في منتصف يوليو/تموز 2025، عادت محافظة السويداء السورية إلى واجهة المشهد الإقليمي، بعد اندلاع مواجهات دامية بين مجموعات درزية محلية ومسلحين من العشائر البدوية، وسط فراغ أمني ناتج عن انسحاب الجيش السوري وتصعيد إسرائيلي غير مسبوق شمل ضربات مباشرة على القصر الرئاسي ومقرات سيادية في دمشق. لم يكن هذا التصعيد مجرد حدث محلي أو اشتباك طائفي عابر، بل نتيجة مباشرة لتقاطعات معقدة بين الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة في الجنوب، والخيارات الأميركية الناشئة تجاه دمشق، والضعف البنيوي في الدولة السورية.
يحاول هذا التحليل، الذي ينشره موقع "أسباب" لدراسات الجيوسياسية، تفكيك السياقات العميقة لأحداث السويداء، وشرح دوافع الأطراف الفاعلة، من إسرائيل إلى واشنطن ودمشق، وصولاً إلى القوى المحلية المنخرطة في الصراع. كما يسلط الضوء على ديناميات الجنوب السوري في ظل غياب تسوية واضحة بين دمشق وتل أبيب، وما إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار الأخير يمثل بداية لترتيب سياسي جديد، أم مجرد هدنة هشة في صراع مفتوح على أكثر من جبهة.
ماذا حدث؟
شهدت محافظة السويداء، منتصف يوليو/تموز 2025، تصعيدًا غير مسبوق في المواجهات بين مجموعات درزية محلية ومسلحين من العشائر البدوية، على خلفية هجمات متبادلة واتّهامات بالانتقام الطائفي. سبق ذلك انسحاب القوات السورية النظامية بعد تصاعد التدخل العسكري الإسرائيلي، الذي شمل أكثر من 160 غارة استهدفت مقارا عسكرية ومراكز حكومية، شملت مقر هيئة الأركان والقصر الرئاسي في دمشق. هذا التصعيد أعقبه إعلان وقف إطلاق نار بوساطة أميركية مباشرة، أعلن عنه السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الرئاسي إلى سوريا، توم باراك.
السويداء ستظل بيئة صراع حتى ترسيم العلاقة بين دمشق وتل أبيب
تعاملت الحكومة السورية مع أزمة السويداء كاختبار لحدود قدرتها على تغيير الأمر الواقع الذي فرضته "إسرائيل" في الجنوب السوري عقب سقوط نظام الأسد، وحاولت بسط النفوذ في منطقة تحذر فيها "إسرائيل" من أي تواجد عسكري حكومي مزود بأسلحة ثقيلة. لكن مع محدودية القدرة على الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، قررت دمشق سحب القوات النظامية، وإطلاق يد العشائر العربية للتحرك لنجدة البدو الذين تعرضوا لانتهاكات على يد مجموعات درزية مسلحة.
أدى تحرّك العشائر البدوية في محيط السويداء إلى فرض واقع ميداني ساهم بشكل غير مباشر في تسريع الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وعجّل بالوساطة الأميركية التي رعت تفاهمًا أمنيًا مؤقتًا لوقف القتال، وتجميد الاشتباكات، لكن دون معالجة جذرية للعوامل الاجتماعية والسياسية التي أدت لاندلاع الاشتباكات، خاصة وقد عمّقت المواجهات خطوط الانقسام الطائفي بين الدروز والبدو، ما يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي المحلي، في ظل غياب ترتيبات أمنية حقيقية، ووجود فاعلين محليين منفلتين، مثل المجموعات التابعة للزعيم الدرزي المدعوم من "إسرائيل" حكمت الهجري، والتي لم يُذكر مصيرها في اتفاق التهدئة.
جاءت الاستجابة الإسرائيلية لأحداث السويداء في إطار رؤية أمنية تستند إلى مفهوم "الدفاع الأمامي"، الذي بلورته تل أبيب بعد هجوم 7 أكتوبر، وتسعى من خلاله إلى تجريد جنوب سوريا من أي بنية عسكرية. وقد مثّلت الغارات التي شنّها جيش الاحتلال بين 15 و16 يوليو/تموز، والتي استهدفت القصر الرئاسي ووزارة الدفاع ومقر هيئة الأركان في دمشق، ترجمةً صريحة لهذه العقيدة. فقد اعتبر الاحتلال أن دمشق انتهكت "الخطوط الحمراء" في الجنوب، والمتمثلة في منع إعادة التسلح جنوب دمشق، وضمان أمن الطائفة الدرزية، ما دفع نتنياهو إلى تأكيد أن وقف إطلاق النار "تحقق بالقوة" لا عبر الوساطة.
ويؤكد التصعيد الإسرائيلي رؤية "إسرائيل" لمصالحها البعيدة ضمن التحوّلات الجيوسياسية في المنطقة، والتي تتمثل فيما يتعلق بسوريا ببقاء سوريا ضعيفة ومقسمة بحكم الأمر الواقع لأطول فترة ممكنة، وهو ما يتطلب مواصلة دعم قسد والدروز. ولذلك؛ تخشى تل أبيب من أن يؤدي الدعم الأمريكي والخليجي للإدارة السورية الجديدة إلى تسريع وتيرة بناء دولة مركزية قوية، وإعادة إعمار سوريا، مما يمثل خطرا مستقبليا على المصالح الإسرائيلية.
ولذا دعا وزير الشتات عميحاي تشيكلي ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، صراحة إلى القضاء على أحمد الشرع، ورفضا أي مقاربة تفاوضية مع من يرونه امتدادًا لتنظيمات راديكالية. وكذلك، تخشى تل أبيب أن يؤدي إدماج دمشق في مشاريع الربط التجاري بين تركيا والسعودية والأردن إلى تجاوز "إسرائيل"، وتقليص موقعها كممر استراتيجي بين الشرق والغرب، ما يُهدد مشروع "الهند–إسرائيل–أوروبا"، وبالتالي فإن بقاء سوريا في وضع هش وإغراقها في دوامة مشاكلها الداخلية يمثل مصلحة استراتيجية إسرائيلية.
تأتي وساطة واشنطن ضمن المقاربة الأميركية الأوسع تجاه الملف السوري، حيث حسمت الإدارة الأمريكية خياراتها تجاه النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع، ومالت إلى مقاربة براغماتية تفضل اختبار النظام الجديد بدلا من سقوط البلاد مجددا في دوامة الفوضى. وبدأت واشنطن بتخفيف تدريجي للعقوبات المفروضة على سوريا وقادة النظام الجديد، وذلك عقب جهود دبلوماسية حثيثة من قبل دمشق التي أظهرت استعدادا واضحا للوفاء بالالتزامات المطلوبة أمريكيا، فضلا عن الجهود التي قام بها حلفاء خاصة تركيا والسعودية من أجل إقناع إدارة ترامب.
في ضوء هذه المقاربة، فإن الخيار الأمريكي هو بناء تفاهم أمني واسع بين دمشق وتل أبيب، تمهد لتطبيع أوسع للعلاقات، وليس دعم جهود حكومة نتنياهو لتقويض النظام السوري. وقد عكس تصريح الرئيس ترامب، الذي وصف ما جرى بأنه "سوء تفاهم"، رغبة واضحة في تفادي تحميل أي طرف مسؤولية سياسية مباشرة، بما يتيح إنتاج تفاهمات أمنية مستقبلية. ويمثّل اتفاق وقف إطلاق النار في أحد أبعاده محاولة أميركية لتثبيت توازنات ميدانية مؤقتة في الجنوب، تمنع الانزلاق إلى مواجهة أوسع، في أول ترجمة عملية لاستراتيجية أميركية تقوم على تطبيع تدريجي مع دمشق، مع ضمان عدم الإضرار بالمصالح الحيوية لإسرائيل.
تعكس التهدئة الراهنة هشاشة المعادلة في الجنوب السوري التي أنتجها الضغط العسكري الإسرائيلي. فهي أشبه بوقف مؤقت لإطلاق النار دون تغيير استراتيجي في توازنات السلطة المحلية أو معالجة البُنى التي تنتج العنف والأزمات في السويداء. وبالتالي، تميل هذه التهدئة أكثر إلى كونها احتواءً ظرفيا لأزمة مرشّحة للتجدد. إذ لم تتخل "إسرائيل" عن هدفها الأساسي وهو جنوب سوري منقوص السيادة، يُدار بتفاهمات أمنية خارجية، تُقيد حرية دمشق في فرض سلطتها الكاملة أو اتخاذ قرارات مستقلة بشأن أمنها الحدودي. وبينما تتبنى "إسرائيل" نهجا عسكريا جامحا، فإن ضغوط حلفاء دمشق الدبلوماسية لا تكفي لردع السلوك الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يترك النظام السوري أمام خيارات محدودة ومعادلة صراع يفتقد فيها لتوازن القوى الكافي لحماية مصالحه.
ويُهدد غياب معالجة سياسية اجتماعية جادة لأزمة السويداء باستمرار التفكك الأهلي، مع تصاعد التوترات بين الدروز والبدو، وبقاء الميليشيات الدرزية المحلية دون تفكيك أو ضم إلى مؤسسات الدولة. ولذلك، فإن موجات عنف جديدة ستكون مرجّحة، فيما ستظل مبررات التدخل الإسرائيلي تحت شعار "حماية الأقليات". وفي المحصلة، تبدو الساحة الجنوبية مرشحة لأن تبقى مجالًا رماديًا تتداخل فيها ترتيبات قسرية، وتفاهمات مؤقتة، وواقع محلي هش، ما لم تُحسم الخيارات الكبرى على مستوى العلاقة بين دمشق وتل أبيب.