بينما تتواصل الجهود الإقليمية والدولية لمحاولة التوصل لوقف إطلاق نار في قطاع غزة، تلوّح حكومة الحرب في إسرائيل بتنفيذ عملية عسكرية في رفح، فما تداعيات هذا الهجوم المرتقب؟
منصة "أسباب"، المختصة بالتحليل الاستراتيجي والسياسي، رصدت التداعيات السياسية والعسكرية والإنسانية التي قد تنجم عن هجوم الاحتلال على مدينة رفح المكتظة بأكثر من مليون ونصف المليون نازح فلسطيني.
وتجري الآن محادثات رباعية بين الولايات المتحدة ومصر وقطر وإسرائيل، حيث تبادل طرفا الحرب؛ إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس"، الرد على مسودة "اتفاق باريس" لوقف إطلاق النار في غزة.
لكن في الوقت نفسه، يصر بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال، على تنفيذ الهجوم على مدينة رفح واصفاً ذلك بأنه سيكون "عملية عسكرية قوية"، بينما يصف وزير دفاع الاحتلال، يوآف غالانت، المدينة بأنها "معقل مهم لحماس".
المفاوضات لوقف الحرب على غزة
في الوقت الذي يواصل الاحتلال دق طبول الحرب والهجوم على رفح، ما زالت المفاوضات لم تراوح مكانها. ورغم أن "مسودة باريس" باتت تمثل إطاراً لإدارة عملية التفاوض بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن مسار التفاوض ما زال متعثراً في ظل الفجوة بين شروط الجانبين، في ضوء التشدد الإسرائيلي إزاء التجاوب مع التعديلات التي أدخلتها حركة حماس على الاتفاق الإطاري، خاصة مسألة انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
فهذه النقطة لا تزال محل رفض إسرائيلي؛ حيث أبدت حكومة الاحتلال الاستعداد لسحب القوات من "المناطق المكتظة بالسكان" فقط، بالإضافة للخلاف حول عدد ونوعية الأسرى.
وبينما تشترط حماس وجود أطراف ضامنة للاتفاق تضمن تنفيذ الاحتلال التزاماته؛ هي الأمم المتحدة ومصر وقطر وتركيا وروسيا، تكتفي تل أبيب بالولايات المتحدة إلى جانب مصر وقطر، وتستبعد أي دور ضامن للأمم المتحدة وتركيا وروسيا.
نتنياهو والتلويح بالهجوم على رفح
يعمل نتنياهو على استثمار كافة أوراق الضغط لتحسين شروط التفاوض لصالحه ولدفع المقاومة الفلسطينية للتراجع عن مواقفها، حيث اتبع استراتيجية تقوم على زيادة الضغط العسكري على المقاومة، من خلال التلويح بالعملية العسكرية تجاه مدينة رفح.
وبينما كان يُفترض انتقال الاحتلال للمرحلة الثالثة في حربه على قطاع غزة، المُتمثلة بخفض كثافة النيران والانتقال لعمليات المباغتة والاغتيال، تعمد الإبقاء على قطاعات من قواته النظامية في مناطق غرب خان يونس ووسع العمليات تجاه مناطق حدودية؛ مثل عبسان الكبيرة، في محاولة لتعزيز الضغط على المقاومة، بهدف أن يجد لذلك انعكاساً على مواقف المفاوض الفلسطيني.
وبالإضافة للضغط العسكري على المفاوض الفلسطيني، يعمل الاحتلال على الضغط على الوسيطين المصري والقطري لحثهما على توجيه ضغوطهما باتجاه حماس.
تجلّى ذلك من خلال تحميل وزير المالية الإسرائيلي المتطرف "بتسلئيل سموتريتش" القاهرة المسؤولية "إلى حد كبير" عن تهريب الأسلحة إلى غزة عبر محور فيلادلفيا ووضع مصر تحت تهديد تهجير النازحين في رفح إلى سيناء، بالإضافة إلى توجيه انتقادات لاذعة ضد دولة قطر والتحريض ضدها بزعم علاقتها الإيجابية بالمقاومة الفلسطينية.
سيظل التهديد الأكثر حساسية هو التلويح بتنفيذ عملية عسكرية واسعة في مدينة رفح، والتي باتت مدينة نزوح يقطنها نحو مليون ونصف المليون من سكان قطاع غزة، ويريد الاحتلال بذلك أن يُخير الأطراف جميعها بين استعادة الأسرى الإسرائيليين وفق شروط الاحتلال أو اقتحام مدينة رفح.
كارثة إنسانية!
غير أن هذه التهديدات لا تزال تصطدم بالكارثة الإنسانية الناتجة عن هذه العملية ما لم يجر إجلاء النازحين إلى مناطق أخرى في القطاع، وهو شرط تطالب به الولايات المتحدة ومصر قبل البدء في العملية التي لا تعارضانها من حيث المبدأ.
بالإضافة إلى ذلك، فإن العملية العسكرية في مدينة رفح قد تستلزم إعادة الزج بقوات داخل القطاع، وهو أمر تزداد صعوبته بالنظر للمخاوف إزاء احتمالات تصاعد وتيرة الاشتباكات مع "حزب الله" اللبناني في الجبهة الشمالية، والتهديدات الأمنية في الضفة الغربية المحتلة، خاصة خلال شهر رمضان.
وقد تزايدت حدة المخاوف من هذه التهديدات الأمنية في أعقاب رضوخ نتنياهو لخطة وزير الأمن الداخلي المتطرف، إيتمار بن غفير، بشأن منع وصول الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى المسجد الأقصى للصلاة خلال شهر رمضان، وتقييد وصول فلسطينيي الداخل إلى الأقصى أيضاً والسماح فقط بمن هم فوق سن السبعين عاماً.
هذه الخطة التي وافق عليها مجلس الحرب المصغر، بحسب وسائل الإعلام العبرية، تخالف توصيات جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، التي تحذر من أن خطوة كهذه قد تتسبب في انفجار الأوضاع.
ما تأثير هذه المحددات على الهجوم المرتقب؟
هذه المحددات لن تمنع على الأرجح تنفيذ العملية العسكرية في رفح، لكنها قد تؤثر على توقيتها وعلى طبيعتها إن كانت واسعة أو موضعية. وحتى في حال استجاب الاحتلال للمطالب المصرية والأمريكية بالسماح بعودة أعداد من النازحين إلى مناطق محددة خارج رفح، فإن المدينة الصغيرة ستظل مكتظة بالمدنيين، ومن ثم فإن العملية العسكرية ستكون تكلفتها الإنسانية باهظة، كما ستؤدي إلى عبور نازحين للشريط الحدودي باتجاه رفح المصرية، وهو الأمر الذي يبدو أن مصر تتجهز له في ظل الاستعدادات الجارية لإقامة منطقة عازلة في الجانب المصري من الحدود قد تستوعب 100 ألف نازح فلسطيني.
وسط هذه العوامل والمعطيات، تتجه الأنظار نحو الدور الأمريكي الذي يدفع نحو إعادة صياغة شكل الحرب في قطاع غزة، وينظر بحساسية لعدم تعاطي نتنياهو بإيجابية مع رغبة إدارة بايدن في التوصل لاتفاق وفق مسودة باريس وتأجيل الهجوم على رفح، باعتبار ذلك "ممراً ضرورياً" لاحتواء التصعيد على الجبهة الشمالية وفي عموم الإقليم.
بالإضافة لحاجة الولايات المتحدة لإنضاج رؤية سياسية بشأن "اليوم التالي" للحرب، وهو الأمر الذي تعمل عليه مع أطراف إقليمية؛ تشمل السعودية ومصر والأردن والإمارات والسلطة الفلسطينية، فضلاً عن ربط هذه الرؤية بمحاولة استئناف مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي.
في حال قرر نتنياهو الذهاب مباشرة للهجوم على رفح، فإن ذلك لا شك سيجمّد أي مفاوضات جارية حول اتفاق هدنة طويلة وتبادل الأسرى، وسيبقي المنطقة بصورة عامة على حافة تصعيد متعدد الجبهات.
وعلى الرغم من تبنّي الرئيس الأمريكي جو بايدن نفس أجندة الأهداف الإسرائيلية، إلا أن التوتر المتصاعد بينه وبين نتنياهو ورفض الأخير لنصائح الإدارة الأمريكية، قد يؤدي لتعامل واشنطن بصورة مغايرة مع حكومة نتنياهو.
كانت إسرائيل وجيشها قد روَّجت على مدى أسابيع إلى أن قادة حماس ومركز سيطرتها موجودون في قلب مدينة غزة شمال القطاع، ثم انتقلت مزاعم الاحتلال إلى مدينة خان يونس في الوسط، والآن يتحدثون عن مدينة رفح في الجنوب.
وتقع مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة على الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وفلسطين، وتبلغ مساحة المدينة 55 كيلومتراً مربعاً؛ ما يجعلها أكبر مدن القطاع في الجنوب، وهي ملاصقة للشريط الحدودي لشبه جزيرة سيناء المصرية؛ حيث يوجد معبر رفح.
وباتت رفح الآن تستضيف أكثر من 1.5 مليون نازح فلسطيني، وقد نزح بعض هؤلاء نحو 6 مرات هروباً من القصف الإسرائيلي المستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتظهر صور الأقمار الصناعية، التي التقطت خلال الشهرين الماضيين، تسارع وتيرة النزوح في قطاع غزة في الأسابيع الأخيرة؛ حيث إن جميع الأراضي غير المأهولة بالسكان تقريباً، الواقعة شمال غربي محافظة رفح، قد تحولت إلى ملاجئ للنازحين؛ إذ نزح معظم سكان رفح الحاليين بسبب العدوان الإسرائيلي من أجزاء أخرى من غزة، ويعيشون في الخيام التي نصبوها من قضبان معدنية أو عصي، أو أغصان الشجر، وغطوها بالأقمشة أو المواد البلاستيكية، فيما تعد رفح الملاذ الأخير بالنسبة لهم.
وفضل العديد من النازحين البقاء في الجزء الغربي من المدينة القريب من البحر، خشية تعرضها لاجتياح من الجهة الشرقية القريبة من الحدود مع إسرائيل. وشُيدت الآلاف من الخيم في رفح منذ بداية ديسمبر/كانون الأول بالقرب من الحدود المصرية، ويظهر تحليل لصور الأقمار الصناعية، قامت به هيئة الإذاعة البريطانية BBC، الأعداد المتزايدة للخيام في رفح منذ بدء الحرب، حيث تغطي الخيم الجديدة مساحة تقدر بحوالي 3.5 كيلومتر مربع.