على مدار 75 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين التاريخية مثلت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، المنتشرة داخل فلسطين ودول الطوق، الحاضنة التاريخية للعمل المقاوم، والرافد الرئيسي لصناعة قيادات فلسطينية، واستقطاب الفدائيين والمقاتلين ضد الاحتلال. وخلال الحرب الجارية على قطاع غزة يحاول الاحتلال سحق مخيمات القطاع بالكامل، في مشهد غير مسبوق من التنكيل، لما تُمثّله هذه المخيمات من بؤر مقاومة ظلَّ يخشاها المحتل على مدار عقود.
كيف أُنشئت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين؟
بعد احتلال "إسرائيل" للأراضي الفلسطينية وتشير العصابات الصهيونية آلاف الفلسطينيين من أكثر من 500 قرية وبلدة ومدينة فلسطينية عام 1948 ٬ تطورت مخيمات اللجوء الفلسطيني من مجرد مجموعة من الخيام تحمل شعار الأمم المتحدة، إلى أحياء مبنية بشكل متراصّ، بها مدارس وأسواق ومساجد ومتاجر وغيرها من المرافق. وفي قطاع غزة والضفة ظلَّت أجيال النكبة تتوارث الغضب من الاحتلال، بسبب ظروف المعيشة القاسية التي من المفترض أنها كانت "مؤقتة"، لكنها طالت بسبب تخاذل المجتمع الدولي عن حل هذه القضية.
وكحلٍّ "مؤقت" لذلك أنشأت الأمم المتحدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) في عام 1949، والتي تولت إدارة المخيمات داخل فلسطين وخارجها، وتُمثل قسماً كبيراً من الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين منذ ذلك الحين، وتوسعت قائمة تلك المخيمات لتشمل مخيمات جديدة، فيما يُعرف بـ"النكسة" عام 1967.
ووفقاً للأونروا فإن حوالي 5.9 مليون لاجئ فلسطيني مؤهلون للحصول على خدماتهم في 58 مخيماً للأونروا في لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
وبموجب القانون الدولي يتم تصنيف اللاجئين من عام 1948 وأحفادهم على أنهم لاجئون حتى يتم التوصل إلى "حل دائم". وتقول الأونروا على موقعها الإلكتروني: "إن حالات اللاجئين التي طال أمدها هي نتيجة الفشل في إيجاد حلول سياسية لأزماتهم السياسية الأساسية".
أهمية دور المخيمات الفلسطينية في تشكيل العمل المقاوم
برز دور المخيمات الفلسطينية في المقاومة من خلال اعتبارها الحاضن الأول لمعظم حركات المقاومة الفلسطينية التحررية بعد النكبة والنكسة وما تلاها من حروب على الشعب الفلسطيني، وقد كان للمخيمات دور متقدم وبارز في الإضرابات وحملات العصيان المدني، التي كان يُدعى لها خلال فترات الانتفاضة، لتشمل انطلاقاً منها شتى المناطق في الضفة الغربية والقطاع.
وفي حين تم إنشاء معظم مخيمات اللاجئين لتكون مؤقتة في أعقاب الصراعات أو الكوارث الطبيعية، إلا أن مخيمات اللاجئين في الأراضي الفلسطينية المحتلة وما حولها ظلَّت ثابتة منذ عام 1948، بعد رفض "إسرائيل" لحق العودة الفلسطيني وصمت العالم على ذلك.
وكما يقول الباحث الفلسطيني عدنان أبو عامر "كان لظروف مخيمات اللاجئين من الفقر والاكتظاظ السكاني والحيّز الجغرافي الضيق الذي يحوي عشرات الآلاف من السكان، في ظروف معيشية صعبة للغاية على كافة الأصعدة، دورها البارز في تأهيلها بتوفير مقومات الثورة المنظمة للتمرد دوماً على واقع الاحتلال، فجاءت المخيمات ممثلةً الإطار الشعبي الأوسع الذي احتضن هذه المنهجية وطوَّرها، حتى إن الاحتلال أقدم على بناء سور عالٍ في نهاية حدود كل مخيم، بالإضافة للأسلاك الشائكة وإغلاق كافة مداخلها بالجدران الإسمنتية العالية، لفصلها عن المحيط الخارجي".
وقد كرَّست حالة المقاومة التي عاشتها مخيمات اللاجئين في الأراضي المحتلة أخلاقيات مجتمعية، انتقلت بها إلى حيز التنفيذ العملي، وأبرز تجلياتها تمثلت بترسيخ قاعدة عامة للتعاطي مع المشاكل، بدلاً من الاستغراق في تحليل وتحديد المصاعب والتعقيدات الناجمة عنها. ولعل في مقدمة المؤشرات الاجتماعية للمقاومة نجاحها في توفير بنية تحتية عريضة لحياة مستقلة معزولة عن الاحتلال في الضفة والقطاع، حيث تكونت أجهزة طبية وزراعية وتربوية وجهاز شرطة، وجميعها مستقلة.
أخذت مشاركة الفلاحين واللاجئين في فعاليات المقاومة بالازدياد، فانخرطوا في دعم المدن والمخيمات بالمواد الغذائية أثناء فترات الحصار المفروض عليها، وأسهموا بفاعلية في الاقتصاد المنزلي، واستجابوا لنداءات المقاومة التي دعتهم لاستصلاح الأراضي وزراعتها، ومساندة المناطق المحاصرة، وتعزيز مفهوم الاقتصاد المنزلي، كزراعة الأرض وتربية الدواجن، وتشكيل اللجان الزراعية.
لذلك دأبت "إسرائيل" على طيّ صفحة ما حدث سنة 1948، عن طريق إزالة المخيمات، ومحو صفة اللاجئ عن الفلسطينيين الذين تم تشريدهم بالقوة، من خلال حرب شاملة شنتها ضد الوجود الفلسطيني في المخيمات داخل فلسطين وخارجها مثلما حدث في لبنان مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
ولذلك، فإن مخيمات اللاجئين لا تتعرض للهجمات الإسرائيلية لأنها فقط الشاخص البارز والشاهد المقيم على جريمة النكبة التي أحاقت بالشعب الفلسطيني فقط، بل لأن أهل هذه المخيمات كانوا دوماً طليعة المقاومة المسلحة بمختلف ألوانها، ما جعل هذه المخيمات تتجاوز في نظر "إسرائيل" كونَها مسألة شرائح سكانية فحسب.
وفي الضفة الغربية وغزة كانت حالة العمل المقاوم المستدام هي الأكبر والأشرس التي أرّقت الاحتلال على مدار عقود طويلة، وتجلّت في الانتفاضتين، لكننا سنحاول في هذا التقرير التركيز على مخيمات قطاع غزة، التي تتعرض الآن لإبادة جماعية من قِبل آلة القتل الإسرائيلية.
ما هي مخيمات قطاع غزة وكم يبلغ عددها؟
منذ النكبة تحوَّل قطاع غزة إلى أكبر خزان بشري من اللاجئين الفلسطينيين، حيث يبلغ عدد سكان القطاع حوالي 2.1 مليون نسمة، منهم 1.7 مليون لاجئ، يعيشون في ثمانية مخيمات رئيسية على امتداد القطاع من شماله إلى جنوبه:
1- مخيم جباليا
2- مخيم الشاطئ
3- مخيم النصيرات
4- مخيم البريج
5- معسكر المغازي
6- مخيم خانيونس
7- مخيم دير البلح
8- مخيم رفح
وعانت مخيمات غزة أكثر من غيرها من المخيمات داخل الأراضي الفلسطينية منذ فرضت "إسرائيل" حصاراً على القطاع في عام 2007. ووفقاً للأونروا فإن المخيمات- وهي من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان على وجه الأرض- عانت منذ فترة طويلة من مشاكل حادة تتعلق بالرعاية الصحية، والحصول على المياه النظيفة وبكميات طبيعية، وتوفير الغذاء والكهرباء، والصرف الصحي من بين قضايا أخرى، حتى قبل القصف الإسرائيلي المتواصل، الذي بدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وبلغ معدل البطالة في المخيمات 48.1% في الربع الثالث من عام 2022، في حين أن ما يقرب من 95% من سكان المخيمات لا يحصلون على إمكانية الوصول المستمر إلى المياه النظيفة.
بين الانتفاضتين.. مخيمات غزة مصنع للمقاومة ورجالاتها
منذ عام 1948، كانت مخيمات غزة مصدراً حاسماً للتجنيد في حركة التحرير الفلسطينية، حيث نشأت وتطورت فيها العديد من الجماعات الفلسطينية المسلحة ومنظمات المجتمع المدني.
على سبيل المثال، الشيخ أحمد ياسين، زعيم حركة حماس الروحي وأبرز مؤسسيها هو ابن مخيم الشاطئ، حيث عاش هناك مع بقية أفراد عائلته بعد أن دمرت العصابات الصهيونية قريتهم "الجورة" في عسقلان المحتلة، والأمر ينطبق كذلك على إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ابن مخيم الشاطئ وقرية الجورة.
أما يحيى السنوار، الرجل الذي يثير قلق "إسرائيل" اليوم أكثر من غيره، فهو من مخيم خان يونس، وهو ابن عائلة مهجّرة من قرية "مجدل عسقلان". وأما قائد كتائب القسام محمد الضيف فهو أيضاً من مخيم خان يونس وابن قرية "كوكبا" المهجرة من قضاء غزة. أما فتحي الشقاقي، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي الذي اغتالته إسرائيل في جزيرة مالطا عام 1995، فهو من مواليد مخيم الشاطئ، وهو ابن عائلة مهجَّرة من قرية زرنوقة قضاء الرملة.
وهناك العشرات من أسماء قيادات العمل المقاوم السياسي أو المسلح في قطاع غزة، التي برزت على مدار عقود من مخيمات القطاع، وكان لها بصمات واضحة في تاريخ حركة التحرر الفلسطيني بمختلف أطيافها.
وفي مخيم جباليا، أو "معسكر جباليا" كما يحب أهله أن يُطلقوا عليه، بدأت أحداث الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال، في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، بعد استشهاد ثلاثة من العمال من سكان المخيم، قام بدهسهم جندي من جيش الاحتلال قبل أن يلوذ بالفرار.
وتطوَّر العمل المقاوم في قطاع غزة بشكل كبير منذ وقت تلك الانتفاضة التي أبرزت جسمين مقاومين مسلحين بخلفية إسلامية، وهما حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، اللتان أحدثتا نقلةً نوعية في العمل المقاوم ضد الاحتلال من داخل الأراضي المحتلة طوال فترة التسعينات، وقدمت فيها المخيمات العشرات من الشهداء المقاومين.
وفي عام 2000 انطلقت انتفاضة الأقصى أو "الانتفاضة الثانية"، التي تطوَّرت فيها أساليب المواجهة مع المحتل في قطاع غزة، حيث أدى العمل المسلح الذي قادته فصائل المقاومة المختلفة إلى انسحاب "إسرائيل" من قطاع غزّة عام 2005 وتفكيك المستوطنات هناك.
السابع من أكتوبر.. أبناء غزة يعودون لقرى آبائهم المهجّرة
بعد عام 2006 الذي فازت به حركة حماس بأغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة، انقلبت قيادة السلطة الفلسطينية عليها ولم تسمح لها بالإمساك بزمام السلطات والوزارات والدوائر الرسمية والأجهزة الأمنية، ما أدى في النهاية إلى طرد أجهزة السلطة من القطاع، وفرض "إسرائيل" حصاراً شديداً مستمراً على القطاع منذ 16 عاماً، وشنّ حروب عديدة مدمرة قتلت وأصابت عشرات الآلاف.
وتشن "إسرائيل" اليوم الحرب الخامسة الكبيرة على قطاع غزة، وهي الأكثر تدميراً وقتلاً، وذلك بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، الذي قتل فيه نحو 1400 إسرائيلي في هجوم مباغت على مقرات قيادة الجنوب في الجيش الإسرائيلي، ومستوطنات غلاف غزة، التي تشكل جميعها قرى فلسطينية هجّر منها آلاف العائلات من لاجئي قطاع غزة منها بعد نكبة 1948.
ولطالما اعتبرت "إسرائيل" المخيمات أرضاً خصبة للعمل المسلح، وقامت باستهدافها بشكل منتظم من خلال الاغتيالات أو تفجير المنازل أو الاعتقالات أو حتى تنفيذ غارات جوية على أهداف فيها. ويقول جيش الاحتلال إن مخيمات قطاع غزة مليئة بالأنفاق والأسلحة ومراكز القيادة التي تديرها حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى، لذلك سيتم تدميرها.
وتتركز حرب "إسرائيل" المدمرة اليوم على إبادة المخيمات في قطاع غزة وإبادة سكانها، حيث تتعرض جميع المخيمات لمجازر يومية من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، وكان مخيم جباليا هو الأكثر تضرراً بحسب تقديرات محلية، حيث حولت آلة القتل والدمار الإسرائيلية المخيم إلى أنقاض، مخلفةً آلاف الشهداء والمصابين والمفقودين تحت الأنقاض.
ورغم نجاح الاحتلال بتهجير نحو 80% من سكان غزة منذ بداية الحرب عن منازلهم، فإنه لم يستطع بعدُ دخول هذه المخيمات والسيطرة عليها بشكل كامل، بعد 75 يوماً من الحرب الطاحنة، لكن المأساة أن مشاهد النكبة التي وقعت لأجداد هؤلاء قبل 75 عاماً ها هي تتكرر اليوم أمام أنظار العالم، ولا يبدو أن هناك أي قوة تردع الاحتلال وتكفّ يدَه عن هذه الجرائم المتكررة سوى المقاومة، التي لم يجد أبناء المخيمات دونَها سبيلاً طوال هذه العقود لنزع حقوقهم، وتحقيق حلم العودة غداً إلى الأرض التي سُلبت بالقوة من أجدادهم وآبائهم.