إسرائيل تغيرت للأبد بسبب عملية طوفان الأقصى، لا يعرف بعد إلى أي اتجاه سيكون هذا التغير، ولو الأكيد أن الإسرائيليين فقدوا كثيراً من الثقة في دولتهم وفي قوة ما كانوا يعتبرونه جيشاً لا يقهر.
فلقد تركت الغارة غير المسبوقة التي شنتها حماس وأدت لمقتل نحو 1200 إسرائيلي وأسر المئات الدولة العبرية في حالة من الصدمة العميقة، ومن المتوقع أن تعيد تشكيل هذه الصدمة البلاد لسنوات قادمة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
طوفان الأقصى حطم فكرة أن الاحتلال والحصار سيستمران دون ثمن
لقد حطم هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول فكرة أن الحصار الإسرائيلي لغزة واحتلال الضفة الغربية يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى دون تداعيات كبيرة.
وأدى الهجوم الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل إلى إعادة النظر في الذات لدى اليسار الإسرائيلي، مما قوَّض الإيمان بمستقبل مشترك مع الفلسطينيين، حسب الصحيفة.
ولكنه خلق أزمة ثقة في اليمين الإسرائيلي، مما أدى إلى إضعاف الدعم لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقد أدى ذلك إلى تقريب اليهود الأرثوذكس المتطرفين، الذين غالباً ما يكونون متناقضين بشأن علاقتهم بالدولة الإسرائيلية، من التيار الرئيسي.
فكما أدت إخفاقات إسرائيل في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 إلى قلب حياتها السياسية والثقافية رأساً على عقب في نهاية المطاف، فمن المتوقع أن يؤدي هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وتوابعه إلى إعادة تشكيل إسرائيل لسنوات قادمة.
انهيار الإحساس بالأمن يعيد للأذهان لعنة العقد الثامن
وقد أدى الهجوم، الذي أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 1200 شخص، إلى انهيار إحساس الإسرائيليين بالأمن وهز ثقتهم في قادة البلاد.
لقد حطمت فكرة أن الحصار الإسرائيلي لغزة واحتلال الضفة الغربية يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى دون تداعيات كبيرة على الإسرائيليين. وبالنسبة للأغلبية اليهودية في إسرائيل، فإن ذلك يشكل انتهاكاً للوعد المركزي للبلاد.
عندما تأسست إسرائيل في عام 1948، كان الهدف الذي تم الترويج له وتبرير نزع البلاد من أهلها الأصليين، هو توفير ملاذ لليهود، بدعوى أنهم تعرضوا للتشريد لمدة ألفي عام وعانوا من انعدام الجنسية والاضطهاد.
وبعد سبعة عقود من المذابح بحق الفلسطينيين، والاحتلال والقمع، ذاقت إسرائيل مما أذاقته للعرب لعقود، ففي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أثبتت تلك الدولة نفسها عدم قدرتها على منع أسوأ يوم من أعمال العنف ضد اليهود منذ المحرقة، حسب وصف الصحيفة الأمريكية.
"في تلك اللحظة، شعرت أن هويتنا الإسرائيلية محطمة للغاية، حسبما تقول دوريت رابينيان، الروائية الإسرائيلية: "شعرت وكأن 75 عاماً من السيادة والإسرائيلية قد اختفت – في لمح البصر".
وأضافت: "كنا إسرائيليين". "الآن نحن يهود".
أعاد ذلك للأذهان ما يعرف باسم لعنة العقد الثامن التي يقول بعض اليهود إنها تطارد كل الدول التي أسسوها وتحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك قبل طوفان الأقصى بفترة.
التكنولوجيا تقف عاجزة أمام طوفان الأقصى.. فهل بات الثراء والتقدم لعنة على إسرائيل؟
وتراجعت الهجرة لإسرائيل بشكل كبير بعد طوفان الأقصى، إذ أظهرت إحصاءات وزارة الهجرة والاندماج الإسرائيلية انخفاضاً حاداً في أرقام المهاجرين اليهود إلى إسرائيل منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ففي شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2023 لم يصل إلى إسرائيل سوى 1000 مهاجر فقط خلال كل شهر، مقارنة بـ7 آلاف في شهر يناير/كانون الأول 2023.
كما أن المجتمع الإسرائيلي بات مجتمعاً ثرياً متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي فيه أعلى من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وشركات التكنولوجيا تقود الاقتصاد الإسرائيلي وتلعب دوراً حيوياً في السياسة الدفاعية الإسرائيلية ولكن رغم ذلك هذه التكنولوجيا أخفقت في توقع أو وقف طوفان الأقصى.
والأهم أنها الطبقة الواسعة العاملة في مجال التكنولوجيا مثلها مثل الطبقات المماثلة في العالم لا تريد ترك عيشتها المرفهة لتحارب لسنوات في جبهات موحشة، الأسوأ بالنسبة لإسرائيل أن هذه الطبقة التكنولوجية مطلوبة بشدة في كافة أنحاء العالم.
الهجوم وحَّد الإسرائيليين
وفي الوقت الحالي، أدى الهجوم أيضاً إلى توحيد المجتمع الإسرائيلي إلى درجة لم يكن من الممكن تصورها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، عندما كان الإسرائيليون منقسمين بشدة حول جهود بنيامين نتنياهو للحد من سلطة المحاكم؛ ومن خلال الخلاف حول دور الدين في الحياة العامة؛ ومستقبل نتنياهو السياسي.
وطوال هذا العام، حذر القادة الإسرائيليون من حرب أهلية.
ومع ذلك، وفي لحظة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وجد الإسرائيليون من جميع المشارب قضية مشتركة فيما حاولوا توصيفه كـ"معركة وجودية" من أجل مستقبل إسرائيل.
ومنذ ذلك الحين، تعرضوا لصدمة جماعية بسبب الانتقادات الدولية للانتقام الإسرائيلي في غزة.
أخيراً، بعض اليهود المتطرفين ينضمون للجيش
وفي أجزاء من المجتمع الأرثوذكسي المتطرف، الذي كان إحجامه عن الخدمة في الجيش الإسرائيلي مصدراً للانقسام قبل الحرب، كانت هناك علامات على المشاركة في الجيش.
وترسم بيانات استطلاعات الرأي الأخيرة صورة لمجتمع يعاني من تغيرات عميقة منذ هجوم حماس.
ويؤيد الآن ما يقرب من 30% من الجمهور الأرثوذكسي المتطرف فكرة الخدمة العسكرية، أي أعلى بعشرين نقطة عما كان عليه قبل الحرب، وفقاً لاستطلاع للرأي أجراه في ديسمبر/كانون الأول معهد الحريديم للشؤون العامة، وهي مجموعة بحثية مقرها القدس.
وقال يوسي كلاين هاليفي، مؤلف وزميل في معهد شالوم هارتمان، وهي مجموعة بحثية في القدس: "لقد تغير شيء أساسي هنا، ولا نعرف ما هو بعد".
يجسد أرييه تسايجر، سائق حافلة من القدس، بعضاً من هذه التحولات.
في عام 2000، أصبح تسايجر واحداً من أقلية صغيرة من الإسرائيليين المتشددين الذين يعملون كمجندين عسكريين. في ذلك الوقت، شعر بأنه منبوذ من مجتمعه المتطرف.
وقال تسايجر: "كان الانضمام إلى الجيش أمراً غير مقبول لدى اليهود المتدينين".
يُعفى اليهود الأرثوذكس المتطرفون، المعروفون باسم الحريديم، من الخدمة حتى يتمكنوا من دراسة القانون اليهودي والكتاب المقدس في المعاهد الدينية التي تدعمها الحكومة. وعلى مدى عقود، ناضلوا من أجل الحفاظ على الإعفاء، مما أثار غضب الإسرائيليين العلمانيين لأنه يسمح للحريديم بالاستفادة من المال العام بينما لا يفعلون سوى القليل لحماية الدولة.
بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، عندما سارع للانضمام إلى الجيش، قال تسايجر إنه شعر بالترحيب من قبل الحريديم. هنأه أصدقاؤه، وأعطاه حاخام حريدي نعمة خاصة، وسألته العديد من المعابد الحريدية عما إذا كان يمكنه حضور صلاة السبت ببندقيته. خوفاً من المزيد من هجمات المقاومة الفلسطينية أرادت التجمعات أن تحظى بحمايته.
وقال تسايجر، 45 عاماً: "هذا تغيير كبير. إنهم يريدونني هناك".
لكن هذا قد يكون أمراً مؤقتاً
تعكس تجربة تسايجر تغييراً صغيراً ولكن ذا معنى بين أجزاء المجتمع الحريدي.
وكان تسايجر من بين أكثر من 2000 من الحريديم الذين سعوا للانضمام إلى الجيش في الأسابيع العشرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وفقاً للإحصاءات العسكرية. وقال الجيش في بيان إن هذا الرقم أقل من 1% من 360 ألف جندي احتياط تم استدعاؤهم بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكنه أعلى مرتين تقريباً من المتوسط.
ولكن نيري هورويتز، الخبير في شؤون الحريديم، قال إن التحول كان أصغر من أن يكون ذا أهمية، وإن ارتفاع التضامن الاجتماعي سوف ينحسر بنفس السرعة التي حدث بها بعد نقاط انعطاف سابقة. وقد تم بالفعل تصوير حاخام حريديم مؤثر وهو يقارن الجنود بجامعي القمامة. وأظهر مقطع فيديو آخر طلاب مدرسة دينية حريدية وهم غاضبون من محاولة تجنيد طالب من مؤسستهم.
ناخبو اليمين فقدوا ثقتهم في نتنياهو
وقد تخلى ما يقرب من ثلث الناخبين لحزب السيد نتنياهو اليميني، الليكود، عن الحزب منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لكل استطلاع وطني منذ الهجوم.
ويعود جزء من إحباط اليمين تجاه نتنياهو إلى الطريقة التي عززت بها حكوماته الشعور بالرضا عن النفس بشأن غزة. لقد تحدث مسؤولوها بشكل منتظم ومخطئ عن كيفية ردع حماس، وأن أكبر التهديدات المباشرة لإسرائيل تكمن في إيران ولبنان، وليس حماس.
ويأتي الغضب أيضاً من حقيقة أن نتنياهو مسؤول عن توسيع الخلافات العميقة في المجتمع الإسرائيلي والخطاب العام السام.
وقال نتانيل إلياشيف، الحاخام والناشر الذي يعيش في مستوطنة بالضفة الغربية، إنه في وقت مثل هذه الاضطرابات، يريد بعض الإسرائيليين اليمينيين خطاباً عاماً أكثر توازناً.
يقول الياشيف: "أعتقد أن نتنياهو في نهاية ولايته".
وإذا ما أُجريَت الانتخابات اليوم، تتوقع معظم استطلاعات الرأي أنَّ حزب الليكود سيخسر نحو نصف الأصوات التي حصل عليها قبل عام واحد فقط، وأنَّ بيني غانتس، وزير الدفاع السابق الذي انضم إلى حكومة الحرب المصغرة التي تشكَّلت بعد أيام من بدء الحرب، سيحقق فوزاً مريحاً ويصبح رئيس وزراء إسرائيل التالي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية
ويترأس نتنياهو الآن حكومة الحرب، لكنَّه يفتقر إلى الأغلبية العددية فيها.
ولكن نهجه المتطرف ازداد قوةً
وبغض النظر عن مصير نتنياهو الشخصي، فإن نهجه تجاه الفلسطينيين – بما في ذلك معارضة الدولة الفلسطينية ودعم المستوطنات في الضفة الغربية – لا يزال يحظى بشعبية كبيرة.
ويعارض أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين استئناف المفاوضات لإقامة دولة فلسطينية، وفقاً لاستطلاع للرأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني.
ويشعر المستوطنون اليهود في الضفة الغربية أيضاً أنهم فازوا بشكل حاسم بالحجة حول الحفاظ على الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.
ويزعم إلياشيف، أن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول لم يكن ليحدث لو بقي الجنود والمستوطنون الإسرائيليون في غزة.
بالطبع يتجاهل الإسرائيليون ويتعامون عن أن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كما يظهر من اسمه حدث بسبب احتلال الضفة، وتحديداً الانتهاكات بحق الأقصى، والاعتداءات على سكان الضفة، واستشراء الاستيطان والقمع بحق الأسرى.
وقال إلياشيف، مستخدماً المصطلح التوراتي للضفة الغربية: "السبب وراء عدم حدوث ذلك في يهودا والسامرة هو المستوطنات، من الناحية الأمنية، نحن بحاجة إلى أن نكون هنا".
وأضاف زاعماً: "أينما انسحبنا، يصبح الأمر كابوساً".
ولا يزال بعض الإسرائيليين يقولون إن الصراع يمكن حله من خلال إقامة دولة فلسطينية فاعلة في غزة والضفة الغربية.
لكن بالنسبة للآخرين، فإن حجم عملية طوفان الأقصى جعلهم أكثر تشدداً.
إسرائيل خسرت الحرب
على الجانب الآخر، ما لم تذكره الصحيفة الأمريكية في تقريرها، أنه مقابل التنميط العنصري للفلسطينيين والتقليل من قيمتهم وقدراتهم العسكرية، والذي ساهم في عدم توقع طوفان الأقصى، بات يتشكل لدى إسرائيل تصوراً معاكساً تماماً عن المقاومين الفلسطينيين، لا سيما حماس، فيحى السنوار هو أكثر شخصية مكروهة في إسرائيل، ولكن أكثر شخصية مرهوبة في الوقت ذاته، وبات له صورة أسطورية واغتياله هدفاً أساسياً للجيش الذي لا يقهر، كما باتت صلابة وصبر وكفاءة المقاتلين الفلسطينيين وصعوبة استسلامهم حديث بعض المحللين العقلاء الذين يتحدثون عن صعوبة الانتصار على حماس.
حتى إن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق دان حالوتس قال إن إسرائيل خسرت الحرب ضد حماس، وإن صورة النصر الوحيدة التي ستتحقق هي الإطاحة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وأضاف: "لن تكون هناك صورة للنصر في هذه الحرب، بل صورة للخسارة فقط مع وجود 1300 قتيل و240 مختطفاً و200 ألف لاجئ".
وإحدى المفارقات الكبرى في المجتمع الإسرائيلي في الوقت الحالي أنه رغم انجرافه نحو التطرف تجاه الفلسطينيين وبالتالي ازداد معسكر السلام ضعفاً، إلا أن المجتمع الإسرائيلي، فقد ثقته أيضاً في السياسيين اليمينيين، سواء الليكود الذي تحول لواجهة حزبية لشخص بنيامين نتنياهو الذي ارتبط اسمه بدوره بفشل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما امتد السخط لزعماء اليمين الأكثر تطرفاً مثل إيتمار بن غفير وسموتيرتش، الذي يشعر كثير من الإسرائيليين أنهم ورطوهم في سياستهم المتطرفة بما جرى، كما أنهم يفتقدون للخبرة العسكرية والأمنية، وأنهم هواة رغم خطاباتهم الزاعقة.
في المقابل، تصاعدت الثقة في بيني غانتس القائد العسكري السابق، الذي قدم نفسه بانضمامه لحكومة نتنياهو في وقت الحرب كرجل يترفع عن الصغائر، ويحرص على دعم خصمه نتنياهو إلى أن تنقشع الأزمة.
ولكن هذا المجتمع نفسه حتى لو منح صوته لغانتس الذي يوصف بالوسطي، فإنه لن يقبل منه أن يبرم تسوية معقولة مع الفلسطينيين، وسيطلب منه أن يواصل سياسته الأمنية المتشددة ضدهم، وهو ما سيؤدي لرد فعل من قبل الفلسطينيين، سيقابله غانتس بالقمع، الأمر الذي سيؤدي لانتقام من المقاومة الفلسطينية وإدانة دولية وتكرار لدورة العنف الحالية المدفوعة بشيء واحد هو استمرار الاحتلال.