نشر موقع "أسباب" للدراسات الاستراتيجية تحليلاً معمقاً حول الاتفاقية الدفاعية الثنائية الجديدة بين بريطانيا وألمانيا، والمعروفة باسم "ترينيتي هاوس"، والتي تم توقيعها في 23 أكتوبر.
إّذ تسلط هذه الاتفاقية الضوء على إعادة ضبط للعلاقات الدفاعية بين لندن وبرلين، في خطوة غير مسبوقة تشمل التعاون العسكري في المجالات البرية والجوية والبحرية والسيبرانية، وتطوير صواريخ بعيدة المدى مشتركة، إلى جانب تدريبات عسكرية في منطقة البلطيق.
يستعرض التحليل خلفيات الاتفاقية ودوافعها، مشيراً إلى أن التغيرات الأمنية في أوروبا نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية دفعت بريطانيا وألمانيا لتعزيز التعاون الدفاعي، وسط تزايد المخاوف من تراجع الالتزام الأمريكي بالأمن الأوروبي. إذ يفتح هذا الاتفاق الباب أمام شراكة دفاعية أعمق بين القوى الأوروبية الكبرى، ما قد يعزز الاستعدادات لمواجهة التحديات المحتملة على الجبهة الشرقية للناتو ويدعم التوجه نحو تحمل مسؤوليات أكبر في مجال الدفاع الأوروبي.
تراجع الالتزام الأمريكي يدفع أوروبا نحو تحالفات دفاعية أقوى
تعد اتفاقية دفاع لندن وبرلين بمثابة إعادة تشغيل شاملة للعلاقات الدفاعية بين البلدين والتي كانت تفتقر إلى إطار رسمي منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أوائل عام 2020. ولا شك أن الحرب الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من تغييرات جوهرية للأمن الأوروبي، عززت من ضرورة تقوية التعاون الدفاعي بين بريطانيا وألمانيا. ويأتي على رأس قائمة التعاون هدفين جوهريين:
- أولاً: الالتزام بتطوير صاروخ بعيد المدى قادر على توجيه ضربات لمسافات أطول وأكثر دقة من الصواريخ التي تمتلكها الدولتين حاليا، سواء صاروخ "ستورم شادو كروز" (Storm Shadow) البريطاني أو صاروخ "توروس" (Taurus) الألماني. ويأتي هذا الالتزام في سياق الاهتمام الأوروبي بنشر الصواريخ بعيدة المدى لردع العدوان الروسي على القارة.
- ثانياً: مراقبة البنية التحتية في بحر الشمال بما يشمل خطوط أنابيب الغاز وكابلات الاتصالات والكهرباء، والتي أصبحت مصدر قلق رئيسي لمخططي الدفاع في أوروبا نظرا للثغرات الأمنية المحيطة بها والمحاولات الروسية للتجسس على هذه الأهداف.
تشكل اتفاقية الدفاع البريطانية الألمانية الضلع الأخير في مثلث الاتفاقيات الثنائية التي تربط الدول الثلاث الكبرى عسكريا في أوروبا، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والتي ستمثل أحد الركائز الرئيسية لمنظومة الأمن والردع في أوروبا في الأمد القريب والبعيد. إذ إن المملكة المتحدة لديها بالفعل اتفاقية دفاع مع فرنسا، اتفاقية " لانكستر هاوس" (Lancaster House)، التي وقعها ديفيد كاميرون ونيكولاس ساركوزي في عام 2010، بينما ترتبط فرنسا وألمانيا بمعاهدة "آخن" (Aachen Treaty) لعام 2019، والتي تشمل اتفاق للدفاع المتبادل.
من زاوية انتشار وتمركز قوات الناتو في أوروبا، فإن الاتفاق يعد إعلانا عن تعزيز دفاعات الجبهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي؛ حيث إن ألمانيا وبريطانيا -أكبر دولتين من حيث الإنفاق على الدفاع في أوروبا وأكبر مانحين عسكريين أوروبيين لأوكرانيا- هما المسؤولتان عن الانتشار العسكري للحلف في دول البلطيق. ويتمركز بشكل دائم تشكيل لواء ألماني في ليتوانيا كما تتواجد قوات بريطانية في استونيا يبلغ تعدادها 1000 جندي. وتوفر الاتفاقية الدفاعية الجديدة التعاون والتدريب المشترك بشكل أوثق بين البلدين في أوروبا الشرقية مما يضمن أن القوات البرية على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي تظل رادعًا قويًا وجاهزة للقتال إذا لزم الأمر.
تتزايد المخاوف الألمانية مع تذبذب الالتزام الأميركي بالأمن الأوروبي وكذلك صعود اليمين المتطرف في فرنسا والذي كاد أن يصل إلى تشكيل حكومة في الانتخابات الأخيرة؛ وهو الأمر الذي يدفع ألمانيا إلى السعي لتوسيع تعاونها الدفاعي في أوروبا حتى لا تعتمد بشكل مفرط على لاعبين بعينهم. تعتمد السياسة الأمنية والدفاعية لألمانيا على التعاون والتحالف الوثيق مع أمريكا وفرنسا، حيث تضمن الولايات المتحدة أمن ألمانيا وأوروبا من خلال الناتو. وكذلك تعد فرنسا الدولة الوحيدة التي أبرمت معها ألمانيا اتفاقية دفاع متبادل، وهي معاهدة "آخن". ويبدو ذلك الاعتماد بوضوح في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الألمانية التي صدرت عام 2023، إذ إن أمريكا وفرنسا هما الشريكان الوحيدان المذكوران في الاستراتيجية.
وترتكز الاستراتيجية الدفاعية لحكومة العمال البريطانية الجديدة على وضع حلف شمال الأطلسي في المقام الأول، الأمر الذي مثل قوة دافعة لبريطانيا لإعادة ضبط العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين الرئيسيين بعد أن تدهورت بسبب خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وتتماشى الاتفاقية الجديدة التي ترتكز على تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية وردع التهديد الروسي مع نهج الحكومة البريطانية التي تسعى إلى توحيد أوروبا حول تزويد أوكرانيا بالدعم الذي تحتاجه في حربها مع روسيا.
كما تتوافق الاتفاقية مع الاتجاه السائد داخل الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة والذي يرى أولوية وأهمية تحمل الدول الأعضاء -إلى جانب بريطانيا- مسؤولية أكبر عن أمن ودفاع أوروبا، خاصة بعد أن بات واضحاً أن واشنطن ستحتاج إلى تقليص التزاماتها الأمنية مع أوروبا في السنوات المقبلة من أجل تركيز جهودها في منطقة الاندو-باسيفيك لمواجهة الصعود الصيني. وتعكس الأجندة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي وكذلك المبادئ التوجيهية السياسية للمفوضية الأوروبية للفترة القادمة (2024-2029) الأهمية الكبرى التي توليها دول الاتحاد الأوروبي لزيادة الإنفاق الدفاعي ولجاهزية القدرة الدفاعية للكتلة وهو الأمر الذي يؤسس لبناء اتحاد دفاعي أوروبي حقيقي في المدى القريب.