المصالحة الكردية في تركيا: هل باتت ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الإقليمية والداخلية؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/01/07 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/01/07 الساعة 09:16 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/الأناضول

في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلن الائتلاف الحاكم في تركيا مبادرة جديدة للمصالحة مع الأكراد، تهدف إلى إنهاء الصراع المستمر مع حزب العمال الكردستاني. تضمنت المبادرة دعوة عبد الله أوجلان لإلقاء السلاح وحل الحزب، مما يعكس رهاناً كبيراً على تعزيز الاستقرار الداخلي وسط أزمات إقليمية متصاعدة. وبينما تبدو الخطوة جريئة، تأتي العديد من التساؤلات حول فرص نجاحها في ظل العقبات الداخلية والخارجية التي تحيط بها.

استعرض موقع "أسباب" للدراسات الاستراتيجية في تقريره أبعاد المبادرة، وفرص نجاحها والتحديات التي قد تعيق تحقيق أهدافها.

فما هي أبرز ملامح المبادرة؟ وما التحديات التي قد تعرقل تحقيق أهدافها؟

مبادرة المصالحة الكردية التي أطلقها الائتلاف الحاكم في تركيا

اجتمع وفد من حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية، بقيادة برفين بولدان وسرّي ثريّا أوندر، مع دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية، وحليف حزب العدالة والتنمية، ومع نعمان كورتولموش رئيس البرلمان التركي، وذلك بعد أن زار الوفد عبد الله أوجلان مؤسس وقائد حزب العمال الكردستاني في سجنه بجزيرة إمرالي. وفي سياق المصالحة الكردية، كشفت أنقرة عن خطة تنمية بقيمة 14 مليار دولار لنحو 200 مشروع لتحسين الزراعة والري وتعزيز قطاع السياحة في جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية. وقدر وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي أن مشروع التنمية سيزيد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بمقدار 49 ألف ليرة تركية، وسيخلق أكثر من 570 ألف وظيفة جديدة في المنطقة بحلول عام 2028.

مؤشرات إيجابية على تقدم المصالحة الكردية لكن التحديات كبيرة

تندرج الزيارات المذكورة وخطة التنمية الحكومية ضمن تطورات مبادرة المصالحة الكردية التي أطلقها الائتلاف الحاكم في تركيا على لسان بهتشلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وتضمنت دعوة أوجلان للإعلان عن إلقاء السلاح وحل حزب العمال الكردستاني مع السماح له بإلقاء كلمة في مجلس النواب أمام الكتلة النيابية لحزب الديمقراطية والمساواة الشعبية، الموالي له.

وتشير تلك الزيارات إلى جدية الائتلاف الحاكم في المضي قدما نحو تحقيق مصالحة رغم التطورات التي حدثت بعد إطلاق المبادرة، خاصة الهجوم الذي شنه مسلحان كرديان على مقر شركة صناعات الطيران والفضاء "توساش" في أنقرة، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة 22 آخرين، وذلك في اليوم التالي لإعلان بهتشلي، فضلا عن سقوط نظام الأسد، مما وضع ملف تفكيك "قسد" على طاولة المفاوضات الأمريكية التركية.

تأتي الدوافع الداخلية كمحرك رئيسي لطرح المبادرة. إذ كشفت انتخابات البلديات الأخيرة في تركيا عن تراجع كبير في شعبية تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، وهو ما يحفز الحزبين على التحرك تجاه الأكراد لجذبهما نحو صفهما بدلا من استمرار دعم الأكراد لحزب الشعب الجمهوري، وهو رهان في حال نجاحه سيتيح المضي في تعديل الدستور، وربما ترشيح أردوغان لولاية جديدة مع زيادة فرص فوزه حال حصوله على أصوات الأكراد.

بالإضافة لذلك؛ فإن التطورات الخارجية تلعب دورا في تمسك الائتلاف الحاكم بمسار المصالحة؛ وذلك في ظل مخاوف أنقرة من تداعيات طوفان الأقصى وحرب لبنان واحتمال استهداف إيران على المنطقة، والحاجة إلى تمتين الجبهة الداخلية، وقطع الطريق على محاولات "إسرائيل" لاستخدام الورقة الكردية كخنجر في خاصرة الدولة التركية، خاصة مع سقوط نظام الأسد وما يعنيه ذلك من تحول سوريا إلى ساحة تنافس تركي إسرائيلي مباشر للمرة الأولى.

ويرسل إعلان المبادرة على لسان بهتشلي تحديدا، وليس عن حزب العدالة والتنمية، إلى أن حزب الحركة القومية المعروف بمواقفه المتشددة تجاه التمرد الكردي، رسالة واضحة أن الجهات القومية داخل الجيش وأجهزة الأمن والمؤسسات البيروقراطية ستدعم المبادرة، بدلا من عرقلتها. ومع هذا، فقد ردت الحكومة على هجوم شركة صناعات الطيران والفضاء "توساش" بحملات عزل وتوقيف طالت رؤساء بلديات أكراد بارزين، للتأكيد على أن الدولة لا تطرح المبادرة من واقع ضعف.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/الأناضول

تحديات كبيرة ما زالت تواجه مسار المصالحة :

  • التفاوت الكبير بين رؤية الطرفين لأسس المصالحة. إذ يطالب حزب العمال الكردستاني بسلطة حكم ذاتي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، والسماح بتعليم اللغة الكردية في المدارس الحكومية، والعفو الشامل عن المقاتلين من جبال قنديل والمنفيين من أوروبا، وإطلاق سراح السجناء الأكراد، والاحتفاظ بتشكيلات مسلحة للقيام بمهام قوات الدفاع عن النفس. وبينما يتوقع أن تبدي الحكومة مرونة إزاء المطالب الثقافية والاجتماعية، وبعض الملفات ذات الطابع الأمني، يبقى من المستبعد تماما أن تقبل بأي صيغة للحكم الذاتي، أو أي تواجد لتشكيلات مسلحة.
  • تفاوت المواقف بين أوجلان وقادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل وشمال شرق سوريا، وفي الشتات الأوروبي. فأوجلان هو القائد التاريخي للحزب، لكنه لم يعد الوحيد في دائرة صنع القرار، وبالأخص بعد نمو نفوذ وحجم الحزب على وقع شراكته مع الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم داعش. وقد تجلى التفاوت بين قادة الحزب في هجوم عناصر من الحزب على مقر شركة توساش مما عكس اعتراض قيادات أخرى على مسار المصالحة مع أوجلان. وبينما يدعم غالبية القادة الأكراد السياسيين في الداخل التركي جهود التوصل لتسوية سياسية شاملة، فإن قادة الحركة العسكريين في الخارج يميلون لأجندة أكثر تشددا نظرا لطبيعة دورهم العسكري لسنوات طويلة وعزلتهم عن المناخ السياسي والاجتماعي داخل تركيا.
  • توجد أطراف دولية وإقليمية ليس من مصلحتها حدوث مصالحة تركية كردية. فإسرائيل حريصة على استخدام الورقة الكردية لابتزاز تركيا وإشغالها بملفاتها الداخلية، كذلك إيران لديها علاقات وطيدة مع حزب العمال الكردستاني، ولديها نزوع انتقامي من دور تركيا في إسقاط نظام الأسد، وستعمل على الأرجح على دعم المتمردين الأكراد في سوريا وشمال العراق لتقويض النفوذ التركي. كما أن فرنسا لديها علاقات وطيدة مع الأكراد، وترى فيهم ورقة للضغط على تركيا لكبح نفوذها الإقليمي. وبينما يميل الرئيس الأمريكي المنتخب "ترامب" لإنهاء تواجد قواته في سوريا، فإن قيادات في البنتاغون والخارجية والكونغرس ما زالت ترى أهمية لمواصلة الدور الأمريكي في سوريا واستمرار الشراكة مع قسد
  • ورغم تلك التحديات، فإن رهان أنقرة على الوصول لتفاهم مع أوجلان وقادة حزب الديمقراطية والمساواة الشعبية، سيساهم في حصار الشخصيات الأكثر تشددا داخل حزب العمال الكردستاني. كما أن التفاهم مع إدارة ترامب بخصوص ملف قسد، وبالأخص في ضوء سقوط نظام الأسد، وشعور قادة قسد بوجود مخاطر محدقة بهم، قد يتيح الوصول لصيغة بدمج قسد في الجيش السوري الجديد، والاتفاق على وقف لإطلاق النار بين تركيا وحزب العمال، مما يسمح بتسوية بعض الملفات الداخلية التركية مثل تعديل الدستور، وتعزيز أسهم تحالف الجمهور الحاكم في مواجهة أحزاب المعارضة التي بدا أنها توشك على الاقتراب من مقاعد الحكم خلال العام الأخير. 
المصالحة الكردية في تركيا: هل باتت ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الإقليمية والداخلية؟
مقاتلون من "وحدات حماية الشعب الكردي" شمال سوريا يرفعون صورة عبدالله أوجلان الزعيم الروحي لحزب العمال الكردستاني/ أرشيفية – Getty

خلفية تاريخية

مبادرة بهتشلي للمصالحة ليست الأولى من نوعها لكنها مختلفة من حيث المضمون، ومن حيث الجهة التي أطلقتها، ومن حيث السياقات المحلية والإقليمية والدولية التي تحيط بها. فبعد اعتقال أوجلان في كينيا، ونقله إلى السجن بتركيا في فبراير/شباط 1999، دعا أوجلان إلى وقف إطلاق النار من جانب واحد، استمر حتى عام 2004، ثم تجدد الصراع بعد الغزو الأمريكي للعراق وترسخ وجود حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل بشمال العراق.

وفي عام 2009، تبنت حكومة العدالة والتنمية مبادرة للمصالحة، تضمنت تدشين قناة تلفزيونية حكومية باللغة الكردية، وسمحت للمدارس والمؤسسات الخاصة بتدريس اللغة الكردية، ووصل مسار المصالحة ذروته بإعلان حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار من جانب واحد عام 2013 مع حديث أوجلان عن أن "الوقت قد حان لإسكات الأسلحة وللسياسة والأفكار أن تتحدث". 

من جانبها ردت الحكومة التركية آنذاك بإجراءات إضافية شملت منح مساعدات حكومية للأحزاب السياسية التي تحصل على حد أدنى لا يقل عن 3% من أصوات الناخبين مما أتاح منح مساعدات للأحزاب الكردية القائمة آنذاك، ورفعت الحظر المفروض عن الدعاية الانتخابية بلغات أخرى غير التركية؛ وسمحت بإعادة استخدام الأسماء الكردية للقرى والبلدات، وأطلقت سراح آلاف الناشطين الأكراد المحتجزين.

ولكن تبخرت مبادرة المصالحة عام 2015 على وقع انهيار وقف إطلاق النار، ضمن تداعيات سيطرة وحدات الشعب الكردية الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني على المزيد من المناطق في سوريا، واكتشاف أجهزة الأمن التركية عمليات واسعة لتخزين أسلحة داخل تركيا بهدف استئناف المواجهات، والذي حدث بالفعل مع عودة هجمات حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي، فاندلع قتال شرس في مدن وقرى جنوب شرق تركيا استمر حتى عام 2017 إلى أن تمكن الجيش التركي من إحكام سيطرته وطرد المسلحين الأكـراد إلى شمال العراق وسوريا.

تحميل المزيد