هل الخطة الأمريكية لإنشاء ميناء غزة هدفها فعلاً توصيل المساعدات لأهالي القطاع المحاصرين كما قال جو بايدن؟ أم أن للمشروع أهدافاً أخرى تخدم إسرائيل وأجندتها؟
منصة أسباب المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي تناولت القصة في تحليل يرصد أهداف أمريكا وإسرائيل من مشروع ميناء غزة، وكيف يتم استغلال سلاح المساعدات الإنسانية.
مشروع ميناء غزة
أعلنت الولايات المتحدة عن خطة لإنشاء ميناء في غزة لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، من خلال إنشاء رصيف مؤقت قبالة ساحل غزة لتلقي الإمدادات الغذائية والطبية التي تشتد الحاجة إليها.
جاء الإعلان عن المشروع من جانب الرئيس جو بايدن خلال خطاب حالة الاتحاد في الأسبوع الأول من مارس/آذار 2024، وقال بايدن إنه أمر الجيش الأمريكي بتشييد ميناء عائم مؤقت في غزة لإيصال المساعدات بحراً إلى القطاع الفلسطيني الذي تشن إسرائيل عدواناً غير مسبوق على أهله منذ نحو 6 أشهر، وكان بايدن حريصاً على توضيح أن المشروع لن يتطلب "أي انتشار على الأرض للقوات الأمريكية".
تأتي هذه المبادرة وسط أزمة إنسانية حادة في غزة، مع تحذير الأمم المتحدة من مجاعة وشيكة تهدد مئات الآلاف من الأشخاص. وقد تم إرسال السفينة العسكرية الأمريكية، الجنرال فرانك إس بيسون، إلى الشرق الأوسط لدعم عملية بناء الميناء.
وقال السكرتير الصحفي للبنتاغون، الميجور جنرال باتريك رايدر، إن بناء الرصيف البحري والجسر الذي يربطه باليابسة سيستغرق ما يصل إلى 60 يوماً، ويتطلب حوالي 1000 جندي أمريكي.
ما دوافع بناء ميناء في غزة؟
لا ينفصل مشروع الميناء عن أهداف إسرائيل والولايات المتحدة الاستراتيجية تجاه مستقبل قطاع غزة، خاصة تلك الهادفة إلى تقويض القدرات العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس"، وإنهاء أي دور لها في سلطة حكم القطاع المدنية.
فالهدف الرئيسي من بناء الميناء هو التحكم الكامل والتام في قطاع غزة، وقطع أي اتصال للقطاع خارج سيطرة وإدارة إسرائيل المباشرة، والتحكم في كل ما يدخل إلى القطاع، وذلك بهدف تقويض حركات المقاومة وإحكام الحصار عليها لإضعاف قدراتها وفاعلياتها العسكرية والأمنية.
من الناحية العسكرية، يخدم الميناء الاستعدادات للاجتياح الذي تضغط إسرائيل لتنفيذه في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، بزعم أنه يمثل ضرورة لاستكمال تقويض قدرات حماس العسكرية، وهي العملية التي تعارض الولايات المتحدة تنفيذها دون وضع خطة تضمن سلامة المدنيين.
من هذه الزاوية، سيكون الميناء عنصر جذب للنازحين جنوب القطاع في التحرك للشمال ووسط غزة للحصول على المساعدات، ما يجعل من الميناء حجة أمام الرأي العام الدولي حال بدء العملية العسكرية في رفح.
وتقع مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة على الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وفلسطين، وتبلغ مساحة المدينة 55 كيلومتراً مربعاً؛ ما يجعلها أكبر مدن القطاع في الجنوب، وهي ملاصقة للشريط الحدودي لشبه جزيرة سيناء المصرية، حيث يوجد معبر رفح، وهي الآن مقر لنحو مليون ونصف مليون نازح فلسطيني من أهل القطاع.
تأثير "المساعدات الإنسانية" الجيوسياسية
أما من الناحية المدنية، فإن إسرائيل تنظر للمساعدات الإنسانية والغذائية كأداة أساسية لاختراق الحالة المدنية وإنشاء سلطة بديلة في القطاع. ولذلك؛ تتبنى حكومة الاحتلال موقفاً صارماً برفض أي محاولة من قبل حماس أو موظفي حكومة غزة بممارسة دور في توزيع المساعدات.
وفي المقابل، يخطط الاحتلال الإسرائيلي لمنح السلطة البلدية المفترضة ميزة توزيع المساعدات والتحكم فيها، ما يمنحها مزيجاً من الشرعية ومقومات السلطة، بما يضمن إبعاد حماس عن مستقبل حكم القطاع. وهو الأمر الذي عبر عنه وزير دفاع الاحتلال، يوآف غالانت، بالتأكيد على أن الميناء سيساهم في تقويض سلطة حماس.
من ناحية استراتيجية أخرى، ثمة مؤشرات على أن مسألة توزيع المساعدات وإعادة الإعمار سوف تستخدم من قبل الاحتلال لإعادة هندسة قطاع غزة من ناحية التوزيع الديموغرافي.
فعندما تتحكم سلطات الاحتلال بشكل حصري في تدفق المساعدات وخطط إعادة الإعمار، فإن ذلك سوف يوظف لأغراض أمنية استراتيجية، بحيث سيحدد الاحتلال أماكن المخيمات أو الأحياء المعاد بناؤها، والتي ستتدفق إليها المسـاعدات، بينما يمنع وصولها إلى أماكن أخرى، بما يجبر السكان على التوزيع وفق خريطة توفر المساعدات المرتبطة بخريطة الهندسة الأمنية للمخيمات أو المساكن المؤقتة لإيواء النازحين الذين دمرت الحرب بيوتهم. أي إن خريطة المدن والأحياء ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول لن تكون هي بالضرورة خريطة غـزة ما بعد الحرب.
كيف سيتم إدخال المساعدات؟
سيمر وصول المساعدات إلى ميناء غزة بعدد من المراحل، حيث سيتواجد المفتشون الإسرائيليون في ميناء لارناكا القبرصي، لفحص شحنات المسـاعدات المتجهة إلى غـزة. كما سيتوجب على إسرائيل أن تتعامل مباشرة مع ضباط الخدمات اللوجستية العسكريين الأمريكيين بدلاً من مسؤولي الإغاثة.
لكن مازال من غير المحدد الجهة المحلية التي ستشرف على توزيع المساعدات؛ حيث خرجت معظم المؤسسات الإغاثية من غزة عن العمل، ولا تمتلك هياكل إدارية أو مقرات لوجستية يمكنها توظيفها في توزيع المسـاعدات، خاصة مع وقف تمويل الأونروا والتضييق الإسرائيلي والأمريكي على عملها.
وبينما تسعى واشنطن لإقناع تل أبيب بضرورة قيام السلطة الفلسطينية بهذه المهمة، فإن نتنياهو يرفض بشكل استراتيجي عودة السلطة إلى غـزة لأنه يصر على إبعاد شبح الدولة الفلسطينية الواحدة، ويسعى في المقابل إلى خلق سلطة مدنية محلية تدعمها أطراف إقليمية مثل الإمارات والأردن، مع احتفاظ "إسرائيل" بالسيطرة الأمنية لسنوات قادمة.
خطة تهجير غير مباشرة؟
من جهة أخرى، وبحسب تصريحات نتنياهو، فإن الميناء سيساعد على الأرجح في حركة خروج بعض سكان القطاع. حيث يمثل ثقل غـزة الديموغرافي أحد التحديات الاستراتيجية لإسرائيل إزاء أي خطط مستقبلية في القطاع.
ولذلك؛ من المتوقع أن تواصل حكومة الاحتلال خطط ترحيل عدد من كبير من سكان القطاع بصورة أو بأخرى، وهي خطط تلقى دعماً من أصوات أمريكية مثل غاريد كوشنر صهر الرئيس السابق دونالد ترامب.
وقد يجري ذلك تحت دعاوى إنسانية كالعلاج أو من أجل الدراسة أو العمل في الخارج، خاصة للكفاءات الفلسطينية، في ظل تدمير كافة مظاهر ومؤسسات الحياة المدنية في غزة، أو حتى التغاضي عن محاولات الهجرة غير الشرعية وتشجيعها.
وأخيراً؛ سيكون للميناء تأثيرات سلبية على المستوى الجيوسياسي لمصر؛ حيث يوفر الميناء بوابة خروج مباشرة بعيدة عن أي ترتيبات مع مصر، وهو خيار أقل ضرراً من حيث التبعات الأمنية والإقليمية بالمقارنة مع تهجير سكان قطاع غـزة إلى سيناء، لكنّه يحد من نفوذ القاهرة بإضعاف أهم ميزة لديها، كونها الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك حدوداً مباشرة ومنفذاً برياً مع قطاع غـزة يتحكم في حركة عبور السكان.
انتقادات للمشروع
كان المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء، مايكل فخري، قد ندد بالمقترح الأمريكي الذي أعلنه بايدن. وقال خلال مؤتمر صحفي في جنيف: "للمرة الأولى أسمع أحداً يقول إننا بحاجة إلى استخدام رصيف بحري. لم يطلب أحد رصيفاً بحرياً، لا الشعب الفلسطيني ولا المجتمع الإنساني".
كما وصف فخري، وهو مفوض من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لكنه لا يتحدث باسم المنظمة الأممية، الاقتراح الأمريكي بأنه "خبيث"، لافتاً إلى أن واشنطن تقدم في الوقت نفسه قنابل وذخائر ودعماً مالياً لتل أبيب.
واعتبر فخري أن الرغبة الأمريكية في إنشاء ميناء تهدف قبل كل شيء إلى الاستجابة "مع اقتراب الانتخابات" للضغوط الداخلية التي يمارسها جزء من الأمريكيين. وأضاف: "الأمر يستهدف جمهوراً وطنياً". وقال: "ما يمنحني الأمل هو التحرك المتزايد في كل أنحاء العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة، لأشخاص يطالبون بوقف إطلاق النار".