"من حق الفلسطينيين تقرير مصيرهم"، هكذا قال جو بايدن منذ شهرين، فماذا فعل الرئيس الأمريكي على مدى ما يقرب من 3 أشهر من عدوان إسرائيل على قطاع غزة؟
منذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلي بعد "طوفان الأقصى"، أعلن جو بايدن دعمه المطلق لإسرائيل وتولى الترويج لروايتها المضللة بشأن الحرب في غزة، ووصل تبني الرئيس الأمريكي الرواية الإسرائيلية بحذافيرها إلى حد التشكيك في أعداد شهداء القصف الهمجي لقطاع غزة.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
بايدن يقول شيئاً ويفعل عكسه
قبل شهرين فقط، كتب بايدن على حسابه الرسمي في منصة إكس (تويتر سابقاً) يقول إن الفلسطينيين لهم حق تقرير مصيرهم بأنفسهم. لكن إدارته صوتت يوم 12 ديسمبر/كانون الثاني ضد مشروع قرار في الأمم المتحدة يعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير نفسه الذي تحدث عنه الرئيس الأمريكي، وذلك بحسب تغريدة على منصة إكس لنائب رئيس معهد كوينسي الأمريكي، تريتا بارسي.
ليس هذا هو التناقض الوحيد بين ما يقوله جو بايدن وما يفعله منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فالرئيس الأمريكي يقول إن المدنيين في قطاع غزة لا يجب أن يقعوا "أضراراً جانبية" لما يسميه "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، لكنه في الواقع يواصل إمداد جيش الاحتلال بالذخائر والقذائف والصواريخ التي توقع أعداداً هائلة من الضحايا المدنيين في القطاع.
لكن هذا التناقض بين الأقوال والأفعال يعد السمة الرئيسية للرئيس الأمريكي فيما يتعلق بقضية فلسطين بشكل خاص، منذ أن تولى المسؤولية في البيت الأبيض قبل 3 سنوات.
يرفع بايدن شعار "حل الدولتين"، وكان يقول إن سياسات سلفه دونالد ترامب الداعمة والمنحازة لإسرائيل تقوّض "حل الدولتين" ولن تؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، لكنه ما أن تولّى المسؤولية فعلياً وأصّل نفس سياسات ترامب وقدّم لإسرائيل جميع أنواع الدعم، متجاهلاً حقوق الفلسطينيين أو أي عمل من شأنه أن يدعم "حل الدولتين" الذي يتحدث عنه في جميع خطاباته الرسمية.
عندما أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو، مطلع العام الجاري، عن خطط توسيع المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة، قال بايدن إنه يعارض تلك المخططات شكلاً ومضموناً لإنها تقوّض حل الدولتين، وأرسل وزير خارجيته إلى إسرائيل للتأكيد على تلك الرسالة.
زار بلينكن إسرائيل وبعد أسبوعين فقط من مغادرته أعلن نتنياهو المضي قدماً في خطط شرعنة البؤر الاستيطانية غير الشرعية وبناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة في الضفة الغربية المحتلة، فماذا فعل بايدن؟
بذل الرئيس الأمريكي جهوداً مكثفة لا لمعاقبة دولة الاحتلال على تحدي القانون الدولي والنظام العالمي الذي يقول بايدن إنه يقوده، ولكن للضغط على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس لسحب مشروع قرار أممي لإدانة الاستيطان الإسرائيلي مرة أخرى، وهو ما حدث فعلاً، وسحبت السلطة مشروع القرار على وعد من بايدن بتجميد خطط توسيع المستوطنات. لكن نتنياهو خرج علناً ليؤكد أنه لا يوجد أي تجميد لتلك المستوطنات.
موقف بايدن منذ بدأ عدوان إسرائيل على غزة
جاء موقف بايدن الداعم لإسرائيل، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مثيراً للانتقادات حتى من داخل بعض التيارات في حزبه الديمقراطي وفي إدارته. فبعد 3 أيام من "طوفان الأقصى"، قدّم بايدن دعمه المطلق لنتنياهو في أعقاب تعهُّد الأخير "بالانتقام"، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية، رصد كواليس موقف إدارة بايدن من العدوان الذي يواصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكابه بحق الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية أيضاً.
ذرف الرئيس الأمريكي الدموع أمام العدسات، زاعماً أنه شاهد صوراً "بشعة"، ومكرراً الروايات الإسرائيلية الهادفة إلى شيطنة الفلسطينيين، ليعود لاحقاً إلى الاعتذار وإنكار أنه "شاهد" تلك الصور، لكنه لم يتراجع عن دعمه المطلق لإسرائيل رغم ذلك الاعتذار.
قام بايدن بزيارة إسرائيل، ليكون أول رئيس أمريكي يفعل ذلك وقت الحرب، وشارك في غرفة إدارة الحرب على غزة، وأرسل وزير دفاعه لويد أوستن وكبار قيادات الجيش الأمريكي لتقديم المساعدة لجيش الاحتلال، وقبل ذلك كله أرسل حاملات طائرات وغواصة نووية إلى المنطقة لدعم إسرائيل.
صرح بايدن بأنه على إسرائيل أن "تحترم القانون الدولي" في حربها على غزة، لكن جيش الاحتلال انتهك ولا يزال ينتهك جميع القوانين الدولية والإنسانية، ويركز قصفه الهمجي والعشوائي لاستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية في القطاع، في ظل فشله في تحقيق أي من أهدافه العسكرية من العدوان، وهي القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى.
لم يتخذ بايدن عملياً أي إجراء لكبح جماح الجنون الإسرائيلي المستمر، والذي يهدد بانفجار المنطقة بالكامل، رغم أن الرئيس الأمريكي يقول منذ البداية ويكرر أن هدفه الرئيسي هو منع توسع الحرب الإسرائيلية إلى صراع أوسع في المنطقة، في تأكيد آخر على التناقض بين ما يقوله الرئيس الأمريكي وما يفعله.
"إسرائيل سوف تتصرف طبقاً لقواعد الحرب. إرسال قوات أمريكية إلى المنطقة ليس ضرورياً. احتلال إسرائيل قطاع غزة سيكون خطأً كبيراً"، كانت هذه تصريحات بايدن يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول خلال لقاء مطول له مع برنامج 60 دقيقة على قناة CBS الأمريكية.
لكن بعد أكثر من شهرين من تصريحاته تلك، ناقض بايدن تلك المواقف بشكل صارخ، إذ أرسلت الولايات المتحدة قوات إلى المنطقة وشنت إسرائيل هجوماً برياً على القطاع، معتمدة بشكل أساسي على الدعم الأمريكي العسكري واللوجستي والمالي، وليس فقط الدعم السياسي من خلال الفيتو الأمريكي الذي يوظفه بايدن في مجلس الأمن الدولي لخدمة تل أبيب.
ربما لم يتمتع أي رئيس أمريكي بالنفوذ الذي يتمتع به بايدن على إسرائيل على الإطلاق، بسبب المشاركة الفعلية للإدارة الأمريكية في العدوان المستمر على القطاع، وهو ما يجعل بايدن في موقف فريد يمكنه من ممارسة ضغوط فعالة لكبح جماح جيش الاحتلال وحكومته الأكثر تطرفاً على الإطلاق، لكن الرئيس الأمريكي لا يفعل ذلك، على عكس تصريحاته المعلنة.
هل يمتلك بايدن أوراقاً لكبح جماح إسرائيل؟
مع مرور الوقت، بدأت لهجة خطاب بايدن تجاه العدوان الإسرائيلي تتغير بشكل لافت، وهو ما يشير إلى وجود خلاف بين الحليفين. فرسائل دعم الرئيس الأمريكي بدأت تتغير بشكلٍ كبير على مدار الشهر الماضي، إذ صار بايدن وكبار مسؤوليه الدبلوماسيين والعسكريين أكثر انتقاداً للعدوان الإسرائيلي المنفلت على قطاع غزة، وما يتسبب فيه من كارثة إنسانية مُتكشّفة.
إذ تسبب الموقف الأمريكي الداعم بشكل مطلق لإسرائيل وعدوانها الغاشم على قطاع غزة في الإضرار بمصداقية الولايات المتحدة كقوة عظمى ترفع شعارات احترام القانون الدولي في العلاقات بين الدول. إذ إن رفع إدارة جو بايدن شعار أن إسرائيل تمتلك "حق الدفاع عن النفس" لا ينطبق على دولة محتلة تمارس جميع أنواع القمع بحق الشعب الفلسطيني المحتل، بحسب القانون الدولي الذي يؤكد على حق المحتل في المقاومة.
كما جاء موقف بايدن الداعم لإسرائيل مناقضاً بشكل صارخ لموقفه من الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة تهدف إلى حماية الأمن القومي الروسي"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر". ففي الوقت الذي حشدت فيه إدارة بايدن دعماً غربياً كاسحاً لأوكرانيا في وجه ما تصفه بأنه "احتلال" روسي لأوكرانيا، وفّرت الإدارة نفسها وحلفاؤها جميع سبل الدعم المادي والعسكري واللوجستي والسياسي والإعلامي للاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على غزة.
تسبب هذا التناقض في الموقف الأمريكي من العدوان الإسرائيلي على فقدان الموقف الأمريكي الدعم من الجنوب العالمي بصورة غير مسبوقة، وتجلى ذلك في التصويت لوقف الحرب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي جاء في المرة الأولى بأغلبية 121 صوتاً، لكنه جاء في المرة الثانية، الثلاثاء 12 ديسمبر/كانون الأول، بأغلبية 151 صوتاً، في مؤشر لافت على عزلة إسرائيل الدبلوماسية عالمياً، وهو ما ينعكس بالضرورة على الموقف الدبلوماسي الأمريكي كذلك.
كما تسبب موقف بايدن في شروخ عميقة داخل الحزب الديمقراطي، وخرج بعض المشرعين الرافضين لموقف الداعم لإسرائيل بتحذيرات معلنة من التأثير السلبي المتوقع لذلك الموقف على فرص بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين 2024.
هذه الأسباب تقف بشكل واضح وراء تغيير بايدن لهجته وتصريحاته تجاه إسرائيل، حيث حذرها مؤخراً من "العزلة الدولية" إذا ما تواصلت حربها على القطاع بنفس الطريقة الحالية.
لكن حتى هذا التغيير في القول يظل مناقضاً بشكل صارخ للفعل من جانب الرئيس الأمريكي، الذي يواصل دعمه المطلق لإسرائيل عسكرياً ولوجستياً، ويسعى لأن يقر الكونغرس طلبه بتقديم حزمة دعم تاريخية لدولة الاحتلال تبلغ أكثر من 14 مليار دولار، على الرغم من استمرار إسرائيل في عدوانها على غزة وتصاعد المخاوف من أن يجر المنطقة بأكملها إلى صراع مفتوح. والخلاصة هي أن الرئيس الأمريكي يقول ما لا يفعل منذ أن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة.