"عدد الأطفال والنساء الذين قتلتهم إسرائيل في حرب غزة خلال بضعة أسابيع ضعف من قُتلوا بأوكرانيا خلال عامين من القتال"، فرغم أن حربي غزة وأوكرانيا تدوران في الوقت ذاته، لكن شتان الفارق بينهما.
يقول الخبراء إن السكان يُقتلون في حرب غزة بسرعة أكبر حتى من اللحظات الأكثر دموية للهجمات التي قادتها الولايات المتحدة في العراق وسوريا وأفغانستان، والتي تعرضت هي نفسها لانتقادات واسعة النطاق من قِبل جماعات حقوق الإنسان.
فما هدف الجيش الإسرائيلي من هذه الوحشية، وهل هي عملية ممنهجة، وإذا كانت كذلك فما هي أهدافها؟
هذه الوحشية ليست نتاجاً للغضب من طوفان الأقصى أو وجود حكومة يمينية متطرفة
نشرت صحيفة The Guardian مقالاً للأستاذ الفخري في دراسات السلام لدى جامعة برادفورد، بول روجرز، وهو أيضاً زميل فخري في كلية القيادة والأركان للخدمات المشتركة (JSCSC)، يتحدث فيه عن السبب وراء استخدام إسرائيل القوة المفرطة في الحرب التي تشنها دولة الاحتلال ضد قطاع غزة.
يقول الكاتب إن إحدى الطرق لفهم هذا النهج تتمثل في أن يُعزى إلى الصدمة المستمرة جراء عملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مقترنةً بوجود الحكومة اليمينية المتطرفة التي تتضمن عناصر متطرفة، لكن هذه الطريقة تتجاهل عنصراً آخر: وهو عبارة عن نهج إسرائيلي محدد للحرب يُعرف باسم "استراتيجية الضاحية"، وهذا هو السبب أيضاً في أن "الهدنة" لم تكن ستدوم لوقت طويل على الإطلاق.
وقد وضع الكاتب أولاً تقييماً للوضع في غزة:
بعد هدنة استمرت لسبعة أيام توقفت خلالها الغارات الجوية، استؤنفت الحرب يوم الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول. في الأيام الثلاثة الأخيرة كان القصف كثيفاً، وتجاوزت حصيلة الشهداء الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 16000 شهيد، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، وتجاوز عدد الجرحى 41 ألف جريح، بلغ عدد الشهداء الأطفال 6500 طفل شهيد، من بينهم مئات الرضع والخدج.
60 % من مباني غزة دُمرت ورغم ذلك المقاومة الفلسطينية تزداد
كان الدمار المادي في غزة هائلاً: دُمر 60% من إجمالي الرصيد السكني في أراضي غزة (234 ألف منزل)، وقد دُمر 46 ألفاً منها تدميراً كاملاً. ربما قدمت الهدنة التي استمرت سبعة أيام راحة محدودة من الحصار الشامل، ولكن لا يزال هناك نقص شديد في الغذاء والمياه النظيفة والمستلزمات الطبية.
رغم الهجمات الإسرائيلية الهائلة، المدعومة بإمدادات قنابل وصواريخ ودعم استخباراتي غير محدود من الولايات المتحدة، تواصل حماس إطلاق الصواريخ. علاوة على ذلك تحتفظ بقدرة شبه عسكرية جوهرية من خلال 18 كتيبة في حالتها السليمة تماماً، من أصل 24 كتيبة شبه عسكرية نشطة، بما في ذلك 10 كتائب في جنوب غزة.
كذلك ربما يتزايد الدعم الفلسطيني لحماس في الضفة الغربية، حيث قتل المستوطنون المسلحون وقوات الاحتلال الإسرائيلية عشرات الفلسطينيين منذ بداية الحرب ضد غزة، وذلك بحسب روجرز.
إسرائيل عازمة على توسيع حرب غزة
يوضح الكاتب أن الحكومة الإسرائيلية عازمة تماماً على مواصلة الحرب وتسريع وتيرتها، رغم التحذير الصريح من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالحد من الخسائر، وتأكيد نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، على أن الولايات المتحدة لن تسمح تحت أي ظرف بـ"تهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية، أو حصار غزة، أو إعادة رسم حدود غزة".
ويرى الكاتب أن ذلك لن يعني الكثير، بالنظر إلى الموقف المتطرف الذي يتخذه مجلس الحرب الذي يقوده بنيامين نتنياهو، حيث يتمثل الهدف في تدمير حماس. ترتبط الكيفية التي ستحاول بها إسرائيل الوصول إلى مسعاها، بطريقة الحرب الإسرائيلية المحددة التي تطورت منذ عام 1948، من خلال استراتيجية الضاحية، التي يقال إنها نشأت في حرب 2006 ضد لبنان.
هذا الأسلوب الوحشي يعود لعقود، وثلث الضحايا في لبنان في حرب 2006 من الأطفال
ويعيد الكاتب إلى الأذهان ما حدث في هذه الحرب. في يوليو/تموز من ذلك العام، خاض الجيش الإسرائيلي حرباً برية وجوية شديدة في مواجهة رشقات صاروخية أطلقها مقاتلو حزب الله في جنوب لبنان، لم تنجح كلتا الحربين، وتكبدت القوات البرية الإسرائيلية خسائر فادحة، لكن أهمية الحرب تكمن في طبيعة الهجمات الجوية، وُجهت هذه الهجمات نحو مراكز قوة حزب الله في منطقة الضاحية الجنوبية في بيروت، بل واستهدفت أيضاً البنية التحتية الاقتصادية للبنان.
كان هذا هو التطبيق المتعمد لـ"القوة المفرطة"، مثل تدمير قرية بأكملها، إذا اعتُبرت مصدراً للنيران الصاروخية. أحد التوصيفات البيانية لنتائج الحرب أشار إلى أنه من بين "حوالي 1000 لبناني مدني قُتلوا، ثلثهم كانوا أطفال. سويت بلدات وقرى بالأرض، وشُلت جسور ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي ومنشآت المرافئ ومحطات توليد الكهرباء، أو دُمرت تماماً.
وسمي في 2006 تكتيك الضاحية
بعد عامين من الحرب نشر معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب دراسةً معنونة بـ"القوة المفرطة: مبدأ إسرائيل في الرد في ضوء حرب لبنان الثانية". كتب الدراسة العقيد في قوات الاحتياط الإسرائيلية غابي سيبوني، وروج لاستراتيجية الضاحية بوصفها طريقة للمضي قدماً في الرد على الهجمات شبه العسكرية.
كان قائد قوات الجيش الإسرائيلي في لبنان خلال الحرب، والذي أشرف على الاستراتيجية، هو الجنرال غادي آيزنكوت. وقد ترقى حتى وصل إلى منصب رئيس الأركان العامة في جيش الدفاع الإسرائيلي، وتقاعد في عام 2019، لكنه أُعيد في أكتوبر/تشرين الأول ليشغل منصب مستشار مجلس الحرب الذي يقوده نتنياهو.
الورقة البحثية التي كتبها سيبوني للمعهد أوضحت تماماً أن استراتيجية الضاحية تتجاوز هزيمة خصم في صراع قصير الأمد، وتتعلق بأن تحمل تأثيراً يدوم حقاً لوقت طويل. تعني القوة المفرطة ذلك وحسب، أن تمتد إلى تدمير الاقتصاد وحالة البنية التحتية مع العديد من الخسائر في صفوف المدنيين، بنيِّة تحقيق تأثير ردع مستدام.
الأمم المتحدة تؤكد أن الاستراتيجية الإسرائيلية مصممة لإذلال المدنيين
ويقول روجرز إن الاستراتيجية استُخدمت في غزة خلال الحروب الأربع السابقة منذ عام 2008، لا سيما في حرب 2018. في هذه الحروب الأربع قتل جيش الدفاع الإسرائيلي حوالي 5000 فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين، ولم يتكبد خسائر سوى 350 قتيلاً من جنوده وحوالي 30 مدنياً. في حرب 2014، تضررت محطة الكهرباء الرئيسية في غزة بسبب إحدى هجمات الجيش الإسرائيلي، وتأثر نصف سكان غزة البالغ عددهم آنذاك 1.8 مليون نسمة بنقص المياه، وافتقر مئات الآلاف إلى الكهرباء، وطفحت مياه الصرف الصحي غير المعالجة في الشوارع.
وحتى في وقت سابق، بعد حرب 2008/ 2009 في غزة، نشرت الأمم المتحدة تقرير تقصي حقائق، خلُص إلى أن الاستراتيجية الإسرائيلية كانت "مصممة لمعاقبة وإذلال وإرهاب سكان مدنيين".
والموقف الآن أسوأ بكثير، بعد حرب مستمرة منذ شهرين، وبينما يُنفذ الهجوم البري جنوب غزة، فلن يتوقف، بل يتفاقم في ظل عشرات الآلاف من أهل غزة الذين حاولوا أكثر من مرة باستماتة أن يعثروا على أماكن آمنة.
توقعات بفشل هذه الاستراتيجية
ويتمثل الهدف الفوري لإسرائيل، الذي قد يستغرق شهوراً لتحقيقه، في القضاء على حماس مع حبس الفلسطينيين في منطقة صغيرة جنوب غرب غزة، حيث يمكنهم السيطرة عليهم بسهولة. أما الهدف الأطول أمداً فيتمثل في أن توضح تماماً أن إسرائيل لن تتسامح مع أية مقاومة. وسوف تحتفظ قواتها المسلحة بقوة كافية للسيطرة على أي تمرد، مدعومةً بقدراتها النووية القوية، ولن تسمح لأي دولة إقليمية بأن تشكل تهديداً.
يقول الكاتب سوف تفشل، وسوف تنهض حماس إما بصورة مختلفة أو سوف تصير أقوى، إلا إذا عُثر على طريقة ما للبدء في المهمة الصعبة للغاية، المتمثلة في التقريب بين المجتمعات. وفي غضون ذلك تعد الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على فرض وقف إطلاق نار، ولكن ليس هناك إلا القليل من الإشارات التي تدل على ذلك، أو على الأقل حتى هذه اللحظة.