يمثل توقيع آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، وموسى بيهي عبدي، رئيس أرض الصومال، مذكرة تفاهم تقضي بأن يمنح الأخير أديس أبابا حق الوصول إلى مياه البحر الأحمر، وصفة تنذر باندلاع أزمة في القرن الأفريقي، فما أبعادها؟
منصة "أسباب" المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي رصدت تفاصيل القصة، سواء بين طرفيها المباشرَين، أو تداعياتها المحتمَلة على أطراف المنطقة والقوى الأخرى بشكل عام.
إثيوبيا والصومال
بموجب مذكرة الاتفاق الموقّعة يوم 1 يناير/كانون الثاني 2024، يمنح أرض الصومال، وهو إقليم صومالي غير معترَف باستقلاله إقليمياً ولا دولياً، إثيوبيا حق الوصول إلى 20 كم من سواحله، وبناء قاعدة بحرية عسكرية عبر استئجار الأرض لمدة 50 عاماً، مع استخدام ميناء بربرة لاستيراد البضائع من الخارج لصالح أديس أبابا، مقابل اعتراف إثيوبيا بكيان "أرض الصومال" كدولة ذات سيادة، وحصول هرجيسا – عاصمة أرض الصومال- على حصة من ملكية الخطوط الجوية الإثيوبية.
كان آبي أحمد قد أعلن، في خطابه أمام البرلمان في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن "ضرورة إيجاد منفذ لإثيوبيا على البحر الأحمر لاستعادة العظمة الإثيوبية، بدلاً من الغرق في غياهب النسيان". وبينما يترجم اتفاقه مع "أرض الصومال" هذا الطموح، فإنه يصطدم بمقديشو، ويعيد إحياء الصراعات التاريخية التي ينظر فيها قطاع واسع من الصوماليين إلى أديس أبابا كجهة تسعى لتفتيت الصومال والانقضاض على سيادته والهيمنة على موارده. خاصة أن كثيراً من الصوماليين يعتقدون أن إثيوبيا سبب رئيسي في معضلتهم التي يعيشونها منذ عام 1991 الذي شهد انهيار الحكم المركزي.
إذ يوجد خط صدع تاريخي بين إثيوبيا، ذات الأراضي المرتفعة، والتي هيمنت المسيحية على تاريخها وحكمها، وبين الصومال بسهوله الممتدة وسكانه المسلمين. وقد تفتت الصومال التاريخي في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى 5 مكونات:
– جزء جنوبي احتلته إيطاليا، واستقل عام 1960، ويُعرف حالياً باسم جمهورية الصومال الفيدرالية.
– جزء شمالي احتلته بريطانيا، واستقل عنها عام 1960، واتحد مع الجزء الجنوبي عام 1961. وفي عام 1991 أعلن الانفصال من جانب واحد مع انهيار الحكم بالبلاد، ليصبح اسمه "أرض الصومال" دون أن يحظى باعتراف دولي.
– جزء احتلته فرنسا، واستقل عام 1977 تحت اسم دولة "جيبوتي".
– جزء سيطرت عليه كينيا، وضمته إلى أراضيها، ويمثل 20% من مساحة كينيا حالياً.
– إقليم أوغادين، المعروف باسم الصومال الغربي، والذي تنازلت عنه بريطانيا لإثيوبيا لقاء دعم الأخيرة لها في مواجهة الثورة المهدية بالسودان في القرن التاسع عشر، ومعاونتها في مواجهة إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية، وأصبح جزءاً من إثيوبيا.
وفي عام 1977 اندلعت حرب أوغادين بين إثيوبيا والصومال، واستعادت فيها مقديشو غالبية أراضي الإقليم، لكن الاتحاد السوفييتي وكوبا تدخلا لدعم إثيوبيا آنذاك، مما أنهى الحرب بخسارة كبيرة للصومال ساهمت في تردي أوضاعه الاقتصادية، وانتشار التذمر وسط صفوف ضباط الجيش، وتنامي القبضة الأمنية لنظام "سياد بري"، الذي وصل للسلطة بانقلاب عسكري في عام 1969، واستمر في الحكم إلى أن سقط عام 1991 مع تفكك نظامه، فدخلت البلاد نفق احتراب أهلي، وفي ذلك العام قررت "أرض الصومال"، البالغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة، الاستقلال من جانب واحد، وحظيت بدعم من إثيوبيا التي ساعدت سابقاً المعارضين الصوماليين لحكم "سياد بري".
بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، لعبت إثيوبيا دور شرطي المنطقة لمصلحة واشنطن، وفرضت وصاية أمنية وعسكرية على الصومال بحجة مكافحة الإرهاب، حيث غزته عام 2006 للقضاء على المحاكم الإسلامية التي سيطرت على مقديشو آنذاك، وأوشكت على توحيد أراضي ما عُرف تاريخياً بالصومال الجنوبي، ثم رعت أديس أبابا بالتنسيق مع كينيا بناء دولة فيدرالية في الصومال مكونة من 5 أقاليم "غلمودوغ وهيران شبيلي وجوبا لاند وبونت لاند وجنوب غرب"، فضلاً عن أرض الصومال، فيما رفضت مقديشو الاعتراف باستقلال الأخير.
لذلك؛ ترى إثيوبيا أن ضمان أمنها الداخلي، وبقاء سيطرتها على أوغادين، يقوم على وجود صومال مجاور ضعيف هش ومفتت؛ فوحدة الصومال الجنوبي والشمالي، ستعيد للحياة مشروع "الصومال الكبير" المطالب باستعادة إقليم أوغادين، مما سيجدد حال حدوثه شبح الحرب، ويهدد بتفتت إثيوبيا التي تعاني من تمردات داخلية وخلافات عرقية متعددة بين التيغراي والأورومو والأمهرة.
آبي أحمد يسعى لاستعادة الهيمنة الإقليمية
من الناحية الجيوسياسية، فقدت إثيوبيا منفذها البحري بعد انفصال إريتريا عنها في عام 1991، مما حولها إلى إحدى أكبر الدول الحبيسة في العالم، فاعتمدت على جيبوتي في تصدير واستيراد 95% من تجارتها عبر خط سكة حديد أسسته فرنسا سابقاً ضمن مشروع للربط بين مستعمراتها في شرق القارة الأفريقية وغربها. يكلف هذا إثيوبيا نحو 1.5 مليار دولار كرسوم تدفعها لجيبوتي، وهو مبلغ ضخم في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها أديس أبابا ودفعتها مؤخراً للتخلف عن سداد 33 مليون دولار من ديونها الخارجية. والأهم من ذلك، فإنه يبقى على إثيوبيا قيود تعيق مساعيها للهيمنة الإقليمية.
ولا تُعد طموحات آبي أحمد البحرية مفاجئة أو وليدة اللحظة؛ حيث سبق أن أطلق في مارس/آذار 2019 مشروع إعادة إحياء القوات البحرية الإثيوبية باتفاقية مع فرنسا بقيمة 96 مليون دولار، تشمل تطوير سلاح البحرية الإثيوبي وتدريب البحارة الإثيوبيين بفرنسا. ثم أعادت إثيوبيا تأسيس أسطولها البحري عام 2020، بعد نحو 3 عقود من حله، إثر استقلال إريتريا. ولهذا؛ قد تكون فرنسا داعمة ضمنياً لجهود "آبي أحمد" التي تمنحها نفوذاً جديداً في شرق القارة بعد سلسلة انتكاساتها في غربها.
وسيتيح تأسيس قاعدة عسكرية بحرية على البحر الأحمر لإثيوبيا أن تستعيد بحريتها الإمبراطورية، وأن تنضم لنادي اللاعبين في المحيط الهندي ومضيق باب المندب وبحر العرب، مما يعزز من قوتها، ويمنحها أدوات للتأثير على حركة التجارة والاقتصاد، فضلاً عن المطالبة بمزيد من المكتسبات على حساب جيرانها الأضعف.
ومن جهة أخرى، فإن تنويع نقاط وصول إثيوبيا للبحر يحررها من قيود الجغرافيا التي فرضت عليها. وبينما ستعاني جيبوتي مع تناقص عائداتها من الرسوم التي تجنيها من مرور البضائع إلى إثيوبيا عبر أراضيها وموانئها إذا تحولت جميعها إلى أرض الصومال، فإن ذلك يمنح أديس أبابا فرصة لإملاء شروطها، خاصة أنها تسعى في الوقت نفسه للحصول على حصة في ميناء جيبوتي.
ماذا عن ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية؟
أدانت الحكومة الصومالية في مقديشو الاتفاق بين أديس أبابا وهرجيسا، واعتبرته باطلاً، ويمثل انتهاكاً لسيادتها وتهديداً للاستقرار الإقليمي، كما استدعت سفيرها من إثيوبيا للتشاور، ودعت جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنظمات المعنية بالصومال إلى اجتماعات طارئة.
كذلك سارعت حركة الشباب الصومالية لإصدار بيان يندد بإثيوبيا، ويتهم الحكومة الصومالية بالتسبب فيما حدث؛ نظراً لتعاونها الأمني مع إثيوبيا في مواجهة الحركة داخل الصومال، وأكدت على سرديتها بأنها الجهة الوحيدة القادرة على ردع إثيوبيا والدفاع عن أراضي الصومال، وذلك في ظل تأسيسها خلال الأعوام الأخيرة من حرب أوغادين ضد قوات شرطة "ليو" الإثيوبية.
تستشعر العديد من دول الجوار خطورة الموقف في ظل صعود طموحات آبي أحمد التوسعية، وإصراره على إعادة إثيوبيا إلى وضع القوة المهيمنة في القرن الأفريقي. وجاءت مصر في مقدمة تلك الدول، في ظل استمرار أزمة سد النهضة، حيث أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في اتصال مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، على وقوف القاهرة بجانب الصومال ودعم أمنه واستقراره.
أما تركيا، الحليف الأبرز للصومال، والتي دعمته في العهد العثماني في مواجهة غارات البرتغاليين، كما توجد لها حالياً قاعدة عسكرية في الصومال، فقد أكدت في بيان لوزارة خارجيتها على التزامها بوحدة الصومال وسيادته وسلامة أراضيه. وأكد الرئيس أردوغان في اتصال هاتفي مع نظيره في مقديشو على أن التوتر بين الصومال وإثيوبيا ينبغي أن ينتهي على أساس وحدة أراضي الصومال.
وهو الموقف نفسه الذي أعلنته وزارة الخارجية السودانية في بيان رسمي شدد على ضرورة التعامل مع الحكومات الشرعية المعترف بها دولياً دون غيرها من الكيانات، فيما أكدت الجامعة العربية على أن الاتفاق ملغى، ويمثل انتهاكاً لوحدة الصومال. كذلك دعا بيان أصدرته المفوضية الأوروبية لأهمية احترام وحدة الصومال وسيادته، بينما دعا الاتحاد الأفريقي إلى التهدئة والتفاوض بين إثيوبيا والصومال، وضرورة احترام أراضي الدول أعضاء الاتحاد.
من المرجح أن أبوظبي هي جهة محركة من خلف الستار للاتفاقية الإثيوبية مع أرض الصومال؛ فقد سبق أن رعت اتفاقاً ثلاثياً لإدارة ميناء بربرة في عام 2018 بين حكومة أرض الصومال وإثيوبيا وشركة موانئ دبي العالمية، وقضت بتقاسم الاستثمار في الميناء بواقع 51% لشركة موانئ دبي، و30% لأرض الصومال، و19% لإثيوبيا. وذلك ضمن استراتيجيتها لربط المراكز اللوجستية والبنية التحتية البحرية في الخليج مع البحر الأحمر والقرن الأفريقي. كما زار الرئيس الإماراتي محمد بن زايد أديس أبابا في عام 2023، ووقع 17 اتفاقية تعاون مع إثيوبيا بعد أن قدّم لها الدعم بالطائرات المسيّرة والأسلحة في مواجهة تمرد التيغراي.
مآلات الاتفاق: تقويض استقرار الصومال وزيادة العداء في المنطقة
في حال المضي في تنفيذ الاتفاق، سيكون من المرجح أن تتجمّد المفاوضات بين الصومال و"أرض الصومال" الخاصة بالوصول إلى حل سلمي للقضايا الخلافية بين الجانبين، والتي رعت جيبوتي أحدث جولاتها في 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، أي قبل 3 أيام فقط من الإعلان عن مذكرة التفاهم بين أديس أبابا وهرجيسا. وسيؤدي اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال لانهيار العلاقات بين أديس أبابا ومقديشو، وصولاً إلى احتمال تعليق التعاون بين البلدين في مواجهة حركة الشباب، والتي ستستفيد من الوضع في الطعن في حكومة مقديشو، وتعزيز شرعيتها عبر إعادة تقديم نفسها كحركة مقاومة لإثيوبيا، ومطالبة بتحرير الأراضي الصومالية في أوغادين.
وقد يشجّع الاتفاق بعض حكومات أقاليم الصومال الخمسة على المضي في اتفاقات ثنائية مع دول أخرى بمعزل عن مقديشو، وهو ما سيعزز من الخلافات الداخلية الصومالية، ويهدد تماسك الدولة الفيدرالية الهش أصلا، والتي ما زالت تواجه تحديات جمة في بناء مؤسسات وطنية، متجاوزة للانتماءات والمصالح القبلية والجهوية.
وسيزداد قلق مصر والسودان وإريتريا إزاء طموحات آبي أحمد للهيمنة الإقليمية، والتي تهدد باندلاع سلسلة من الحروب في القرن الأفريقي تضاف للحروب الداخلية التي تشهدها كل من إثيوبيا والسودان. ويتوقع أن تقدم مصر مساعدات لمقديشو، فيما ستواصل إريتريا دعمها لميليشيات أمهرة وجيش تحرير أورومو المتمرد لإضعاف حكم آبي أحمد في ظل تزايد التسريبات عن طموحه باستعادة السيطرة على ميناء عصب الإريتري.
الخلاصة
من المتوقع أن يسعى الاتحاد الأوروبي للوساطة بين مقديشو وأديس أبابا وهرجيسا، في ظل خشية الدول الأوروبية من أن يؤدي صراع جديد في القرن الأفريقي إلى موجة نزوح واسعة باتجاه أوروبا، كما يمكن لأنقرة التي فتحت قنصلية عامة في هرجيسا في عام 2014 أن تلعب أيضاً دوراً في الوساطة، حيث سبق أن استضافت عدة جولات من المفاوضات بين حكام مقديشو وهرجيسا، كما أنها تتمتع بعلاقات قوية مع آبي أحمد، وكانت إحدى الجهات الفاعلة في دعم الجيش الإثيوبي عسكرياً لمواجهة تمرد التيغراي.
وهكذا؛ قد تقود أرض الصومال عبر اتفاقها مع إثيوبيا إلى تأجيج الصراع في القرن الأفريقي، ودفع خصوم ومنافسي إثيوبيا لدعم المجموعات المتمردة داخلها، لإشغال آبي أحمد عن مشاريعه التوسعية في دول الجوار. فيما سيحاول الأخير عبر تحكمه في مياه النيل بواسطة سد النهضة، واكتساب منفذ بحري على البحر الأحمر، إلى ابتزاز جيرانه وتوسيع نفوذه، وهو ما قد يؤدي إلى صدامات دامية حال عدم التوصل لتسوية وتفاهمات سياسية.
وقد تقود أرض الصومال عبر اتفاقها مع إثيوبيا إلى تأجيج الصراع في القرن الأفريقي، ودفع خصوم ومنافسي إثيوبيا، خاصة مصر والسودان وإريتريا، لدعم المجموعات المتمردة داخلها، لإشغال آبي أحمد عن مشاريعه التوسعية في دول الجوار. فيما سيحاول الأخير عبر تحكمه في مياه النيل بواسطة سد النهضة، واكتساب منفذ بحري على البحر الأحمر، إلى ابتزاز جيرانه وتوسيع نفوذه، وهو ما قد يؤدي إلى صدامات دامية حال عدم التوصل لتسوية وتفاهمات سياسية.
فطموحات آبي أحمد البحرية لا تُعد مفاجئة أو وليدة اللحظة، حيث سبق أن أطلق مشروع إعادة إحياء القوات البحرية الإثيوبية، وأعاد تأسيس أسطولها البحري. وسيتيح تأسيس قاعدة عسكرية بحرية على البحر الأحمر لإثيوبيا أن تستعيد بحريتها الإمبراطورية، وأن تنضم لنادي اللاعبين في المحيط الهندي ومضيق باب المندب وبحر العرب. كما يكفل لها تنويع نقاط وصول إثيوبيا للبحر ويحررها من قيود الجغرافيا التي فُرضت عليها.
في حال المضي في تنفيذ الاتفاق، سيكون من المرجح أن تتجمّد المفاوضات بين الصومال و"أرض الصومال" الخاصة بالوصول إلى حل سلمي للقضايا الخلافية بين الجانبين. وقد يشجّع الاتفاق بعض حكومات أقاليم الصومال الخمسة على المضي في اتفاقات ثنائية مع دول أخرى بمعزل عن مقديشو، وهو ما سيعزز من الخلافات الداخلية الصومالية.
وبينما يتوقع أن تكون الاتفاقية مدعومة من قبل الإمارات وفرنسا، فمن المتوقع أن يسعى الاتحاد الأوروبي للوساطة بين مقديشيو وأديس أبابا وهرجيسا، كما يمكن لأنقرة أن تلعب أيضاً دوراً في الوساطة، في ظل علاقاتها العميقة مع كل من مقديشو وآبي أحمد.