"ضربة استراتيجية مؤثرة" وجهتها الصين للهند عبر إبرام اتفاقية دفاعية مع جزر المالديف التي تقع فيما يمكن وصفه في مجال نيودلهي الحيوي أو حديقتها الخلفية، وكانت دوماً خاضعة لنفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري، حيث باتت العلاقة الناشئة بين الصين وجزر المالديف نموذجاً لقدرة بكين على تطويق نيودلهي في عقر دارها.
وأعلنت الهند يوم 4 مارس/آذار 2024 عن خطط لإنشاء قاعدة بحرية جديدة قبالة الساحل الجنوبي الغربي للبلاد، وبالقرب من جزر المالديف، وذلك قبل يوم من توقيع جزر المالديف اتفاق دفاعي مع الصين في 5 مارس/آذار الجاري، وجاء الاتفاق بين الصين وجزر المالديف بعد أسابيع قليلة من طلب رئيس المالديف محمد مويزو بانسحاب القوات الهندية المتمركزة في البلاد التي مكلفة بعمليات الإغاثة من الكوارث والمهام الإنسانية.
وكانت وزارة الدفاع المالديفية قد أعلنت أن 25 من الجنود الذين نشرتهم الهند في جمهورية المالديف بدأوا الانسحاب من البلاد قبل 10 مارس/آذار الجاري، وسيتعين على الجنود وأفراد الدعم الهنود المتبقين في البلاد الانسحاب بحلول 10 مايو/أيار المقبل، حسب الاتفاق المبرم مع الهند.
وجاء الانسحاب بناءً على طلب رئيس جمهورية المالديف الجديد محمد مويزو، الذي أمر بعد فترة وجيزة من توليه منصبه في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بسحب أفراد الجيش الهندي وأصوله من البلاد والبالغ عددهم 89 عسكرياً، وهو القرار الذي ينظر له على أنه له علاقة قوية بالتنافس الصيني الهندي في المحيط الهندي وعلامة على فقدان نيودلهي أحد معاقل نفوذها التاريخية.
بلاد مسلمة صغيرة ذات موقع مهم للتجارة البحرية وللهند على وجه الخصوص
تقع جزر المالديف على طول الممرات البحرية التجارية التي تمر عبر منطقة المحيط الهندي؛ ما يمنحها أهمية استراتيجية كبيرة. وتعد الدولة الأرخبيل أحد الجيران البحريين المباشرين للهند في منطقة المحيط الهندي، حسبما ورد في تقرير لمنصة أسباب المتخصصة في الدراسات السياسية والاستراتيجية.
وجمهورية المالديف دولة صغيرة تبلغ مساحتها نحو 298 كلم مربعاً، وعدد سكانها نحو 500 ألف نسمة، 98.7% منهم من المسلمين، وتقع جزر المالديف المشهورة بشواطئها الخلابة على بعد نحو 70 ميلاً بحرياً من جزيرة مينيكوي الهندية وعلى بعد نحو 300 ميل بحري من الساحل الغربي للهند القارية، وموقعها في مركز الممرات البحرية التجارية التي تمر عبر المحيط الهندي تضفي عليها أهمية استراتيجية كبيرة للهند.
ولدى الهند والمالديف علاقات وثيقة منذ استقلالهما عن بريطانيا، خاصة منذ دور الهند في إفشال انقلاب وقع في جزر المالديف عام 1988 جرى تنظيمه بمساعدة المتمردين التامل في سريلانكا.
ومنذ ذلك الحين قدمت الهند مساعدات اقتصادية واسعة النطاق للمالديف، وشاركت في البرامج الثنائية لتطوير البنية التحتية والصحة والاتصالات وموارد العمل، وساهم بنك الدولة الهندي بأكثر من 500 مليون دولار أمريكي للمساعدة في التوسع الاقتصادي في جمهورية المالديف.
كما أدخلت الهند جمهورية المالديف إلى الشبكة الأمنية الهندية في عام 2009، بسبب مخاوف حكومة المالديف من احتمال سيطرة الإرهابيين على أحد منتجعاتها الجزرية نظراً لافتقارها إلى البلاد الأصول العسكرية وقدرات المراقبة.
وترى نيودلهي أن جزر المالديف مفتاح رئيسي لتعزيز المجال الأمني في المحيط الهندي ومواجهة صعود الصين الإقليمي. بينما تنظر بكين بقلق إلى تنامي قوة الهند العسكرية وتحركاتها الأخيرة نحو توثيق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة واليابان، الأمر الذي دفع الصين إلى تعزيز التعاون مع جميع الدول المتاخمة للهند، بما في ذلك جزر المالديف وسريلانكا، فضلاً عن أن وجود بكين في هذه الجزر يمنحها إمكانية الوصول إلى الممرات البحرية الرئيسية في المحيط الهندي.
الصين تفوز بجزر المالديف وتربك حسابات الهند الأمنية
شهد تموضع جزر المالديف بين الصين والهند تحولاً حاداً نحو بكين بعد فوز محمد مويزو في الانتخابات الرئاسية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي؛ حيث تبنى نهجاً في السياسة الخارجية – على النقيض من سلفه إبراهيم محمد صليح – يقوم على تقليص اعتماد المالديف على الهند، وإنهاء الوجود العسكري الهندي المحدود في البلاد، والذي تمثل في 75 عسكرياً هندياً لتشغيل طائرات الإجلاء الطبي والمهام الإنسانية.
وأعطى "مويزو" الأولوية للعلاقات بين الصين وجزر المالديف، حيث قام بأول زيارة خارجية له بعد الانتخابات إلى بكين وعقد خلالها 20 اتفاقية تتعلق بالبنية التحتية والزراعة والمناخ، ووصف الرئيس الصيني شي جين بينغ العلاقات بين الصين وجزر المالديف بأنها "شراكة تعاونية استراتيجية شاملة".
كيف استفادت بكين من السخط الشعبي في المالديف ضد الهند؟
قبل تولي الرئيس الحالي السلطة في جمهورية المالديف، انتقدت المعارضة (التي كان الرئيس الحالي مرشحها) وجود القوات الهندية بالبلاد، في ظل الخوف من أن الوجود العسكري الهندي الدائم يثير الجدل حول سيادة الدولة صغيرة المساحة والسكان.
وقبل عامين شارك المئات من الأشخاص في جمهورية المالديف في مسيرات تطالب بطرد الأفراد العسكريين الهنود، ونظمت مظاهرات سلمية، يتركز معظمها في العاصمة ماليه، من قبل تحالف من أحزاب المعارضة بقيادة الرئيس السابق عبد الله يمين، الذي سُجن عام 2019.
وفي قلب الجدل حول الوجود الهندي في جزر المالديف ظهرت مسألة حوض بناء السفن الذي تموله الهند لصالح خفر السواحل المالديفي، والذي يجري بناؤه على جزيرة أوثورو ثيلا فالهو المرجانية، بالقرب من العاصمة ماليه، حسبما ورد في تقرير لموقع TRT world.
وذكرت نسخة من اتفاقية تم تسريبها قبل عامين من الاتفاقية الخاصة بالحوض أن أفراداً عسكريين هنوداً سيتمركزون هناك وسيُسمح لسفن البحرية الهندية باستخدام حوض بناء السفن لسنوات قادمة.
وآنذاك، انتقدت المعارضة الاتفاقية وقالت إنه كان ينبغي مناقشتها في البرلمان ومشاركة التفاصيل مع المشرعين.
كما اتهمت المعارضة حكومة الرئيس الرئيس السابق إبراهيم صليح بتوقيع اتفاقيات سرية مع نيودلهي تسمح للقوات الهندية بالتمركز بشكل دائم في جمهورية المالديف.
ويشعر أهل المالديف بالقلق من التدخل الخارجي، وشكّل موضوع إخراج القوات الهندية المطلب الرئيسي في الأجندة الانتخابية للرئيس الحالي، ولكنّ نقاداً غربيين وهنوداً يصفونه بأنه مُوالٍ للصين.
ولكن "مويزو" لا يزال يحتفظ بعلاقات عملية مع الهند، ويعزو ذلك إلى النفوذ الهندي الاقتصادي والأمني والثقافي العميق داخل البلاد، فضلاً عن المساعدات التي تقدمها نيودلهي في مجال تطوير البنية التحتية والأمن البحري والاتصال وإدارة الكوارث. كما لا تزال الهند المورد الأول للسياح إلى شواطئ جزر المالديف، بينما تدير شركات الطيران الهندية معظم الرحلات الجوية من وإلى البلدين.
في ظل تعزيز العلاقة بين الصين وجزر المالديف بكين تقرضها مليار دولار
ويقول الخبراء إن جمهورية المالديف هي واحدة من دول جنوب آسيا الرئيسية التي تتنافس الصين والهند بشأن النفوذ فيها، وهو أمر ستكون له عواقب على المنطقة الأوسع.
وأحد المؤشرات على تنامي العلاقات بين الصين وجزر المالديف، إقراض بكين لجمهورية المالديف أكثر من مليار دولار على مر السنين، معظمها لتمويل البنية التحتية والتنمية الاقتصادية، وأصبحت بكين أكبر دائن للبلاد.
إنها جزء من استراتيجية صينية واسعة
الهدف بعيد المدى من تعزيز العلاقات بين الصين وجزر المالديف بالنسبة لبكين هو تأمين الممرات الاقتصادية البحرية وخطوط إمداد الطاقة في المحيطين الهندي والهادئ ضد مخاطر الحظر من المنافسين الاستراتيجيين الولايات المتحدة والهند.
ولذلك؛ بدأت الصين مؤخراً تحركات لتحقيق انتشار عسكري واستراتيجي، كما في الاتفاق مع "جزر سليمان"، وقاعدة ريام البحرية في كمبوديا، فضلاً عن التواجد الأول لها خارج أراضيها في جيبوتي، والتواجد المحتمل في سريلانكا وميناء جوادر الباكستاني، وهي تحركات ضمن نهج لتطوير مرافق مزدوجة الاستخدام للأنشطة التجارية والعسكرية لحماية مصالحها الاقتصادية البحرية ومواجهة النفوذ الأمريكي الذي يستهدف محاصرة الصين في المحيطين الهندي والهادئ.
ماذا نعرف عن الاتفاقية العسكرية بين الصين وجزر المالديف؟
وجاء توقيع حكومة المالديف اتفاقية "مساعدة عسكرية" بين الصين وجزر المالديف في مطلع مارس/آذار 2024، ليثير القلق في دلهي.
وقال الرئيس مويزو إن الصين ستقدم أسلحة غير فتاكة مجاناً، بالإضافة إلى تدريب قوات الأمن المالديفية (قامت كل من الهند والولايات المتحدة بتدريب الجيش المالديفي حتى الآن).
ويعلق عظيم ظاهر، المحلل السياسي المالديفي، في تصريح لـ"BBC قائلاً: "هذا أمر غير مسبوق، إنها المرة الأولى التي توقع فيها المالديف اتفاقية دفاعية مع بكين لتقديم المساعدة العسكرية".
وأضاف: "كنا نعلم أن السيد مويزو سيقيم علاقات أوثق مع الصين من حيث الاستثمار ورأس المال، لكن لم يتوقع أحد أن يذهب إلى هذا الحد".
لكن بكين تنفي وجود أي خطط عسكرية طويلة المدى في المالديف.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وين بين للصحفيين في بكين: "نحن ندعم جزر المالديف في حماية سيادتها الإقليمية".
وأضاف: "نحن ندعم أيضاً جزر المالديف في تطوير التبادلات الودية والتعاون مع جميع الأطراف على أساس استقلالها وحكمها الذاتي".
وتشكك الهند في الوجود المتنامي للصين في المحيط الهندي ونفوذها في جزر المالديف وكذلك في سريلانكا المجاورة.
الهند ترد ببناء قاعدة عسكرية مجاورة
كرد فعل على تنامي العلاقات بين الصين وجزر المالديف واتفاقية الدفاع بين البلدين، تسعى الهند إلى تعزيز وجودها البحري حول جزر المالديف، كما يتضح من نواياها لإنشاء قاعدة في جزيرة "لاكشادويب" الهندية التي تقع على بعد حوالي 80 ميلاً شمال جزر المالديف. كما تأتي الخطوة الهندية في إطار التدابير التي اتخذتها نيودلهي في السنوات الأخيرة لتعزيز البنية التحتية الأمنية بشكل تدريجي في الجزر المجاورة ذات الأهمية.
وقالت البحرية الهندية إن السفينة "آي إن إس جاتايو" المتمركزة في جزيرة مينيكوي ستعزز جهودها في "عمليات مكافحة القرصنة والمخدرات في غرب بحر العرب".
وقد نفى رئيس المالديف في وقت سابق سعيه لإعادة رسم التوازن الإقليمي من خلال جلب قوات صينية لتحل محل القوات الهندية.
الهند ترى الاتفاقية خطوة صينية لتطويقها بعد توسع مبادرة الحزام والطريق
وتتزايد التخوفات الهندية من تمدد النفوذ الصيني في منطقة جنوب آسيا والمناطق المجاورة للهند بما يؤدي إلى تطويق نيودلهي، خاصة وقد انضم جميع جيران الهند إلى مبادرة الحزام والطريق، وضخت الصين حوالي 838 مليار دولار في منطقة جنوب آسيا منذ 2014، مقارنة مع 52 مليار دولار أنفقتها الهند على المساعدات التنموية في نفس الفترة. ونتيجة لذلك أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لدول جنوب آسيا، ووقعت بعض الدول في فخ الديون الصينية.
فعلى سبيل المثال؛ تعد الصين الآن أكبر دائن لجزر المالديف بمبلغ 1.37 مليار دولار أو ما يعادل 20% من الدين العام للبلاد.
البعض في جزر المالديف قلق من توتر العلاقة مع نيودلهي
كما أثارت تحركات مويزو المناهضة للهند وتعزيز العلاقات بين الصين وجزر المالديف قلق الكثيرين في بلاده لأسباب أخرى تتعلق باعتماد جزر المالديف على الهند في واردات المواد الغذائية الأساسية والأدوية ومواد البناء.
وبعد جائحة كوفيد، كانت الهند أيضاً ترسل أكبر عدد من السياح إلى جزر المالديف، حسب تقرير "بي بي سي".
والآن ظهرت دعوات في الهند على وسائل التواصل الاجتماعي إلى "مقاطعة" جزر المالديف بعد أن أدلى بعض المسؤولين بتعليقات مثيرة للجدل حول رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
واندلع الجدل أثناء وجود مويزو في بكين، وكان لافتاً أن رئيس المالديف طلب من السلطات الصينية البدء في إرسال المزيد من السياح لاستعادة المركز الأول الذي كانت البلاد تشغله قبل الوباء.
ومنذ ذلك الحين، بدأ السياح الصينيون بالزيارة بأعداد كبيرة. ووفقاً لبيانات وزارة السياحة، فإن من بين ما يقرب من 400 ألف سائح زاروا جزر المالديف في الشهرين الأولين من العام، كان 13% منهم من الصين. وتراجعت الهند إلى المركز الخامس.
الهند تلجأ للتعاون مع أمريكا لمواجهة الصين
وتسعى الهند في إطار مواجهتها للتهديدات الصينية إلى تعزيز وضعها العسكري بتطوير التعاون مع القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأستراليا، وهو الأمر الذي تجلى في الشراكة العسكرية المتنامية بين واشنطن ونيودلهي في السنوات الأخيرة. وإجمالاً، فإن استمرار بكين في توسيع نفوذها البحري في المحيط الهندي مقابل سعي نيودلهي إلى تأمين مصالحها الوطنية، سيؤدي إلى زيادة وتيرة التنافس بين الهند والصين في منطقة المحيط الهندي، فضلاً عن أن جزر المحيطين الهندي والهادئ ستشكل إلى حد كبير البنية الأمنية الجديدة في المنطقة على المديين القريب والمتوسط.