أثار عدوان إسرائيل المتواصل على قطاع غزة جدلاً بشأن حرية التعبير، في ظل ما تشهده الجامعات والمدارس الأمريكية من انقسام غير مسبوق بين الداعمين لفلسطين ومؤيدي الاحتلال، فإلى أين تتجه الأمور؟
كان الرئيس جو بايدن قد أعلن دعمه المطلق لإسرائيل وتولى الترويج لروايتها المضللة بشأن الحرب في غزة، ووصل تبني الرئيس الأمريكي الرواية الإسرائيلية بحذافيرها إلى حد التشكيك في أعداد شهداء القصف الهمجي لقطاع غزة.
لكن مع مرور الوقت، بدأت لهجة الخطاب الأمريكي تجاه العدوان الإسرائيلي تتغير بشكل لافت دون أن يتغير مستوى الدعم العسكري واللوجستي، وأحد أسباب الخلاف بين الحليفين يتعلق بالموقف الأمريكي الداخلي المنقسم بشدة على جميع المستويات.
فرغم أن استطلاعات الرأي تُظهِر أن أغلب الأمريكيين يعتبرون أنفسهم مؤيدين لإسرائيل، إلا أن دعمهم ليس غير مشروط على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بالكيفية التي يشن بها الإسرائيليون ما يزعمون أنها "حرب ضد حماس في غزة".
انقسام في الجامعات الأمريكية
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يتواصل الجدل في الجامعات الأمريكية حول "حرية التعبير" بعد اعتبار المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في وجه العدوان الإسرائيلي على غزة "معاداة للسامية"، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
إذ إنه بعد أكثر من 10 أسابيع على عدوان الجيش الإسرائيلي، المدعوم أمريكياً وغربياً، على قطاع غزة بهدف القضاء على حماس، لا يزال عاجزاً عن تحرير الأسرى أو تحقيق انتصار أي شكل من أشكال الانتصار العسكري للتغطية على هزيمته المستمرة منذ عملية "طوفان الأقصى".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة وأهلها، اتسعت رقعة المظاهرات المنددة بالعدوان والداعمة للفلسطينيين بصورة غير مسبوقة في أروقة الجامعات والمدارس الأمريكية، ليتم استدعاء عمداء جامعتي هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى الكونغرس الأمريكي ومساءلتهم من قبل سياسيين في جلسة حملت اسم "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية".
فقد استدعت لجنة التعليم والقوى العاملة بالكونغرس في 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري كلاً من رئيسة جامعة بنسلفانيا إليزابيث ماغيل، ورئيسة جامعة هارفارد كلوديا غاي، ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) سالي كورنبلوث إلى جلسة "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية".
وفي هذا الإطار، التقت الأناضول عبر تقنية الفيديو عدداً من الطلاب الجامعيين في معهد ماساتشوستس وهارفارد، واستفسرت عن آرائهم حول الاحتجاجات الداعمة لفلسطين في الحرم الجامعي، والتوترات بين الجماعات المتعارضة (تلك الداعمة لفلسطين وأخرى الداعمة لإسرائيل) والمناقشات حول حرية التعبير.
سوزانا تشين، طالبة الدراسات العليا في الهندسة الكهربائية وعلوم الكمبيوتر في معهد ماساتشوستس، استعرضت للأناضول عدداً من الأعمال التي قامت بها مع زملائها في الحرم الجامعي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وذكرت تشين أنها عضو في مجلس إدارة مجموعة "ائتلاف فلسطين" في المعهد، التي تشكلت قبل نحو شهر بمشاركة أكثر من 12 منظمة طلابية. وقالت إنها عملت إلى جانب زملائها على إقامة العديد من الأنشطة التي من شأنها شد الانتباه داخل الحرم الجامعي لما تعيشه غزة تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية.
وأوضحت أن إدارة معهد ماساتشوستس أدلت بتصريحات مؤيدة بالكامل لإسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن الإدارة اضطرت، بحسب تشين، إلى تغيير بوصلتها بعد الإجراءات المستمرة لـ"ائتلاف فلسطين" ورضخت لمطالب غالبية الطلاب.
دعم فلسطين ليس "معاداة للسامية"
وعن إقامة الجلسة في الكونغرس الأمريكي التي ركزت على معاداة السامية، قالت تشين إن "رئيسة المعهد سالي كورنبلوث، هي دون غيرها من استخدم مصطلح فلسطين في الجلسة".
وأضافت أن "استخدامها لذلك المصطلح لم يكن نابعاً فقط من الإدراك الأخلاقي بأن الفلسطينيين بشر، وأن الإسلاموفوبيا تمثل مشكلة، وأن الإساءة للعرب حقيقة واقعة؛ بل سببه أيضا إظهارنا ذلك بخطاباتنا وأنشطتنا بقوة ائتلاف فلسطين في الجامعة".
وشددت تشين على أن "حرية التعبير" ليست مضمونة في جامعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقالت: "لقد تم اكتسابها بقوة منظمتنا". تشين أشارت أيضاً إلى أن الحركات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين في عدد من أرقى الجامعات الأمريكية أزعجت الأوساط الراغبة في ترسيخ الوضع الداعم لإسرائيل.
وأعربت عن اعتقادها بأن الهدف الأول للائتلاف والحركات الطلابية في الجامعات الأمريكية لا يجب أن يكون الاعتقاد بأن فلسطين ستتحرر بين عشية وضحاها، "وإنما تطوير القيادة والقوة والثقة التي تمكننا من البقاء في هذا الأمر على المدى الطويل".
ومعللة ذلك، قالت: "لأننا لن ننتصر إلى أن يكون لدينا منظمة راسخة، وإلى أن يخرج الملايين من الناس إلى الشوارع، وإلى أن نتحمل المخاطر ونخرج رؤوسنا من الرمال، وإلى أن نبني منظمة يمكنها خوض حرب ذات معنى ضد آلة الحرب الأمريكية".
وفي هذا الإطار، أشار تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي إلى الانقسام المتزايد داخل أروقة السياسة الأمريكية بشأن الدعم الأمريكي الرسمي لإسرائيل. فقد وجدت دراسة حديثة للناخبين الأمريكيين المحتملين أن 61% يؤيدون الدعوة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، حيث تسببت أسابيع من القصف المكثف من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلية في ارتقاء ما يقرب من 19 ألف شهيد، أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، فضلاً عن الدمار واسع النطاق الذي طال أغلب مناطق القطاع.
لكن رغم هذا الدعم الواسع، فإن 14% فقط من أعضاء مجلس النواب الأمريكي أعلنوا تأييدهم العلني لوقف إطلاق النار؛ إذ تقدم الجماعات المؤيدة لإسرائيل مساهمات كبيرة في الحملات الانتخابية، وتزور أعضاء الكونغرس بشكلٍ متكرر، وتضغط من أجل دعم أنشطة الحكومة الإسرائيلية، كما يقول النقاد الذين تحدثوا إلى الموقع الأمريكي.
بدورها، أكدت فرانشيسكا ريشيو أكرمان، طالبة الدكتوراه في جامعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بذل جهود خاصة في المؤسسات التعليمية الأمريكية لمواجهة منع حرية التعبير فيما يتعلق بدعم الفلسطينيين أو توجيه الانتقادات لإسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وذكرت ريشيو أكرمان أنها اعتنقت الإسلام قبل 9 أعوام، مضيفة أن هناك زيادة سريعة في المشاعر المعادية للمسلمين (الإسلاموفوبيا) والتعصب المناهض للفلسطينيين في حرم معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الشهرين الماضيين. "هناك جهد متعمد لإسكات الانتقادات الموجهة لإسرائيل تحت اسم خطاب الكراهية من خلال الخلط بينه وبين معاداة السامية".
كيف غيّر عدوان إسرائيل على غزة المشهد الداخلي في أمريكا؟
كما أكدت أكرمان تعرّض الطلاب المنتقدين لإسرائيل لضغوط الجماعات المؤيدة لإسرائيل. وتابعت: "إن كان من ينتقد إسرائيل أسود اللون يتعرض لإساءات عنصرية، وإن كان يهودياً يتعرض لمضايقات تندرج ضمن معاداة السامية، وإن كان مسلماً يتعرض لمضايقات ضمن اعتداءات الإسلاموفوبيا".
وذكرت ريشيو أكرمان أن "هذه المضايقات تمت بشكل منهجي ومتعمد تحت اسم (مكافحة معاداة السامية)، وأن كل من ينتقد إسرائيل تتم ملاحقته".
وعن حجم المضايقات، قالت ريشيو أكرمان: "أنا أمريكية ولدت وترعرعت هنا، وعندما أنتقد بلدي، أتعرض لضغوط ومضايقات أقل مما أتعرض له عندما أنتقد إسرائيل، أعتقد أنه من الصادم حقاً أن أعيش في الولايات المتحدة وأختبر ذلك لأن إسرائيل دولة أجنبية، وليست بلدي". ورأت أن هناك استثناء لقاعدة "حرية التعبير" فيما يتعلق بإسرائيل، واعتبرت جلسة "معاداة السامية" في الكونغرس "ازدواجية للمعايير".
من جانبه، قال أحمد أوتقو آق بييق، طالب دكتوراه في الاقتصاد السياسي بجامعة هارفارد، إن "هناك العديد من المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الحرم الجامعي منذ 7 أكتوبر، بمشاركة من مختلف شرائح المجتمع، وإنه حضر بعضها".
وذكر "أوتقو" أن إدارة الجامعة سمحت باحتجاجات الطلاب على الرغم من معارضتها لها. وأضاف: "على الرغم من أن إدارة الجامعة أبدت موقفاً مؤيداً لإسرائيل إلا أن الطلاب يمكنهم الآن قول آرائهم الخاصة بشأن هذه القضية".
وأشار أوتقو إلى أنه تعرض "للكثير من الردود الغاضبة خارج جامعته من قبل كيانات مؤيدة لإسرائيل، بجانب إشهار أسماء الطلاب المؤيدين للفلسطينيين داخل الجامعة عبر تعليق أسمائهم على الجدران".
كما أعرب عن دعمه رئيسة الجامعة كلوديا غاي في وجه الضغوط التي تتعرض لها لإجبارها على الاستقالة، "رغم أن تصريحاتها تنصب في تأييد إسرائيل". وأضاف: "كنا ننتقد رئيسة الجامعة قبل أسبوعين لأننا اعتقدنا، وما زلنا نعتقد، أنها أظهرت موقفاً مؤيداً لإسرائيل في تصريحاتها وبياناتها. وفي التصريحات الصادرة عن فلسطين نرى أن من يؤيد فلسطين يتعرض للانتقاد كثيراً. ولهذا السبب، لم نكن راضين عن نهج رئيسة الجامعة".
واختتم قائلاً: "وعلى الرغم من ذلك، فقد تعرضت لضغوط كبيرة من الخارج لأنها لم تكن تؤيد إسرائيل بالمستوى الكافي لدرجة أننا الآن في وضع يسمح لنا بالدفاع عن رئيسة الجامعة".