جرى تداول تحذيرات بشأن تصعيد على مستوى الشرق الأوسط بأكمله منذ الأيام المشحونة الأولى بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ويُعتقَد بشكلٍ عام أنَّ بؤرة التوتر الأخطر هي حدود إسرائيل الشمالية مع لبنان، حيث احتدمت الاشتباكات بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي بصورة كبيرة في الأيام الأخيرة.
هل نحن مقبلون على "انفجار إقليمي"؟
تؤجج الضربات الجوية الإسرائيلية المتفرقة داخل سوريا، والهجمات المحدودة المتكررة من جانب مسلحين على القواعد الأمريكية في العراق والهجمات الانتقامية الأمريكية، سردية اشتعال حرب أوسع نطاقاً قريباً. فيما تؤدي هجمات الحوثيين اليمنيين على حركة الشحن الإسرائيلية في البحر الأحمر باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ، إلى زيادة القلق.
مع ذلك، لم يحدث الانفجار الإقليمي الذي تنبّأ به كثيرون، حتى الآن على الأقل. وهنالك سببان رئيسيان لهذا كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية: الأول أنَّ الضغط الأمريكي قد أثنى حكومة الحرب الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، عن شن هجمات متزامنة على حماس وحزب الله بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتشير تقارير إلى أنَّ حكومة الحرب قد فكرت في ذلك بالبداية. وأصبح الموقف الرسمي لإسرائيل منذ ذلك الحين هو أنَّ "تدمير حماس في غزة هو أولويتها الأولى".
وينبع السبب الثاني من حسابات قيادة إيران بأنَّ أفضل ما يخدم مصالحها هو البقاء بمنأى عن الحرب. ويُعَد حزب الله والجماعات السورية والعراقية واليمنية كلها وكلاء لإيران، وهي مُسلَّحة ومُجهَّزة ومُدرَّبة، بل وفي كثيرٍ من الأحيان مُدارة من جانب طهران والحرس الثوري الإيراني، على الرغم من النفي. وهذه الجماعات، وليست إيران، هي مَن تخوض القتال. وبهذه الطريقة، تشن إيران حرباً على إسرائيل، لكن ليس بصورة مباشرة وعلى نحو يمكنها من نفي مسؤوليتها إلى حدٍّ ما٬ كما تقول الغارديان.
المشكلة المباشرة هنا هي أنَّ قوة هذين العاملين، اللذين يشجعان معاً على ضبط النفس، في تراجع، كما تقول الغارديان. وبصياغة أكثر وضوحاً، في ظل اقتراب الحرب من شهرها الرابع، فإنَّ الطرفين يُشمِّران عن سواعدهما. وقد يُفسِّر هذا التصور التدخل الأخير القوي من جانب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي طالب بـ"وقف إطلاق نار دائم" في غزة خلال محادثات أجراها مع نتنياهو هذا الأسبوع.
كما يساعد في التركيز الأمريكي والبريطاني والألماني المتزايد على خفض التصعيد وإيقاف واحتواء الفوضى في غزة. يأتي هذا مدفوعاً ظاهرياً بمخاوف بشأن أكثر من 21 ألف شهيد فلسطيني وما تندد به الأمم المتحدة باعتباره كارثةً إنسانية. مع ذلك، يعرف القادة الغربيون أنَّ حملة القتل العشوائية على نحوٍ إجرامي وعديمة الشفقة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة، والتي يُفترَض أنَّ هؤلاء القادة بلا حول ولا قوة لوقفها، أصبحت استفزازاً يومياً لا يمكن تحمُّله بالنسبة لخصوم إسرائيل. وما يحركهم حقاً هو الشبح الذي يلوح في الأفق لحدوث انفجار إقليمي بعيد المدى ناتج عن ذلك.
وقد تجاوز الاغتيال الإسرائيلي المُستهدِف في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع للسيد رضي موسوي، وهو قائد كبير بالحرس الثوري الإيراني في سوريا، أحد الخطوط الحمراء غير المرئية التي سمحت حتى الآن لإسرائيل وإيران بتجنُّب المواجهة المباشرة. كان موسوي شخصية كبيرة مسؤولة عن تنسيق تعاملات إيران مع حزب الله والنظام السوري. وقد تعهَّدت إيران بانتقام هائل من إسرائيل. لكنَّ عملية الاغتيال بعثت برسالة أخرى أيضاً.
فكتب المحلل بصحيفة Haaretz الإسرائيلية، عاموس هرئيل: "يُنظَر إلى موت موسوي في المنطقة باعتباره إشارة إسرائيلية إلى إيران بأنَّها لا يمكنها مواصلة التمتُّع بالحصانة في حين تُعزِّز وتُموِّل الإرهاب المعادي لإسرائيل من خلال وكلائها. وهو أيضاً يُقرِّبنا أكثر إلى احتمال حدوث تصعيد مع حزب الله، وحتى مع إيران، على الجبهة الشمالية". وأشار هرئيل إلى أنَّ صبر إسرائيل ينفد في ظل النيران الكثيفة من جانب حزب الله. ولمح بيني غانتس، عضو حكومة الحرب البارز، إلى أنَّ إسرائيل قد تغزو لبنان قريباً إذا لم يتحسن الوضع.
"حرب متعددة الجبهات"
ومن الواضح أنَّ ضبط النفس وحرب الوكالة عن بُعد لهما حد. فمن جانبها، ربما تواجه إيران صعوبة في كبح المسلحين الذين ساعدتهم. إذ لم يرتدع الحوثيون اليمنيون، على سبيل المثال، بتشكيل قوة مهام دولية بقيادة الولايات المتحدة، وكثَّفوا هجماتهم البحرية منذ ذلك الحين.
في الوقت نفسه، لجأت القيادة الإسرائيلية إلى وصف نفسها بأنَّها منخرطة بالفعل في "حرب متعددة الجبهات"، وهو ادعاء يشير إلى تصعيد فوري سريع. فقال وزير الدفاع، يوآف غالانت، أمام الكنيست هذا الأسبوع، إنَّ إسرائيل "تتعرَّض للهجوم من 7 ساحات: غزة، ولبنان، وسوريا، ويهودا والسامرة (الضفة الغربية)، والعراق، واليمن، وإيران". وقال إنَّ إسرائيل ترد بصورة شاملة.
ومن بين "مناطق الصراع" السبع، يُعَد الخط الأزرق الفاصل بين إسرائيل ولبنان حالياً هو الأكثر اضطراباً في نظر كثيرين بإسرائيل ويتأرجح على شفا الحرب الشاملة. فصرَّح وزير لم تُحدَّد هويته، من حزب الليكود الحاكم بزعامة نتنياهو، لصحيفة Haaretz: "المزيد والمزيد من الناس يتقبَّلون فكرة أنَّه لا مفر من الحرب مع حزب الله، والتي ربما تكون قريبة".
نتنياهو اليائس تناسبه "الحرب بلا نهاية"
وهنالك سببٌ آخر للاعتقاد بأنَّ التصعيد الآن يمثل خطراً حقيقياً، يتمثَّل في الاعتقاد غير المتوهم بأنَّ نتنياهو، اليائس والمحاصر والفاقد للمصداقية والذي لا يحظى بشعبية، قد يرحب باحتمال وقوع إسرائيل في حالة حرب شبه دائمة ضد جميع الخصوم، كما تقول الغارديان. فمن شأن الصراع الشامل، الذي يُصوَّر باعتباره وجودياً بطبيعته، المساعدة في إسكات منتقديه، وتقوية إرادة وتماسك ائتلافه الحكومي، وتشتيت الدعوات المطالبة باستقالته وإجراء انتخابات مبكرة.
الأكثر من ذلك أنَّ حرباً أوسع نطاقاً بلا نهاية، تهاجم فيها إسرائيل وكلاء إيران بصورة متعمدة، قد تفتح الطريق لتحقيق طموح نتنياهو الذي أعلنه وهدد به كثيراً: مواجهة النظام الإيراني نفسه بصورة مباشرة، وفرض تصفية أخيرة للحسابات مع أخطر خصم لإسرائيل، وهي مواجهة مصيرية طلب فيها ذات مرة، مساعدة دونالد ترامب وكاد يحصل عليها.
وحرب بلا نهاية تعني باختصارٍ نجاة نتنياهو، في حين أنَّ عدداً لا يُحصى من الآخرين لن ينجو بلا شك. وإذا ما نجح في تحقيق مراده، فإنَّ غزة قد تكون مجرد البداية.