سؤالٌ بسيط لا أحد في دولة الاحتلال الإسرائيلي يريد الإجابة عنه: ماذا سيحدث في اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة؟ وهذه القضية مشحونة للغاية لدرجة أنَّها أحدثت تصدعات داخل حكومة بنيامين نتنياهو، حينما أُثيرَت في اجتماعٍ محتدم للحكومة المصغرة يوم الإثنين الماضي، 18 ديسمبر/كانون الأول، وسارع رئيس الوزراء للدفاع عن رئيس أركان الجيش المحاصر، الجنرال هرتسي هاليفي.
فوفقاً لتقارير عدة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، لم يتقبَّل هاليفي هجمات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزيرة النقل ميري ريغيف بصدرٍ رحب، وقد اتهم الوزيران الجيش بعدم تقديم الدعم الملائم للجنود على الأرض. وأشارت ريغيف، وهي عضو بارز بحزب الليكود، الذي يتزعَّمه نتنياهو، إلى أنَّ سياسة تجويع غزة ليس لها تأثير على حماس.
وازدادت حدة التوترات أكثر حين أثار هاليفي احتمال إقامة مناطق آمنة داخل غزة، الأمر الذي أثار استياء وزير العدل ياريف ليفين، الذي لفت إلى أنَّ المستشار القانوني للحكومة قال إنَّ الخطة لا يمكن إلا أن تكون مؤقتة.
تدخَّل بن غفير، الزعيم اليميني المتطرف لحزب "العظمة اليهودية"، مُتَّهِماً هاليفي بأنَّه "ينهي الحرب حالياً بالفعل"، مؤكداً "أنَّنا لابد أن نبقى بغزة". فرد رئيس الأركان الهجوم، قائلاً: "هل تنظر إليّ؟"، قبل أن يتدخَّل نتنياهو. فقال رئيس الوزراء: "انظر إليّ وليس إليه"!
نتنياهو لا يملك أي فكرة عن اليوم التالي لوقف الحرب
يقول موقع Middle East Eye البريطاني، ربما هؤلاء جميعاً ينظرون أيضاً إلى نتنياهو، لأنَّهم جميعاً يعلمون أنَّ رئيس الوزراء والناجي السياسي المخضرم لديه مصلحة شخصية في إبقاء الحرب دائرة، حتى بعد ارتقاء أكثر من 20 ألف فلسطيني، ومقتل مئات الجنود الإسرائيليين في غزة.
يتفق كبار الخبراء في السياسة الخارجية الإسرائيلية والدبلوماسيون السابقون الذين حاورهم موقع MEE على أنَّ نتنياهو لا يملك خطة لليوم التالي، لأنَّ العملية العسكرية في غزة كارثة، لا تستطيع أن تتعافى منها حكومته.
قال عساف ديفيد، مدير إسرائيل في برنامج الشرق الأوسط بمعهد فان لير في القدس والأستاذ بالجامعة العبرية، للموقع البريطاني إنَّ استراتيجية إسرائيل في غزة مدفوعة أساساً بالاحتياجات السياسية لرئيس وزراء البلاد. ويقول ديفيد ساخراً إنَّه إذا كانت حرب لبنان عام 1982 قد أُطلِقَ عليها "عملية سلام من أجل الجليل"، فإنَّ صراع اليوم يمكن تسميته "عملية سلام من أجل بيبي"، (بيبي هو لقب نتنياهو الشائع).
ويضيف: "سيفعل بيبي أي شيء من أجل البقاء، وفي تفكيره، فإنَّ أي شيء يُفسَّر باعتباره تنازلاً لحماس سيُعقِّد حياته أكثر مما هي معقدة بالفعل. إنَّه في مشكلة مع اليسار والوسط، ثُمَّ سيكون في مشكلة مع اليمين. هو لن يسمح بحدوث ذلك".
وفي تحليل ديفيد، لن يترك نتنياهو غزة إلا حين تجبره واشنطن على ذلك. ولن يُسمَح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزة، وكل الأسرى الإسرائيليين هناك سيموتون.
وأشار إلى أنَّه لم يكن بالإمكان إنقاذ جلعاد شاليط، وهو جندي إسرائيلي أسَرَته حماس عام 2006 وبادلته بعد ذلك بأكثر من ألف أسير فلسطيني، من خلال عملية عسكرية. ويضيف: "هل سيمكن إذاً إطلاق سراح الأسرى الـ135 المتبقين بعملية عسكرية؟ هذا غباء وهم يعرفون ذلك، لكنَّهم لم يعودوا يكترثون. بالنسبة لهم، لقد انتهت قصتهم. هذا هو تفكير اليمين".
وقال ديفيد إنَّ تفكير حكومة الحرب بشأن الرهائن أيضاً مليء بالتناقضات. ويضيف: "الكل يدَّعي أنَّ حماس منظمة دينية أصولية لا عقلانية، ويدَّعي أيضاً أنَّها لن تطلق سراح الأسرى إلا عند دفعها بقوة نحو الحائط. هذا هراء. ما سيحدث بدلاً من ذلك إذا دفعنا حماس نحو الحائط هو أنَّها ستقتل الأسرى. فليس لديها ما تخسره".
في الوقت نفسه، فإنَّ هدف إسرائيل المتمثل في أسر قائد حماس يحيى السنوار من أجل إظهار دليل على النصر هو بالمثل غير واقعي. فقال ديفيد: "لن يعود السنوار إلى السجن، وإذا ما وصلوا إليه، فسيُفضِّل الموت على ذلك".
لعبة التلاوم بين قادة الدولة
يتفق عيران عتصيون، الدبلوماسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي سابقاً، مع ذلك. فقال عتصيون إنَّ نتنياهو يفكر في اليوم التالي، لكن فقط في كيفية تأثير ذلك على فرصه في البقاء السياسي.
وأضاف للموقع البريطاني: "من الواضح جداً أنَّه أدرك بالفعل أنَّ الأمريكيين سيُوقِفونه قبل أن يحقق أهداف الحرب الكبيرة. وهو مستعد لـ(لعبة التلاوم) التي سيكون هدفه فيها هو بايدن، وقادة الجيش، والإعلام، وكما نقول في اللغة العبرية، العالم كله وزوجته، الذين منعوه من تحقيق النصر".. "بالتالي، بالنسبة له، فإنَّ اليوم التالي هو استمرار الحرب بأي وسيلة، وهدفه هو البقاء في السلطة".
وأشار عتصيون إلى أنَّه بعد شهرين على الحملة العسكرية، لا يوجد منتدى رسمي أو مجموعة مسؤولين تخطط للحكم في غزة ما بعد الحرب. ولا توجد نقاشات رسمية بين مؤسسة الدفاع الإسرائيلية والمسؤولين الأمريكيين في واشنطن.
وقد طرح البعض فكرة إرسال دول عربية لديها علاقات مع إسرائيل، مثل الإمارات ومصر، قوات أمنية وإدارية إلى غزة. لكن لم تُقدِّم أي دولة عربية أي إشارة على استعدادها للتعاون مع هذه العملية.
الحرب تنحسر و"إسرائيل" لم تحقق أهدافها
يتفق الخبراء والمراقبون المطلعون الذين تحدثوا مع موقع Middle East Eye جميعاً على أنَّ الحرب ستنحسر -ولو أنَّها لن تنتهي- على ثلاث مراحل.
ستنتهي المرحلة الحالية من القصف المكثف التي تهدف إلى جعل مناطق كبيرة من غزة غير قابلة للعيش فيها إمَّا هذا الشهر، ديسمبر/كانون الأول، أو في مطلع يناير/كانون الثاني، تحت الضغط الأمريكي.
وسينتهي القصف الإسرائيلي المتواصل، لتحل بدلاً منه فترة من القتال منخفض الحدة. وستتسم هذه الفترة بضربات على أهداف محددة وحرب عصابات تشنها حماس. لكنَّ القوات الإسرائيلية ستبقى في المناطق التي تعتقد أنَّها تسيطر عليها.
ومن أجل حدوث ذلك، سيحتاج جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تأمين الحدود الجنوبية حول رفح، لمنع حماس من إعادة التزوُّد بالسلاح باستخدام الأنفاق من مصر.
وستكون المرحلة الثالثة هي إقامة إدارة مدنية إسرائيلية في شمال غزة، والانسحاب النهائي منها حين يحل محلها إدارة فلسطينية من نوعٍ ما. لكنَّ كل مرحلة تطرح أسئلة أكثر مما تجيب. وتتفق كل مصادر موقع Middle East Eye على أنَّ التوصل إلى نهاية سياسية للأزمة أقرب للمستحيل في ظل الحكومة الحالية.
ومن شبه المؤكد أنَّ ذلك سيكون صفقة "الكل مقابل الكل" التي تدفع بها حماس والوسطاء القطريون وبعض عائلات الأسرى الإسرائيليين، والتي من شأنها أن تؤدي إلى إطلاق سراح قرابة 130 إسرائيلياً محتجزين في غزة مقابل كل الأسرى الفلسطينيين، البالغ عددهم أكثر من 7 آلاف.
ومن شأنها أيضاً أن تشمل إطلاق سراح القيادي بحركة فتح مروان البرغوثي، الذي سيكون حينها حراً للترشح لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية.
ومع انحسار العملية، سيتعرَّض نتنياهو لضغوط من مجموعة من القوى التي تحشد قوتها حالياً. وستزداد حدة الحملة التي تقوم بها عائلات الأسرى. إذ انتهى الاجتماع الأخير مع نتنياهو بصورة غاضبة. ووفقاً لتسجيلات صوتية للاجتماع الذي عُقِدَ في 5 ديسمبر/كانون الأول، اتُّهِمَ رئيس الوزراء بوضع مسيرته السياسية قبل أرواح الأسرى.
وقالت والدة أحد الأسرى، صارخةً في وجه وزير الدفاع، يوآف غالانت: "لستُ مستعدة للتضحية بابني من أجل مسيرتك المهنية أو مسيرة أي من الشخصيات البارزة هنا".
قال أمير مخول، وهو مُعلِّق فلسطيني، إنَّ إسرائيل لا يمكنها تجاوز أو تجاهل مسألة الأسرى، ببساطة لأنَّ الأيديولوجيا الصهيونية تنص على أنَّ إسرائيل هي المكان الأكثر أمناً لحياة اليهود.
الحكم الفلسطيني
يقول مخول إنَّ السلطات الأمنية الإسرائيلية تتحدث بالفعل إلى شخصيات فلسطينية بارزة بشأن تشكيل قيادة مستقبلية. لكنَّ هذا أيضاً مليء بالتناقضات. وأضاف: "إنَّ إسرائيل لا تريد أن ترى حماس تحكم في اليوم التالي. لكنَّ الاستراتيجية الإسرائيلية على مدار العقدين الماضيين كانت تقوم على فصل القيادة الفلسطينية: غزة وحدها منفصلة عن رام الله. لكن على أي حال، ستكون هناك صفقة. وربما ستستغرق وقتاً".
المشكلة الكبيرة الثانية هي حكم غزة، التي دُمِّرَت مناطق كبيرة منها. فحتى إذا سمح الجيش الإسرائيلي للمليون فلسطيني الذين أُجبِروا على النزوح من الشمال بالعودة إلى ديارهم، فإنَّه لا توجد ديار للعودة إليها. ولهذا السبب وحده، لابد أن يفكر الفلسطينيون بجدية بشأن احتمالية استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
وأشار مخول إلى أنَّ البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، قد ألغى بالفعل "قانون تنفيذ خطة فك الارتباط" الذي صدر في فبراير/شباط 2005، حين سحب رئيس الوزراء آنذاك أرئيل شارون المستوطنات الإسرائيلية في غزة.
وقال مخول إنَّه إذا ما واصلت إسرائيل احتلال غزة على الأرض، "فإنَّني أتوقع عودة إعادة استيطان شمال غزة". وتحشد الحركة الصهيونية الدينية اليمينية المتطرفة بالفعل الرأي العام من أجل نتيجة كهذه.
يعتبر الكثير من الفلسطينيين أنَّ السلطة الفلسطينية، التي تدير الضفة الغربية المحتلة، ولديها تنسيق أمني وثيق مع إسرائيل، فاسدة وأداة قمع إسرائيلية. قال محمد القيق، وهو أسير فلسطيني سابق وناشط: "الحديث عن الإدارة المدنية للسلطة الفلسطينية شيء من الماضي، لأنَّها فشلت في دورها حتى في الضفة الغربية".
وتوقع القيق أنَّه إذا ما أُخرِجَت حماس من غزة، فإنَّ دورها في المنطقة سيتعزز. وقال: "الفكرة والوجود لن ينتهيا". مشيراً إلى إنَّ حماس وسَّعت قبولها وأيديولوجيتها إقليمياً ودولياً بعدما ألحقت بإسرائيل أكبر هزيمة لها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
خطط "إسرائيل" ستفشل.. هذه دروس من لبنان
ستكون هناك أيضاً مشكلات عسكرية تنشأ عن فترة غير محددة من العمليات "منخفضة الحدة". فحتى لو كان الجيش الإسرائيلي قد حقق شيئاً مما يدعيه بأن تسلسل القيادة لحماس على المستوى الميداني ستنهار، فإنَّ الوحدات الأصغر تحتفظ بالقدرة على مهاجمة القوات الإسرائيلية بفعالية.
فقال قائد كتيبة من لواء كفير الإسرائيلي لمحطة تلفزيونية محلية، إنَّه بالرغم من أنَّ وحدته أكملت المهمة المُوكَلة إليها في حي الشجاعية شرقي غزة، فإنَّ "العدو في كل مكان، وهو غير مرئي بالنسبة لنا لأنَّه يختبئ كالأشباح".
وبمرور الوقت، سرعان ما قد تشبه العملية في غزة حرب لبنان عام 1982، والتي احتلت فيها القوات الإسرائيلية بالتعاون مع حلفائها من الموارنة جنوبي لبنان وأجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة غرب بيروت.
لكنَّ وضعها في بيروت أصبح غير محتمل، وأدَّى انسحابها إلى جنوب لبنان عام 1985 إلى حرب عصابات استمرت 15 عاماً، حتى خروجها النهائي عام 2000.
وهنالك بالفعل نقاش جارٍ في إسرائيل بشأن ما يعني حقاً هدف الحرب المتمثل في "تدمير حماس". فبعد شهرين من القصف المتواصل، لا يزال بإمكان كتائب القسام إطلاق الصواريخ على القدس وتل أبيب وإيقاع خسائر فادحة في الأرواح خلال هجوم على القواعد الإسرائيلية في غزة.
وعلى أي حال، يترك دمار غزة أي حكومة إسرائيلية مستقبلية أمام مشكلة ضخمة. وسيرغب اليمين القومي الديني المتطرف استنساخ مقاربة غزة في الضفة الغربية، حيث تحولت العمليات التي يشنها الجيش الإسرائيلي من مداهمات إلى استراتيجية للتهجير القسري. وستتسبب هذه الأحداث أيضاً في إعادة تقييم الفلسطينيين لقيادتهم وخلق واقع جديد، ربما ستندم إسرائيل عليه.