألمانية تحمل صاروخ ميتيور جو-جو بعيد المدى، الصورة: MBDA

في خضمّ التحولات المتسارعة في هندسة الأمن الأوروبي، برزت أنقرة مجدداً كلاعب لا يمكن تجاوزه في معادلة الردع والدفاع القاري. فقد شهدت العاصمة التركية زيارة رسمية لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، رافقه خلالها وزير الدفاع وقائد سلاح الجو الملكي، في حدث يعكس انتقال الشراكة بين لندن وأنقرة من مستوى التنسيق السياسي إلى تعاون عسكري مؤسَّس على المصالح المشتركة.

وكما يوضح موقع "أسباب" للدراسات الجيوسياسية في هذا التقرير التحليلي، فإن صفقة يوروفايتر تايفون التي وُقِّعت خلال الزيارة تمثّل أكثر من مجرد عقد تسليح؛ إنها خطوة استراتيجية لإعادة تعريف موقع تركيا داخل المنظومة الدفاعية الأوروبية، وجسر تكنولوجي نحو الجيل الخامس من القوة الجوية.

ماذا حدث؟

شهدت أنقرة زيارة رسمية لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر برفقة وزير الدفاع جون هيلي وقائد سلاح الجو الملكي، حيث عقد مباحثات موسعة مع الرئيس أردوغان وكبار مسؤولي الدفاع والاستخبارات والخارجية. وتوجت الزيارة بتوقيع اتفاقية تعاون تتضمن توريد عشرين مقاتلة يوروفايتر تايفون إلى تركيا، مع خيار زيادة عدد الطائرات المباعة مستقبلاً، فيما صرّح ستارمر بأن الصفقة ستعزز أمن الدول الأعضاء في حلف الناتو، وتضمن نحو 20 ألف وظيفة بريطانية في مجال تصنيع الطائرات. وأعلن وزير الدفاع التركي يشار غولر لاحقاً عن خطة لتوسيع الصفقة إلى 44 طائرة، من خلال شراء 20 من بريطانيا، و12 من قطر، و12 من سلطنة عُمان، مع بدء تسلّم الدفعة القطرية مطلع العام المقبل. تزامن ذلك مع جولة ميدانية لستارمر في مقر شركة توساش، التي تطوّر المقاتلة التركية من الجيل الخامس "قآن".

   صفقة يوروفايتر جسـر أنقرة نحو جيل خامس من القوة الجوية

تمثل الصفقة تجسيدا صريحا لمسار تعزيز الشراكة الأمنية والدفاعية بين تركيا وأوروبا، والتي تشمل أيضا دمج صناعات الدفاع التركية في خطط الاتحاد لتطوير مجمع تصنيع عسكري أوروبي يلبي تطلعات القارة الطموحة لتحقيق استقلال دفاعي تدريجي عن الولايات المتحدة، ويدعم خطط الاتحاد لردع التهديد الروسي. وفي نفس الوقت، فإن استكمال الصفقة من قبل قطر وسلطنة عمان يسلط الضوء على طبيعة الشراكة الأمنية الوثيقة بين تركيا ودول خليجية متعددة.

يُصنّع تكتل أوروبي يضم بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا طائرة يوروفايتر تايفون، ويُشترط موافقة الدول المصنعة جميعا على أي صفقة مبيعات. وقد شرعت تركيا في التفاوض حول الصفقة منذ عام 2023، لكن المحادثات تعثرت بسبب رفض برلين منح رخصة تصدير بحجة العمليات التركية في شمال سوريا وسجل أنقرة في مجال حقوق الإنسان. 

ولكن في يوليو/ تموز 2025، أزالت برلين اعتراضها في ظل تنامي قلق أوروبا تجاه الضمانات الأمنية الأمريكية للقارة، وبالتالي برزت تركيا كشريك جيوسياسي ضروري يعوض ما تفتقر إليه الجيوش الأوروبية، فلديها قواتٌ ضخمة، وتموضعٌ في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، وصناعة دفاعية واعدة، ومن ثم فإن تعزيز التعاون العسكري مع أنقرة يُعد ضرورة لتطوير هيكل أمن أوروبي أكثر استقلالا، وهو ما عبّرت عنه مؤخرا تصريحات المسؤولين البريطانيين والألمان والتي تعتبر أن "الشراكة مع تركيا حجر زاوية في أمن أوروبا".

ويتفق هذا التحول مع الاستراتيجية الأمريكية الدولية الراهنة، والتي تستهدف الانتقال من نموذج الهيمنة العالمية إلى الانخراط الانتقائي وتقاسم الأعباء الإقليمية مع الحلفاء. وتقوم هذه الاستراتيجية على أن تتولّى الدول الحليفة والشريكة المسؤولية الأساسية عن أمن مناطقها، فيما تلعب واشنطن دورًا داعمًا. وبذلك يمكن القول إن الشراكة الأوروبية–التركية تمثّل أحد تجليات التحوّل في المنظور الأمريكي للأمن الدولي، إذ تُشجّع واشنطن شركاءها الأوروبيين على تحمّل مسؤوليات أكبر في أمن القارة، فيما تكتفي بدور داعم وموجّه.

وفي موازاة هذا التحول، تعمل أنقرة على إعادة هيكلة تفكيرها العسكري الجوي في ضوء تقييم الحروب الإقليمية الممتدة منذ السابع من أكتوبر 2023، خاصة حرب الـ12 يوما بين "إسرائيل" وإيران. إذ يتجه التفكير العسكري التركي حاليًا إلى بناء قوة جوية هجينة تتكون من مزيج من مقاتلات غربية متقدمة، وطائرات محلية قيد التطوير، ومنظومة مسيّرات قتالية، وذلك بهدف إدارة فجوة الأجيال بين الأسطول القديم من طائرات F-16 التي تعود إلى تسعينيات القرن الماضي وطائرات F-4 من الجيل الثالث، وبين والأسطول المنشود الذي يُفترض أن يضم طائرات جيل خامس من طراز "قآن".

وتأتي الصفقة في سياق سباق تسلح جوي إقليمي؛ إذ تمتلك "إسرائيل" عشرات من مقاتلات F-35 الشبحية، بينما تعاقدت اليونان على 40 طائرة من الطراز نفسه إضافة إلى 34 مقاتلة رافال الفرنسية، وتحديث 83 طائرة F-16 إلى نسخة "فايبر". بينما تملك مصر والإمارات وقطر والسعودية مقاتلات رافال ويوروفايتر متقدمة. ومن ثم، يمثل شراء طائرات "يوروفايتر"، التي تنتمي للجيل 4.5، جسرًا تكنولوجيًا نحو الجيل الخامس في ظل تعثر عودة تركيا إلى برنامج F-35، حيث تجمع بين قدرات ردع جوي عالية، وأنظمة استشعار إلكترونية متقدمة، وشبكة ربط بيانات تتيح التكامل مع المسيّرات وأنظمة الدفاع الجوي التركية.

يُبرز شراء تركيا لطائرات يورو فايتر من قطر وعُمان تنسيق أنقرة مع الدوحة ومسقط، اللتان زارهما أردوغان قبل زيارة رئيس الوزراء البريطاني بأيام معدودة، حرص أنقرة على تسريع الوتيرة الزمنية لإدماج المقاتلة الأوروبية في استراتيجية الدفاع الجوي التركية، دون انتظار جداول التصنيع الطويلة في التكتل الأوروبي، ما يمنح أنقرة تغطية للفجوة بين أسطولها المتقادم ومشروع "قآن" الذي يحتاج إلى خمس سنوات على الأقل ليصبح جاهزًا للإنتاج التسلسلي.

والخلاصة، من المرجّح أن تتيح الصفقة لتركيا تعزيز حضورها في برامج التصنيع الأوروبية، فضلا عن تسريع وتيرة عودتها التدريجية إلى أطر التسليح الغربية، ما يعيد التوازن في سباق التسلح الجوي الإقليمي خلال الأعوام المقبلة.

تحميل المزيد