يواصل جيش الاحتلال عدوانه على قطاع غزة للشهر الثالث دون أن يبدو قادراً على تحقيق أي من أهدافه، بينما تتعالى الأصوات في إسرائيل مطالبة بإبعاد بنيامين نتنياهو "الآن"، فماذا يقولون؟
"لا بد من تدمير نتنياهو سياسياً وإلا انهارت إسرائيل"، تحت هذا العنوان نشرت صحيفة هآرتس تحليلاً يرصد أسباب هذا الانقلاب المتصاعد ضد الرجل الأطول بقاءً في منصب رئيس الوزراء منذ تأسيس دولة الاحتلال في فلسطين قبل 75 عاماً.
كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، والتي يترأسها بنيامين نتنياهو، قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى"، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي من عدوانها على القطاع، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.
نتنياهو.. الخطايا السبع!
ينطلق تحليل هآرتس من حقيقة أن نتنياهو لم يقدم استقالته حتى الآن "وهو ما يعتبر تجاهلاً صارخاً لأبسط قواعد المحاسبة وتحمل المسؤولية"، فرئيس الوزراء هو المسؤول الأول عما تشهده إسرائيل، بل المنطقة بأسرها من عدم استقرار واستمرار لدائرة العنف العبثي.
"نعم، ندرك كإسرائيليين أن المحاسبة وتحمل المسؤولية هي مصطلحات غير واردة في قاموس نتنياهو على مدى مشواره السياسي، وبالتالي لا توجد مفاجآت في موقفه من أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكن الآن لا بد من تطبيق تلك العبارة اليونانية التي يختم بها خطاباته السياسية "لابد من تدمير قرطاج"، عليه هو شخصياً، أي لا بد من تدمير نتنياهو سياسياً حتى لا تنهار إسرائيل"، بحسب هآرتس.
وعددت الصحيفة 7 أسباب لهذا المطلب الذي بات متصاعداً بشكل لافت، وبخاصة منذ كسرت إسرائيل هدنة تبادل الأسرى قبل 10 أيام واستأنفت عدوانها الهمجي على قطاع غزة، وجاءت تلك الأسباب على النحو التالي:
أولاً إيران: قدم نتنياهو نفسه للإسرائيليين وللعالم أيضاً على أنه الوحيد القادر على التصدي لإيران، فعارض الاتفاق النووي الذي وقعته طهران مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عام 2015 واعداً الجميع بقدرته على التوصل "لاتفاق أفضل"، وأقنع الرئيس السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق بشكل أحادي عام عام 2018، وكانت النتيجة أن إيران اليوم أصبحت تمتلك قدرات نووية أكبر بكثير مما امتلكتها من قبل وباتت على أعتاب امتلاك قنبلة نووية.
ثانياً: غزو العراق: كان نتنياهو، الذي لم يكُن وقتها عضواً في الحكومة الإسرائيلية، أحد أبرز الداعين إلى غزو العراق، وظهر أمام مجلس النواب الأمريكي عام 2002 شارحاً للنواب حتمية "التخلص من صدام حسين" وكيف أن ذلك سيكون له مردود إيجابي على الشرق الأوسط وسيساهم في الاستقرار وانتشار الديمقراطية. فماذا كانت النتيجة؟ تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، كما تقول هآرتس اختصاراً للفوضى والدمار الناتجة عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
ثالثاً: التعامل مع الفلسطينيين: على مدى مشواره السياسي، تفاخر نتنياهو بأنه يتجاهل عمداً أي حديث جاد عن تأسيس دولة فلسطينية وبأنه الوحيد القادر على دمج إسرائيل في الشرق الأوسط من خلال مبدأ "السلام مقابل السلام" دون تقديم أي شيء للفلسطينيين. ومنذ أن شكل الحكومة الحالية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ألزم نفسه بضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية المحتلة بشكل رسمي إلى إسرائيل. فماذا كانت النتيجة؟ أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أي عملية طوفان الأقصى.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
رابعاً: السعودية: في البداية تمخض عقل نتنياهو عن نظرية معيبة تتمثل في تشكيل محور إسرائيلي-سني لمواجهة إيران الشيعية، فماذا حدث؟ وقعت السعودية وإيران اتفاقاً لتطبيع العلاقات بوساطة صينية. ثم عاد نتنياهو إلى نظريته المفضلة وهي أن الفلسطينيين ليسوا محور الصراع في المنطقة، على عكس ما يراه العالم أجمع وليس المنطقة فقط، متوهماً أنه يستطيع توقيع اتفاقية تطبيع مع السعودية بينما يتجاهل الفلسطينيين ويهمّشهم تماماً، فماذا كانت النتيجة؟
طوفان الأقصى لم تحدث من فراغ، وهي الحقيقة التي ليست محل جدال ويقر بها حتى الإعلام الغربي الموالي تماماً لإسرائيل والمتبني لروايتها، لكن نتنياهو وحكومته، التي يصفها الفلسطينيون بأنها فاشية وتسعى لإبادتهم بشكل جماعي، أرادوا منذ اللحظة الأولى أن يغطوا فشلهم الأمني والعسكري الذريع في ذلك اليوم من خلال رفع سقف أهدافهم من العدوان على غزة بصورة وصفها مراقبون بأنها "خيالية"، وبعد مرور شهرين من هذا العدوان بدأ ذلك الوصف يتأكد على أرض الواقع، فلا الأسرى تم تحريرهم، ولا المقاومة رفعت الراية البيضاء.
العلاقات مع أمريكا
خامساً: العلاقات بين إسرائيل وأمريكا: العلاقات بين أمريكا وإسرائيل استراتيجية، وتقدم واشنطن لتل أبيب مساعدات عسكرية سنوية قيمتها 3.8 مليار دولار (بإجمالي أكثر من 150 مليار دولار حتى الآن)، كما توفر أمريكا لإسرائيل مظلة سياسية تحميها في المحافل الدولية.
إلا أن نتنياهو، الذي لا يتوقف عن التدخل في الشؤون السياسية الداخلية لأمريكا، نجح في تحويل إسرائيل إلى "إسفين" (عامل تقسيم) بين الجمهوريين والديمقراطيين، في تناقض صارخ مع عقود من الشراكة بين الحليفين. فعل نتنياهو ذلك متعمداً من خلال الانضمام للمعسكر الجمهوري، وبخاصة القاعدة الانتخابية الإنجيلية هناك، على حساب الديمقراطيين، وهو ما أدى إلى صدامات متكررة وعداوة مع الرؤساء الديمقراطيين بيل كلينتون وأوباما وبايدن.
وعندما أصر نتنياهو على "إصلاح السلطة القضائية"، ازدادت الفجوة بين إسرائيل وأمريكا، حيث اعتبر ذلك الإصلاح هدماً لأحد أهم أركان الديمقراطية والفصل بين الحليفين فيما يتعلق "بالقيم المشتركة"، كما أغضب نتنياهو بايدن أكثر من خلال التقارب بين رئيس وزراء إسرائيل وزعماء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، وكلاهما يعتبره بايدن "ديكتاتوراً". فماذا كانت النتيجة؟ أكثر من نصف الديمقراطيين ينتقدون إسرائيل وبايدن أيضاً، بسبب دعم الأخير المطلق وانحيازه الصارخ لتل أبيب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
سادساً: روسيا: أقام نتنياهو ما وصفه بأنه "تحالف مختلف" مع بوتين، وظهر ذلك بشكل واضح في اللافتات الانتخابية لنتنياهو عام 2019، وتفاخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بتلك العلاقة الخاصة مع روسيا وزعيمها، لكن الموقف الروسي من الحرب على غزة جاء بمثابة دليل آخر على أكاذيب نتنياهو ورواياته التي يضلل بها الإسرائيليين طوال الوقت. فموسكو تتهم تل أبيب بارتكاب جرائم حرب في غزة وتطالب من خلال مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب. ليس هذا فحسب، بل أصبحت روسيا حليفاً استراتيجياً لإيران في الشرق الأوسط.
سابعاً: الصين: قبل اندلاع الحرب على غزة بأشهر قليلة، زعم نتنياهو أنه تلقى دعوة لزيارة بكين، وتلت ذلك تصريحات لمسؤول كبير في مكتب نتنياهو تشرح كيف أن "هذه الدعوة هي رسالة لبايدن مفادها أن إسرائيل لديها خيارات أخرى"، كرد على تجنب بايدن دعوة نتنياهو إلى البيت الأبيض، فماذا كانت النتيجة؟ لا نتنياهو زار الصين ولا بكين دعمت إسرائيل في الحرب على غزة.
حرب إسرائيل على غزة.. لإنقاذ نتنياهو
انطلاقاً من هذا المشهد المتمحور بالأساس حول نتنياهو ومحاولاته التشبث بالمنصب بأي ثمن، كان تحليل آخر لصحيفة هآرتس قد وصف العدوان على غزة بأنه "عملية إنقاذ المجند نتنياهو"، في توظيف لعنوان فيلم أمريكي شهير هو "إنقاذ المجند رايان" يحكي قصة حقيقية أثناء الحرب العالمية الثانية لمهمة البحث عن وإنقاذ مجند أمريكي يدعى رايان كان له إخوة مجندون قتلوا جميعاً.
فمنذ طوفان الأقصى ركز نتنياهو كل طاقته وآلته الإعلامية على محورين: الأول يتعلق بعدم تحمله أي مسؤولية عن الهزيمة التي لحقت بإسرائيل يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وتحميلها لقيادات جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية بشكل كامل. وكان نتنياهو قد نشر بالفعل تغريدة على حسابه في منصة إكس (تويتر سابقاً) بهذا المعنى، قبل أن يحذفها لاحقاً ويعتذر عنها.
أما المحور الثاني فهو يتعلق بتصوير نفسه وكأنه زعيم يخوض "حرباً مقدسة" ليست فقط دفاعاً عن الإسرائيليين، بل عن الحضارة الغربية بأكملها في مواجهة "الفاشية"، في إشارة لفصائل المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حركة حماس، وهو ما وصفه تقرير هآرتس بأنه "تلاعب بالعقول على مستوى قومي".
إذ يرفع نتنياهو شعارات "سنواصل الحرب حتى النهاية" و"لن نتوقف" و"سنقضي على حماس" و"سنحرر الأسرى"، وهي شعارات لا طائل من ورائها سوى تحقيق هدف واحد وهو استمرار الوضع الحالي "إنقاذاً لمستقبل نتنياهو السياسي وحريته الشخصية"، ففي اللحظة التي تتوقف فيها الحرب على غزة، ستبدأ لحظة الحساب العسير له.
لكن استمرار الحرب على غزة يمثل خطراً داهماً على إسرائيل نفسها وعلى تماسكها من جهة، وعلى صورتها التي شوهت بالفعل على المسرح العالمي بسبب جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة والمستوطنون في الضفة الغربية والقدس، وجميع هذه الجرائم باتت الآن تحت مرأى ومسمع من العالم أجمع، وكلما طال أمدها ازدادت الصورة قتامة. ومن هذا المنطلق، بات استمرار نتنياهو على رأس المشهد السياسي الخطر الأكبر على إسرائيل نفسها.